مينا العريبي
«الواقعية» في السياسة الخارجية الأميركية
كشف الرئيس الأميركي المقبل جو بايدن ملامح إدارته الجديدة بالإعلان عن ترشيحه لعدد من السياسيين المخضرمين لتولي مناصب رفيعة في حكومته.
وقد اختار بايدن أحد أهم مستشاريه، أنتوني بلينكن، لتولي حقيبة الخارجية، بينما اختار جيك ساليفان، مستشاره للأمن القومي خلال فترة توليه منصب نائب الرئيس في إدارة باراك أوباما، ليكون مستشاره للأمن القومي. وتثبيت الرجلين، بالإضافة إلى باقي أعضاء الحكومة الجديدة، سيتطلب مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي الذي لم يتم حسم وضعه بعد، إذ إنَّ المنافسة في ولاية جورجيا كانت شديدة إلى درجة لم يتم حسم سباق عضو مجلس الشيوخ فيها وسيتم إعادة السباق فيها في يناير (كانون الثاني). في حال استطاع الجمهوريون إبقاء سيطرتهم على المجلس، بأغلبية ضئيلة، من الممكن أن تتم عرقلة بعض الترشيحات الخاصة بالرئيس الجديد. التقليد الأميركي كان في السابق أن اختيار الرئيس لعناصر حكومته يتم احترامه، إلا في حال ظهرت فضيحة معينة متعلقة بمرشح ما. ولكن فترة رئاسة دونالد ترمب والانقسام الحاد في البلاد أنهيا الكثير من الأعراف السابقة، ولم يعد من المؤكد كيف سيتصرف الجمهوريون مستقبلاً. لقد تغيرت واشنطن وتغيرت قواعد اللعبة السياسية.
كما أن المتعارف عليه سابقاً أن يقبل المرشح الخاسر بنتيجة الانتخابات ويهنئ الفائز لحماية العملية السياسية وإبقاء الاستمرارية فيها. ولكن بعد ثلاثة أسابيع من إجراء الانتخابات، لم يفعل الرئيس دونالد ترمب ذلك بعد، ويرفض تهنئة بايدن الذي حصل على 306 أصوات من أصوات المجمع الانتخابي، بينما حصل ترمب على 232، مما يجعل من المستحيل حصوله على الأصوات الـ270 المطلوبة للفوز بولاية رئاسية جديدة. ولكن وافق ترمب أخيراً على السماح لموظفي الدوائر الأساسية في الحكومة الأميركية بالبدء في عملية نقل السلطة من الإدارة الحالية للإدارة الجديدة. وهذه الخطوة من شأنها أن تساعد واشنطن على ترتيب الانتقال إلى إدارة بايدن، الذي من المتوقع أن يتم التصويت رسمياً على رئاسته يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) من قبل المجمع الانتخابي، ومن المتوقع أن يؤدي بايدن اليمين الدستورية يوم 20 يناير المقبل، وحينها يبدأ عهد الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة.
من الممكن التكهن حول ما سيحمله هذا العهد في البداية، بناء على مواقف بايدن ورفاقه السابقة، بالإضافة إلى وعوده الانتخابية التي تشمل مراجعة لقانون الضرائب لإنعاش الاقتصاد، والعمل على تهدئة الأوضاع الداخلية ورأب الصدع في المجتمع الأميركي. ولكن هناك وقائع على بايدن التعامل معها، قد تجبره بألا يكون مختلفاً تماماً عن سلفه. ففي الواقع، (كوفيد - 19) يفرض واقعاً معيناً على الولايات المتحدة، كما يفرضه الصعود الصيني والتقلبات الدولية. وبينما هناك اختلافات واضحة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتوجهات ترمب وبايدن، إلا أن هناك وعياً دولياً بأن أهداف الولايات المتحدة لن تختلف كثيراً مع الرئيس الجديد.
وفي مقابلة أجريتها مع وزير الخارجية الأميركي الحالي مايك بومبيو هذا الأسبوع، نشرت في صحيفة «ذا ناشونال»، قال لي إنَّ إدارة ترمب تؤمن بـ«سياسة الواقع»، وإن السياسات الخارجية مبنية على المصالح الأميركية والتي هي في النهاية «حماية الشعب الأميركي». ولا يختلف شخصان على ذلك المبدأ، ولكن الخلاف هو على كيفية حماية الشعب الأميركي. وأما سياسة الواقع، ففي كثير من الأحيان القوى الكبرى في العالم هي التي تخلق الواقع وتقرره.
من اللافت أن وزير الخارجية الألماني هيكو ماس قال خلال مداخلته في «منتدى برلين للشؤون الخارجية» الذي انعقد أمس الثلاثاء 24 نوفمبر (تشرين الثاني): «رغم أن الوضع خلال رئاسة بايدن سيكون أفضل، ولكن أولويات الولايات المتحدة لن تتغير كثيراً عما هي عليه اليوم... الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه».
وهذا التفكير يتماشى مع الكثير من المسؤولين حول العالم، إذ إن عام 2021 سيكون مختلفاً تماماً عن عام 2017 عندما خرج الديمقراطيون من الحكم. فالواقع تغير والخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة، بما في ذلك قراراتها فيما يخص التجارة الدولية، لن يتغير مع تغيير الإدارة الأميركية.
وأوضح ماس أن الأوروبيين يؤمنون بالعمل الجماعي على الصعيد الدولي، ولكن أساليب الرئيس ترمب تمثل توجه «دولتي أولا». فهل سيكون باستطاعة بايدن أن يبتعد عن شعار «أميركا أولا»؟ من الصعب ذلك، ولكنه قد يحاول إقناع الأميركيين أن «أميركا أولا» تحتاج إلى عالم مستقر وتعاون دولي فعال.
وبلنكين من المؤمنين بالعمل الجماعي في القضايا المعقدة، من بينها كيفية معالجة وباء (كوفيد - 19) وتوزيع اللقاح المضاد له، بالإضافة إلى حل الأزمة حول الملف النووي الإيراني. قوة بلنكين أنه مقرب من بايدن فعلاً، وعمل معه لعقدين من الزمن - فعندما يلتقي بزعيم أو وزير خارجي، سيعلم الكل أنه يمثل الرئيس ومقرب منه.
وقد عبر بلنكين في مايو (أيار) الماضي عن ندمه حول ما دار في سوريا وعدد الضحايا من الحرب فيها. ربما هذا الندم سيدفعه لإعادة النظر في بعض السياسات الأميركية، خاصة أنه سيتولى منصبه عقب انسحاب غالبية القوات الأميركية من أفغانستان والعراق. هناك ترقب كبير في بغداد وكابل، والدول المجاورة لهما، حول التوجه الأميركي فيما يخص البلدين.
سيكون على بايدن، والمسؤولين في إدارته، أن يقنعوا حلفاءهم وخصومهم على حد سواء، أنهم ملتزمون بالمعاهدات التي يوقعونها والعهود الذي يقطعونها. فتراجع الرئيس السابق باراك أوباما عن أخذ إجراء بحق النظام السوري بعد استخدامه للسلاح الكيماوي، وخرق «الخط الأحمر» عام 2013، وانسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من معاهدة باريس لمكافحة التغيير المناخي، نموذجان بارزان لتراجع الولايات المتحدة عن مواقفها. الضرر الذي لحق بصورة أميركا كقوة عظمى لم يبدأ مع إدارة ترمب، بل في عهد أوباما والذي عمل الكثير من مسؤولي بايدن في إدارته. فكيف سنذكر إدارة بايدن بعد انتهائها؟
893 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع