وفيق السامرائي
من علامات السوء أن تتبدل الأدوار أو تتسع في مدار الاتهام بالطائفية بين سياسيي العراق الحديث، رغم أن التفسير المنطقي يفرض حالة صحية مستجدة تستند إلى غياب الشعور بالاستفزاز من طرف دون آخر. ففي السابق، كان الاتهام بالطائفية موجها إلى بعض سياسيي شيعة العراق خارج السلطة قبل حرب 2003، وضمن هياكل السلطة بعد الحرب.
أما الآن، فقد ارتكب «سياسيون» من سُنة عرب العراق خطأ الانزلاق عن موقع الترفع عن الطائفية - ترفعا حقيقيا كان أم زائفا مغطى بسلطة الحكم سابقا - إلى قعر التوصيف الطائفي، بهجوم علني لم يستثنِ أحدا من شركاء الوطن، إلا في سياق استدراك ضعيف التبرير، وهو ما كان مفترضا تفاديه طالما بقي قدر من التعايش قائما.
وإذا لم يكن الوطن مقدسا مقابل مشكلات ظرفية تتغير مع مرور الوقت المصحوب بالإيمان بمعطيات القيم التي تصل إلى صفة التقديس، فإن الأنانية الفردية - حتى إذا كانت بصفة الجمع المجزأ - تدل على انزلاق عن سمو المواقف المبدئية، فمن يكشف عدم علاقته بمصير جزء من شريحة ينتمي إليها، يفقد شرعية التحدث عن هوية تلك الشريحة وكيانها، حتى لو جرى تغليف الحالة بغلاف «الحرص على الدين»، وحتى لو فهم أن ضفتي النهر الواحد حالتان غريبتان عن بعضهما لا العكس.
الاضطراب في موقف سياسيي سُنة عرب العراق لم يعد يتوقف عند حدود معينة، فمنهم من يتحدث عن إقليم في المحافظات الست، عادا ضمنها العاصمة بغداد وكركوك المختلف عليها مع الكرد وديالى بكل تعقيداتها الشائكة، وهو ادعاء ينم عن تبسيط أو جهل أو تغطية مهلهلة لمشروع يؤدي إلى شرذمة المواقف الموحدة للشريحة المعنية التي يمكنها الإسهام في توحيد العراق، وإعادة ردم فجوة الاختلافات التي ابتلي بها العراق جراء سياسة بعض السياسيين، ونهج بعض رجال الدين من الطرفين، ممن لا يقدرون انعكاسات تطور الاختلافات وتحويلها إلى مسألة تعطى صفة عقائدية.
ومن الواقع المر أن معظم دعاة الإقليم لا يدركون حجم المخاطر التدميرية في ظروف تصادم تآمري تشهده المنطقة، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات وشخصيات معروفة تذهب إلى حد تجريم وتخوين أصحاب مشروع الأقاليم الطائفية، التي لا تستند إلى التفسير الآخر لمطالب الأقاليم أو الإدارة اللامركزية، وتبقى للحالة الكردية خصوصيات موضوعية لم تعد موضع نقاش. وقد ظهر هذا الاتجاه المضاد نتيجة الهجوم مما يوصف بأنهم أقلية سياسية تتحكم في مشاعر الناس وفق اعتبارات معلومة، غير أن الشعب قادر في النتيجة على فرز المواقف وبلورتها بهدوء وصبر وتأنٍ، وكلما ترجلت القوى الحريصة على التفاهم والوحدة عن ظهور ما هي عليه، يمكن تجنيب العراق مشكلات العنف و«التآمر».
الذين يتحدثون عن الحرب يخرقون أسس العلاقات الوطنية، فضلا عن جهلهم بالقدر الأدنى من الفهم الاستراتيجي للحرب، وهو ما لا نرى له وجودا، فمعظم الجنرالات السابقين معارضون لهذا التوجه عندما تتاح لهم فرص التعبير، أما الشباب المتحمس فلم يخُض معاناة الحروب التي سببت كل هذا الدمار المادي والمعنوي والمجتمعي. ثم إن الحرب مع من؟ إنها بين أبناء العشيرة الواحدة والمدينة الواحدة والأمة الواحدة، وهو ما يجسد صورة «المؤامرة السوداء».
غير أن الوقوف إلى جانب مبدأ التفاهم والتعاون والوحدة لا يعني تجاهل أو إغفال حقوق المواطنة؛ فحتى المجرمون لا بد أن يجري التعامل معهم وفق مقاييس الوطن وأخلاقياته الإنسانية، من دون الحاجة إلى البحث عن معايير أخرى. ويبقى تكثيف التواصل العشائري ضروريا في معالجة ما يفسده راكبو الموجات الظرفية من أي لون كانوا، فهؤلاء في المحصلة طارئون عابرون سرعان ما تعبرهم صفحات الأحداث، فالعراق أكبر منهم جميعا.
وبحكم رؤية الاختصاص العام عسكريا، والخاص كما تعرفه الأجهزة الخاصة، فإن منطقة الشرق الأوسط لا تتحمل اتساعا للحرب الجارية على الساحة السورية، فالذين ذاقوا مراراتها قبل ثلاثة عقود، أو شهدوها من مواقع الرصد والمتابعة الإقليمية، مدعوون اليوم إلى المساعدة في عدم التدخل في حالة قد لا يدركها جيل شباب المختصين كما ينبغي، فحروب العراق تختلف عن غيرها، ولا خيار غير الجنوح إلى العقل ومنطق الإصلاح، والعراق باق والسياسيون راحلون، ولا مجال للتصعيد من أي طرف من أطراف اللعبة.
892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع