هارون محمد
هادي خماس.. قامة لم تنكسر
هو رجل ظُلم كثيراً، وأمضى أكثر من نصف عمره، بعيداً عن طعم الراحة، ضربته عواصف الغضب السلطوي، وأثخنته جراحاً في روحه، وعنما هدأت قليلاً، هاجمت الأمراض جسده، وقد كابر على الاخيرة، لكن جراح الروح، ظلت تنز ألماً، وبرغم ذلك ظل الضابط الثائر، والسياسي الثابت، هادي خماس، قابضاً على مبادئه القومية، متشبثاً بحلم الوحدة العربية، لم يهادن، ولم يضعف، أما التراجع، فلا وجود له في قاموسه.
وميزة هادي خماس، لمن يعرفه أو عاصره، في الجيش، أو العمل السياسي صدقه وصراحته، وهو من النوع الذي لا يضم في صدره، ويقول رأيه، حتى لو عرف مُسّبقاً، انه سيؤذيه، أو يُلحق ضرراً به، ومؤمن تماماً، بقول عمنا المتنبي : (الرأي قبل شجاعة الشجعان)، والمدهش في سيرة أبي ميسلون، أنه شجاع أيضاً، خاض معاركه بلا توجس، أو تردد، ولا تهمه النتيجة، فاذا ربحها، وهي تكاد تكون نادرة، فهو قانع بها، أما اذا خسرها، وهي الحالة الاعم التي رافقته، فيعدها خسارة بشرف.
تعرفت عليه
تعرفت عليه لاول مرة، في تموز 1965 بمنزل المهندس شاكر السعدي، مدير الاسكان العام، رحمه الله، وهو من القيادات القومية، دعانا الى بيته لمناسبة اجتماعية، وأقبل هادي خماس، المدعو أيضاً، في زي مدني، أضفى عليه، وسامة مفرطة، وأناقة باذخة، حتى يخيل لمن لا يعرفه، انه نجم سينمائي، عاد تواً، من تمثيل دوره في فلم رومانسي، برغم أنه كان يواجه في تلك المرحلة، مشكلات في وظيفته، كمدير للاستخبارات العسكرية، على خلفية خلاف مع الرئيس الراحل عبدالسلام عارف، الذي طلب منه نقل معاونه المقدم فاروق صبري، الى خارج بغداد، وامتنع عن تنفيذ أمر رئيس الجمهورية، وعدّه تدخلاً في شؤون دائرته، وتجاوزاً على صلاحياته.
وهب المدعوون يرحبون به، ويهنئونه على ترفيعه، وعرفت انه صار (عقيد ركن)، واشتد الجدل بين الحاضرين، وارتفعت حدة النقاش، حول ذلك الخلاف، وكان قد انتشر في الاوساط القومية، وشكل بداية لأزمة حادة بين الكتلة القومية، والرئيس الراحل، كرستها استقالة عبدالكريم فرحان من وزارة الارشاد، وتبعتها استقالات الوزراء، صبحي عبدالحميد، وفؤاد الركابي، وأديب الجادر، وعبدالستار علي الحسين، وعزيز الحافظ، وقد أحدثت تلك الازمة، تصدعات في المعسكر القومي، ليس هنا مجال البحث في تداعياتها، وأدت الى استقالة حكومة طاهر يحيي، وتكليف العميد الطيارعارف عبدالرزاق، في الثالث من أيلول 1965 بتشكيل حكومة جديدة لم تستمر، غير أيام قليلة.
في تلك الدعوة، أتذكرهادي خماس، وقد احتّد، واحمر وجهه انفعالاً، على رفيقي الحركي، نجم هادي الجبوري، الذي هجر مهنته في المقاولات لاحقاً، والتحق بالعمل الفلسطيني الفدائي، عقب نكسة حزيران 1967 واستشهد في الاردن، رحمه الله، لان الاخير، حاجج العقيد الركن، بان من حق رئيس الجمهورية، وهو القائد العام للقوات المسلحة، نقل ضابط أو استقدام آخر، وكنت شخصياً، أؤيد من جانبي، هذا الرأي، فقد كنا نحن الاثنين، شباباً في العشرينيات من عمرنا، نفور حيوية، ونتفجر حماسة، في محبة الرئيس عبدالسلام، وتثمين أدواره التاريخية، منذ ثورة 14 تموز 1958 ورّد هادي، على رفيقي، بان من حق رئيس الجمهورية، أن يتدخل في أي شأن رسمي، وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة، وانتهى السجال، الى هذا الحد.
امتنع التضامن
وعند خروجنا، لكزني رفيقي الجبوري، متسائلاً عن سبب امتناعي، عن التضامن معه، في جدله مع السيد العقيد، فقلت له ضاحكاً : خفت منه، ونظر في وجهي مستغرباً، وقال : (شنو انت جندي عنده) ؟ فقلت له، ليس خوفاً شخصياً منه، ولكن احتراماً له، وهو أكبر منا عمراً، وأكثر عطاء، وكنا وهذه حقيقة في التيار القومي، وربما في الاحزاب الاخرى، في ذلك الزمن الجميل، نتمسك بقيم التقدير والمودة، لمن سبقنا في العمل السياسي، قد نختلف معه، في الرأي والرؤى، ولكن التجاوز مرفوض، والتجريح محظور. وقد التقيت هادي خماس مرة أخرى مصادفة، في نهاية العام 1967 ووجدته حزيناً، وفي أشد حالات السخط، على ما جري في نكسة حزيران من العام نفسه، ولكنه كان يرفض بشدة، توجيه انتقادات، دأب بعض القوميين، ممن مالوا يساراً، في تلك الحقبة، الى الرئيس جمال عبدالناصر، مُحملينه مسؤولية ما حدث، فقد ظل ناصرياً لا يتزحزح، مؤمناً بقيادته، وحتمية انتصاره.
ومن تابع أحوال هادي خماس، عقب حركة 17 تموز 1968لا بد ولاحظ انها مُحزنة ومريرة، وفيها جوانب من الظلم والتعسف لا يستحقهما، فقد اعتقل في نهاية أيلول 1968واطلق سراحه بعد خمسة شهور، ودوهم منزله، في الثالث والعشرين من تموز 1969لغرض اعتقاله ثانية، ولكنه تمكن من الافلات من مطارديه، في حين أجبر رفاقه، في حزب الوحدة الاشتراكي، صبحي عبدالحميد وعارف عبدالرزاق وعرفان عبدالقادر وآخرون، على اللجوء الى القاهرة، واعتقل خالد على الصالح وشقيقه فالح، والدكتور راجي عباس التكريتي، والمهندس شاكر السعدي، ونصرة عبدالستار البياتي، وكوادر متقدمة في حزبه، الذي كان شبه مُجمّد، كما الحركات القومية الاخرى، بفعل الضربات الامنية المتلاحقة، وحملات الاعتقال المتواصلة، ولكن المشكلة، أن سلطة حزب البعث، لا تصــــدق ولا تقتنع.
في نهاية تموز 1970 تردد ان الرئيس أحمد حسن البكر، أمر بوقف الملاحقة الأمنية ضده، وبعث برسالة (أمان) اليه، واستقبله مع العميد محمد مجيد، معاون رئيس أركان الجيش الأسبق، والعميد نهاد فخري، وخيرّهم بين التعاون مع الحكم، أو مغادرة العراق، فاختاروا التوجه الى القاهرة لاجئين، والمفارقة أن الاخير، عاد الى بغداد، بعد مدة، وعين وزير نقل.
وفاة عبد الناصر
وبعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، في أيلول 1970 ضاقت القاهرة على اتساعها بهادي ورفاقه هناك، وبدأ حنينه الى بغداد، جارفاً ويتسع يوماً بعد يوم، وقال لي المرحوم صبحي عبدالحميد، بعد سنوات، انه لاحظ ان صحة صديقه الاثير، لم تكن على ما يرام، وبدا شاحباً، والأسى يلفه على الدوام، وفي تلك الايام الكئيبة، وصل الى العاصمة المصرية، الدكتور عزة مصطفى، عضو مجلس قيادة الثورة، ووزيرالصحة، حاملاً رسالة من الرئيس البكر، الى اللاجئين القوميين فيها، يدعوهم الى العودة للعراق، مع ضمان سلامتهم، وكان هادي خماس، أول المستجيبين، ولم يستمع الى تحذيرات رفاقه، الذين كانوا يخشون عليه. ولم يمض على عودته الى بغداد، غير فترة قصيرة، حتى جاءه زوار الفجر، واقتادوه الى قصر النهاية، وتعرض الى تعذيب جسدي ونفسي غير مسوغ، برغم ان المحققين كانت لديهم الادلة بما يكفي، بانه قد اعتزل العمل الحزبي المعارض، ولم يعد له نشاط سياسي مناهض، وبهذا الصدد، قيل ان الرئيس البكر، تذكر هادي خماس، وكان عارفاً بعودته، واستفسر عن وضعه، فجاءه الخبر، بأنه معتقل، عند ناظم كزار، فأمر بالافراج عنه، وشاع في حينه، بانه قال: أو هكذا نُقل عنه، (ليش ما يجي ناظم ويقعد بمكاني) ؟. هادي خماس.. رحمك الله، فقد عانيت كثيراً، وعشت وسط الاوجاع زمناً طويلاً، وواجهت المتاعب والمضايقات، ولم تحن هامتك أمام الملمات، وبقيت ذلك الرجل، الذي لم يغادره التفاؤل في أحلك الأوقات، وأشد الازمات، اهنأ بالسكينة الى جوار ربك، مُلتحقاً برفاقك، الذين سبقوك، وأحببتهم وأحبوك.
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع