بقلم: صفوة فاهم كامل
ستبقى ملوية سامراء ... أيقونة العراق الأجمل
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين فيديو يظهر فيها شخص مكفهرّ الوجه بلا شارب، ذو سحنة سمراء نتنة، وخلفه تظهر مئذنة سامراء، يدّعي عدم صعوده للملوية (لأنها بُنيت على أجساد الشيعة أو أجساد الفاطميّين أو الناس التي تتبع أهل البيت عليهم السلام) ويطلب (من الأخوة ممن لديه معلومات أو بحث خاص عن ملوية سامراء وكذلك رأي العلماء، عالم عالم. ويقول أيضاً (أن المرجع الديني محمد صادق الصدر، لم يجوّز الصعود على هذه الملوية).
هنا نتساءل ويتساءل الجميع: لمن هذا الفيديو موجّه في حقيقته، وما المغزى من نشره في هذا الوقت، ومن هو هذا الشخص المتحدث وما هي ثقافته وتاريخه؟
كل دولة من دول العالم لديها معْلماً كبيراً ورمزاً مهماً تفتخر به ويفتخر به مواطنيها أمام دول العالم ويحرص السائحين من كل مكان على زيارة ذلك الرمز والتقاط الصور التذكارية بجانبه، فهذه أمريكا وتمثال الحرية، وفرنسا وبرجها الشهير، وبريطانيا وساعتها الأقدم، والصين وسورها العظيم، ومصر وأهراماتها الأعجوبة، والأمارات وبرجها الأعلى في العالم وغيرها من المعالم المهمة في أنحاء المعمورة.
في العراق هناك من الصروح المعمارية والرموز التاريخية من شماله وجنوبه أضعاف ما موجود في كل دولة من دول العالم بعضها أكلها الدهر واندثرت خلال حقب تاريخية متعاقبة، وبعضها لا زال شامخاً أمام الأجيال وعصيّاً أما الغوغاء والغرباء. أبرز تلك الصروح مئذنة ملوية سامراء التي ترتفع 52م عن الأرض، وجامعها التي بناه الخليفة العباسي (المتوكل بالله) في عاصمته (سُرَّ من رأى) سنة 245هـ.
تعرّضت مدينة سامراء سنة 656هـ للغزو المغولي أعقبها غزو صفوي، مثلها مثل مدينة بغداد عاصمة الرشيد، دُمرت فيه أغلب مبانيها وأسوارها، إلا أن مأذنتها العريقة وجامعها الأكبر في العالم تاريخياً ظلّت شامخة طوال هذه السنين وحتى يومنا الحالي. يزور هذا الصرح الكبير ألاف الزوار سنوياً وتستقطبهم ليتسلقوا أدراجها الـ 399 درجة حتى أعلى نقطة فيها وفي تلك الرحلة يشعر الزائر بمتعة خلّابة وهو يلف الملوية عكس عقارب الساعة في رحلة محفوفة بالخطورة نسبياً ومنهم كاتب هذه السطور حين ارتقاها أخر مرة عام 1999. فهذا المعلم الغريب مئذنة سامراء أو ملوية سامراء كما تعرف وأكثر شيوعاً بين الناس، هي أغرب مئذنة جامع بين كل جوامع المسلمين المنتشرة في العالم.
خلال السنوات القليلة الماضية ظهرت علينا بعض الأصوات النشاز من شذّاذ الآفاق ومن ذوي النزعات الغوغائية المتخلفة والعقول المريضة، مدعومة من أشباه رجال الدين تُحرّض على التفرقة والهدم وتلفظ أفكارها المسمومة بين فرقها البالية، وتشجّع على هدم وإلغاء كل صرح تاريخي وإرث عريق تناقلته الأجيال من الدولة العباسية العظيمة وعصرها الذهبي وحكامها المنحدرين من سلالة الرسول الأعظم محمد ﷺ. ويستند كل هؤلاء الغرباء في حججهم على خرافات وطلاسم وكُتب موهومة وتاريخ مزوّر لا حقيقة فيه ولا وثيقة مؤكّدة، فالجاهل أعمى هو يرى ويسمع، لكنه فاقد البصر والبصيرة والحس.
في عام 2007، استبشر أهالي مدينة سامراء بقرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) اعتبار مدينتهم مدينة تراث عالمي مهددة بالخطر. مما يرتب على هذه المنظمة الدولية مسؤولية الحفاظ بكل الوسائل على الأبنية والمواقع الأثرية التي أصبحت عرضة للنهب دون أن تصلها يد الحماية والاهتمام، وجعلها مشمولة برعاية كاملة ويؤهلها للحصول على الدعم المالي الدولي من صيانة وإعادة ترميم كغيرها من المدن التاريخية.
بعد عام 2003، تعرضت هذه المدينة التاريخية للكثير من الإهمال وفي نفس الوقت تعرّضت للإساءة المتعمّدة والمقصودة وبلغ أشدّه حين رُفعت رايات الحشد الشعبي في أعلى قمة الملوية كما أُزرت المئذنة بقماش أسود يمتد من أسفلها إلى أعلاها، واعتبر هذا السلوك في حينها سلوكا طائفياً، وإهانة لأهالي المدينة الأصليين، كما هو إهانة للصرح نفسه. وفي عام 2016 تعرضت المئذنة أيضاً إلى تشوًهات من خلال كتابات ورسومات نُقشت على جدرانها والعبث بهيكلها.
لذلك آن الأوان للحكومة العراقية-إن كانت جادة فعلاً-أن تأخذ زمام المبادرة ولو بالقوة للحفاظ على أهم معلم تاريخي حي في العراق ورمز أصيل لكل عراقي وطني وكونه معلماً سياحياً يمكنه في المستقبل أن يدر الأموال الطائلة لخزينته ورافد اقتصادي أخر للدولة، مع بقية المواقع التاريخية سيما أن العراق يتربع على أندر وأقدس وأعرق المناطق الدينية والأثرية والطبيعية دون الاستفادة منها، والعمل بالقول المأثور (السياحة نهر من ذهب) مع محاربة الفتاوي الصادرة من الجهلاء والدجالين وأصحاب الأفكار الهدّامة والمدعومة من خارج الوطن.
كما أن المسؤولية المباشرة والأهم تقع على عاتق شيوخ ووجهاء وأهالي سامراء أنفسهم في الوقوف في وجه هؤلاء السذّج ومنع وصول هذا الزحف غير الحضاري وهذه الأفكار لعاصمة الخلافة العباسية، لا سيما وأن الحديث يدور في هذه الأيام على مشروع قانون سامي في أروقة مجلس النواب يعتبر سامراء عاصمة الثقافة الإسلامية، الذي بالتأكيد سيقدم مدينة سامراء للعالم بوجها التاريخي والحضاري والحقيقي، يتباها به كل مواطن عراقي غيور.
1069 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع