د. محمد عياش الكبيسي
ربما تفاجأ كثير من المراقبين بجرأة حزب الله على تجاوز الحد الفاصل بين لبنان وسوريا ليزج بمقاتليه في معركة القصير في عمق الأراضي السورية، متجاوزا بهذا كل المفاهيم والأعراف السياسية والدولية وحتى الأخلاقية.
لقد أوجد حزب الله بسلوكه هذا وضعا شاذّا في المنطقة لا يمكن استيعابه، فحزب الله هو كيان سياسي مسلح داخل دولة اسمها لبنان، وهو مشارك بقوة في الهيكل السياسي لهذه الدولة، فيخوض الانتخابات ويشكل الوزارات شأنه شأن كل الأحزاب اللبنانية المعروفة، إلا أنه يتصرف في الكثير من الأحيان بطريقة استثنائية فهو لا يتورع عن استخدام ميليشياته لمعاقبة خصومه السياسيين أو ابتزازهم، كما أنه لا يتورع من الزج بالدولة اللبنانية بحرب غير متكافئة مع إسرائيل.
إن هذا الوضع الشاذ لحزب الله داخل الجسد اللبناني قد انتقل اليوم نقلة في غاية الخطورة، فلبنان في نظر حزب الله لم يعد دولة لها دستور وعلم ونظام وجيش ومؤسسات بل هي أرض أو غابة مملوكة لهذا الحزب ولا يحتاج في كل تصرفاته داخليا وخارجيا إلى استئذان أو مراعاة للقوانين التي أسهم الحزب نفسه في كتابتها أو إقرارها عبر ممثليه في البرلمان!
حقيقة إن حزب الله لم ينتهك السيادة السورية بقدر انتهاكه للسيادة اللبنانية، وهذا مؤشّر خطير على بداية انهيار لمفهوم الدولة الحديثة في المنطقة وقواعد السلوك الدولي المعروفة، فالحزب لم يزج بمقاتليه تسللا ولواذا بل بقرار رسمي ومعلن من رأس الهرم في الحزب، والناس يتساءلون أين الحكومة اللبنانية؟ وأين جيشها وحرس حدودها؟ أين الدستور والقانون والقضاء والادعاء العام؟ وماذا بقي من هيبة الدولة إذا كان الحزب هو من يقرر الحرب والسلم والتفاوض في الوقت الذي يشاء والظرف الذي يشاء؟
ربما يحسن التذكير هنا بحالة مشابهة سابقة؛ حيث قامت عصابات الحوثي بإعلان الحرب من الأراضي اليمنية على المملكة العربية السعودية، ودارت حرب ضروس بين الطرفين، ولم تخضع عصابات الحوثي لأية مساءلة قانونية من الدولة اليمنية وإلى اليوم!
وعلى الحدود الشرقية لسوريا يقوم الشيعة العراقيون بتشييع ضحاياهم المشاركين في الحرب «المقدسة» ضد الشعب السوري! ويتخذ التشييع في العادة طابعا رسميا معززا بمظاهر السلاح والقوة والتغطية الإعلامية الكاملة! وحكومة المالكي لا ترى حاجة في استئذان السلطة التشريعية ولا شركاء الوطن من المكونات الأخرى ولا حتى شركاء العملية السياسية!
إننا إذاً أمام ظاهرة جديدة وخطيرة وغريبة عن كل المعايير والمقاييس المتعارف عليها سياسيا وقانونيا وأخلاقيا.
لقد كان السياسيون والمثقفون العرب يغضون الطرف حينما يحجون إلى حسن نصر الله وهم يشاهدون حول مقراته وفي الدوارات القريبة والطرق العامة صورا للقادة الإيرانيين كالخميني والخامنئي، هذه الصور نفسها هي التي يرفعها المتظاهرون في البحرين، ويعلقها العراقيون اليوم في محافظاتنا الجنوبية! وقد كان بعضهم يظن أن هذا لا يمس الانتماء الوطني بل هو مجرد تعبير عن الإعجاب بالنماذج الروحية أو الثورية كما كان السوريون أنفسهم يعلقون صور حسن نصر الله، أو كما يعلق بعض الشباب الفلسطيني صورا لجيفارا.
لكن هذا التفسير المبسّط قد أضر بمستوى الوعي المطلوب لدى الشارع العربي والإسلامي، وأضعف القدرة على التنبؤ بسلوكيات الهلال الطائفي وخلاياه المتقدمة والكامنة في جسد الأمة، وربما لم يكن هذا التفسير بريئا ونزيها، حيث كانت بعض الأطراف تغض الطرف عن عمد لقاء بعض المساعدات التي تقدمها إيران لهم تحت أسماء ومسميات مختلفة ومتعددة.
إن الطرف الآخر قد تجاوز مبكرا مثل هذه التفسيرات أو التبريرات، وبدأ يتصرف خارج نطاق أعرافنا وحدودنا وتصوراتنا السياسية والثقافية، ولنأخذ هذه النماذج العملية:
في حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، كان قادة الشيعة العراقيين المقيمين في إيران يشاركون في القتال إلى جانب القوات الإيرانية وهناك صور موثقة ينشرها هؤلاء القادة أنفسهم لتعزيز مكانتهم القيادية في الأوساط الشيعية، وقد كان بعضهم يمارس التحقيق وربما التعذيب للأسرى العراقيين! لكنهم يتبؤون اليوم مقاعد متقدمة في حاضنتهم الاجتماعية!
في العراق أيضا، لا يرى الشيعة بأسا في أن يكون مرجعهم الأعلى في كل القضايا المصيرية رجلا إيرانيا لا يملك الجنسية العراقية! وقد فاجأ الجميع برفضه الجنسية العراقية بعد أن عرضها عليه البرلمان العراقي، نعم إنه يرفض الجنسية العراقية لكنه لا يرفض التدخل في سياسات العراق ورسم خارطة العملية السياسية والأسس الموجهة للنظام العراقي الحالي!
في البحرين تعرض قناة الاتحاد بشكل مكثف ومتكرر لوثائق مصورة عن لقاءات بين قادة المعارضة مع أركان النظام الإيراني يحرضونهم فيها على التدخل المفتوح والمباشر في الشأن البحريني ولتغيير النظام فيه، مع أن القادة الإيرانيين لا يتورعون في مناسبة أو غير مناسبة من التلويح بإيرانية البحرين وأنها جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية!
في لبنان يتم عزل المرجع الأعلى لشيعة لبنان محمد حسين فضل الله وهو شخصية لبنانية وعربية معروفة ليتم ربط الشيعة هناك بالولي الفقيه في إيران وبشكل مباشر، وهذا ما أعلنه حسن نصر الله في أكثر من مناسبة! ومن دون أن يحدث هذا القرار أية ردة فعل لا على المستوى اللبناني ولا المستوى العربي!
في مقابل هذا السلوك الطائفي العابر للحدود ثقافيا وسياسيا وعسكريا يقف أهل السنّة ملتزمين إلى حد الورع بالحدود الوطنية والتشبث بسايكس بيكو بطريقة أشد مما تقتضيه بنود هذه المعاهدة التجزيئية والتقسيمية نفسها.
أستمع لبعض الخطباء السنّة في العراق وهم يحلفون بالأيمان المغلظة أنهم ليس لهم علاقة بالسعودية ولا بقطر ولا بمصر ولا بتركيا ولا بكل مخلوق على وجه الأرض! بل إنهم يتحرجون من عقد لقاء أو مؤتمر في أي مكان خارج العراق لكيلا يتهموا بالتهاون في ولائهم الوطني الذي غدا في الثقافة السنّية مقدما على كل ولاء.
والسنّة في البلدان الأخرى ليسوا بأفضل حال من سنّة العراق، فالتونسيون يستقبلون ممثلين عن حزب الله رغم جرائم الحزب في سوريا، والمصريون يستقبلون أحمدي نجاد ونوري المالكي، والفلسطينيون لا يترددون في زيارة إيران والمساهمة في احتفالات الثورة، والإندونيسيون يبعثون بالمئات من طلابهم للتزود بالشهادات العليا من الجامعات الإيرانية وبتكلفة مدفوعة الثمن من النظام الإيراني!
إن كل هذه المعطيات تعني أن مشروع الإمبراطورية الفارسية التاريخية قد بدأ يشق طريقه في فراغ من دون مواجهة أية مشاكل أو عقبات، إلا ما يقوم به أبطال الثورة السورية وبعض التصريحات القوية لرجب طيب أردوغان، وحالة الوعي المتنامي لدى الشباب السنّي في المشرق العربي خاصة في الجزيرة العربية بحكم توجهها السلفي الأكثر تماسكا وتحصنا، وبشائر الحراك السنّي المتصاعد في العراق.
لقد آن لنا أن نفكر بطريقة ما تضمن لنا إيقاف هذا المشروع الزاحف من الشرق، وأن نتجاوز الثقافة التجزيئية لنفكر بعقل الأمة وروحها وتاريخها، والساحة الآن مهيأة أكثر من ذي قبل لبناء تحالف عربي تركي كردي لا يكون هدفه إلغاء الخصوصيات القومية والقطرية، ولا يسعى لإعلان الحرب على إيران كدولة ولا على الشيعة كطائفة، بل لإقناع الجميع بضرورة الاتفاق على عقد سياسي واجتماعي يضمن لهذه المنطقة قدرا من الاستقرار والتوازن والتعايش العادل والآمن.
923 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع