مآثر جيش العراق الباسل واعتراف الأعداء بها

                                                 

                             اللواء الركن
                    علاء الدين حسين مكي خماس

مآثر جيش العراق الباسل واعتراف الأعداء بها

تمهيد

1. بادرت القيادة العراقية فور سماعها بنبأ اندلاع الحرب يوم 6/ت1 1973 إلى الاجتماع والقرار على إرسال القوات العراقية إلى الجبهة السورية بأسرع وقت وبأكبر حجم ممكن، بالرغم من عدم تبليغها مسبقاً بذلك. ولقد كان هذا قرارا على مستوى السوق العام وكان هذا القرار الحاسم هو القرار الذي قرر مصير الحرب على الجبهة الشمالية منذ بدايتها ومنع سقوط دمشق بأيدي الصهاينة أو أخذها رهينة، حيث تمكنت القطعات العراقية من الوصول إلى الجبهة ومنع سقوط دمشق، كما سنرى فيما بعد في متن هذا المقال.
2. وأننا إذ استمعنا إلى أبطال الجيش العراقي وقادة قواته الذين خاضوا المعارك على الجبهة الشمالية وهم يصفون وقائع القتال الذي دار، فقد نجد من يقول بنوع من المبالغة في وصفهم الذي حركه حماسهم، بل أن البعض قد يحاول طمس هذه الحقائق مستغلا مرور وقت طويل عليها ومحاولاً الإقلال من شأنها. إلا أن الاطلاع على ما كتبه الأعداء أنفسهم، عن هذه المعركة يرينا أن ما ذكره أبطالنا الصناديد لم يكن فيه أية مبالغة، بل أن العكس هو الصحيح، إذ انهم تواضعوا تواضع الأبطال في وصفهم لأعمالهم البطولية، في حين اعترف العدو بأكثر مما قالوه بكثير.
3.ولعل خير شهادة هو ما ذكره قادة إسرائيل عن تلك التي وردت في كتاب (حاييم هيرتزوغ) رئيس إسرائيل الأسبق، في كتابه الموسوم، (الحروب العربية الإسرائيلية) والصادر باللغة الإنكليزية عام 1982، والمعاد طبعه عام 1984، إذ تيسر لي الاطلاع عليه، حيث وصف هذه الحرب بالصفحات من 285-306، ومركزا على دور القوات المسلحة العراقية بالصفحات من 299-206. ولقد رأيت أن اقتطف منه ما يفيد في إيضاح مقصدي مع بعض التعليقات عليها، لكي يطلع عليها القارئ الكريم والعسكري الباسل الذي لم تسنح له فرصة المشاركة بهذا السفر الخالد.

التقدم نحو دمشق
4.يقول هيرتزوغ ((تقرر في اجتماع عقد مساء يوم 10/ت1 أن تهجم قواتنا على سوريا لاحتلال دمشق، أو الوصول إلى أقرب نقطة لها بحيث يمكن قصفها بالمدفعية البعيدة المدى، وإخراج سوريا من المعركة نهائياً)). وقد كلفتُ فِرقتي الجنرال (إيتان) والجنرال (لانر) بالهجوم على المحور الشمالي والوسطي وفرقة الجنرال (بيليد) بالهجوم على المحور الجنوبي. وكان المحور المخصص إلى فرقة لانر يمثل اقصر طريق إلى دمشق إذ لم تكن تبعد اكثر من 30 ميلاً .
5.ويصف عمل قوة لانر فيقول ((تقدمت فرقة لانر حيث احتل اللواء19 قرية "ناسج" وكان اللواء 17 على جناحه الأيمن، أما اللواء 79 فكان يعقبهم على الطريق. وفتح لانر مقره المتقدم على تل الشعار المسيطر على ميدان المعركة. وقد أصدر أوامره إلى لواء19 ولواء 17 بمواصلة التقدم إلى "كناكر" والتي سيؤدي احتلالها إلى الالتفاف على جناح المواضع السورية في (سعسع) وبذا تصل فرقته وفرقة إيتان إلى مناطق قريبة جدا من دمشق.
6. تم احتلال تل المال من قبل احد أفواج لواء19 ووصلت طلائع اللوائين إلى مسافة تقل عن 3 أميال عن كناكر، وكانت جميع الدلائل تشير إلى بدء انهيار القوات السورية. واستمرت قوات لانر بالضغط والتقدم بهمة متزايدة لتطوير الموقف، وكان لانر يتابع حركة قواته من موقع قيادته في تل الشعار مستخدما منظاره المقرب)).

وصول القوات العراقية وانقلاب الموقف
7.ويستطرد هيرتزوغ فيقول ((وبينما كان "لانر" يستطلع ميدان المعركة بمنظاره المقرب، استدار نحو الجنوب، وفجأة تجمد الدم في عروقه، فعلى بعد لايزيد عن 6 أميال منه أبصر بقوة مدرعة تقدر بحدود 100-150 دبابة وهي منفتحة بمجموعتين رئيسيتين، وتتقدمان بأقصى سرعة مثيرة للغبار ومستهدفة ضرب جناحه الجنوبي المكشوف. ولبرهة، تصور لانر أن هذه القوات إنما هي جزء من فرقة "بيليد" أُرسلت لتعزيزه. إلا أن قيادة العمليات الشمالية أكدت له أن فرقة بيليد كانت متوقفة في منطقة رافد، وان ما يراه أمامه من قوات إنما هي قوات معادية. ولما ادرك لانر أنه على وشك التعرض لهجوم على جناحه المكشوف، في الوقت الذي كانت فيه قواته تطارد القوات السورية المنسحبة على عجل إلى الشمال الشرقي، اصدر أوامره إلى اللواء 79 بالانفتاح فورا وتغيير الناصية نحو الجنوب من "ناسج"، كما اصدر أوامره إلى كل من قوة "سارج" و اللواء 19 للتوقف فورا في أماكنهما على طريق " كناكر"، والانسحاب لستر الجناح الجنوبي. أدى هذا الأمر إلى إرباك آمري الألوية، الذين توسلوا اليه للسماح لهم بمواصلة التقدم ضد السوريين الذين باشروا بالهرب أمامهم، وأن يسمح لهم بقطف ثمار النصر الذي حققوه بعد كل هذه الجهود، لكن لانر رفض الاستماع لمطالبهم وأمرهم بتغيير الناصية نحو الجنوب حالاً)).ويقول أيضا ((وصل لواءان عراقيان يوم 11/ت1 احدهما مدرع والآخر آلي، وعند وصولهما إلى منطقة الصخور البركانية الكائنة إلى الجنوب من دمشق يوم الجمعة 12/ت1 قبل الفجر بقليل، أُنزلت الدبابات من على ناقلاتها وانفتحت بتشكيل الهجوم عبر السهل المؤدي إلى الجناح الجنوبي المكشوف للقوة الإسرائيلية التي كانت تتقدم نحو كناكر وتهدد معسكر الكسوة الكائن على ضواحي دمشق. وحدث أول اشتباك بين الدبابات العراقية والدبابات الإسرائيلية بمدي اشتباك قريب جدا لا يتجاوز 300 ياردة فقط)).

    

المقدم الركن سليم شاكر الإمامي يصدر الأوامر من ناقلة القيادة ويبدو خلفه النقيب الركن صبيح عمران طرفة والنقيب الركن سمير سعيد الحكيم

تعليق
8. كانت هذه هي المرحلة الحاسمة بمعركة سوريا بأجمعها. فمن الناحية السوقية تعتبر نقطة التحول من التعرض السوقي الإسرائيلي والدفاع أو الانسحاب السوري، إلى الدفاع الإسرائيلي والتعرض العربي. وهي النتيجة العملية للقرار السوقي الصائب الذي اتخذه العراق على مستوى السوق العام، بإرسال قواته بأسرع ما يمكن وبأكبر قوة إلى الجبهة السورية وكما أشرنا إليه آنفاً. ولولا هذا القرار وذلك الوصول السريع للقوات وهذا العزم والتصميم في ضرب العدو، لسقطت دمشق بيد العدو أو على الأقل لأصبحت رهينته، ولكانت النتيجة بكل تأكيد غير ما آلت إليه في حينه حتماً ، ولَتَأثر مجرى التاريخ في المنطقة بأجمعها. كما أن قصر مدى الاشتباك دليل عل سرعة تقدم الدروع العراقية وتصميمها وعزمها على ضرب العدو وروحها القتالية العالية، الأمر الذي أدى إلى إيقاف تقدم الصهاينة وإنقاذ دمشق العربية منهم، فهل بعد هذا بطولة؟ وهل يجرؤ احد على إنكارها؟

استمرار سير المعركة وارتباك الصهاينة
9. ويستطرد هيرتزوغ فيقول ((وعند مجيء الليل أصبح واضحا أن فرقة لانر ستتعرض لهجوم مدبر رئيسي قريباً. أما آمر اللواء 20 الذي كان لواءه قد أُرسل تعزيزا لفرقة لانر فقد أصابه القلق من جراء تأخر وصول احدى كتائبه، لذا قام بإرسال أحد ضباط الارتباط من مقر اللواء للبحث عنها. وفيما انطلق هذا الضابط وهو يتخبط في الظلام بحثا عن الكتيبة وإذا به يصطدم بدبابة كانت على قارعة الطريق. فلما حاول أن يشرح لطائفتها انهم كانوا بعيدا عن المكان المنشود، وإذا به يكتشف أنها كانت دبابة عراقية، فلاذ بالفرار مذعوراً. وأخيرا تم العثور على الكتيبة التائهة، والتي أُسندت بنيران كثيفة من المدفعية لتخليصها من أيادي العراقيين)).
تعليق
10. يؤكد ما جاء آنفا على مدى ارتباك القوات الإسرائيلية، وعلى قوة اندفاع القوات العراقية في الاشتباك القريب بالقوات الإسرائيلية. والحق فان الوقائع تشير إلى إصابة الكتيبة الإسرائيلية بخسائر فادحة خلال هذه الحادثة.
11. أما هجوم يوم13/ت1 فقد شرع بالساعة 0300، وكان صاعقا إذ تقدمت قوات اللواء المدرع 12 بقيادة المقدم الركن سليم شاكر الإمامي ، ولواء المشاة الآلي 8 بقيادة المقدم الركن محمود وهيب العزاوي، بأقصى سرعة ضد العدو ، والاشتباك بالعدو اشتباكا قريبا بقتال متلاحم ، وكان مدى الاشتباك لا يزيد عن 300 ياردة وهذا دليل آخر على السرعة والعزم والتصميم.

              

صورة أخرى للمقدم الركن سليم الامامي في ناقلة القيادة ومعه ضباطه لمتابعة الموقف

انهاك القوات الاسرائيلية
12. ويقول هيرتزوغ في الصفحة 301 من كتابه أعلاه ((لقد أصاب الإعياء الشديد قوات لانر وأصبحت في الرمق الأخير. وفي يوم 16/ت1 تعرضت قواته إلى هجوم آخر من قبل القوات العراقية على مواضعه في تل عنتر وتل العلاقية … وفي يوم الأربعاء 17/ت1 تم استبدال فرقة لانر بفرقة بيليد المنتعشة… وفي يوم 19/ت1 شنت القوات العراقية ثلاثة هجمات متعاقبة على تل عنتر وتل العلاقية وكان هجوما بقوة فرقة مدرعة مسندة بنيران مدفعية كثيفة حيث استمرت المعركة سبعة ساعات. شُلَّت خلالها القوات الإسرائيلية جراء تعرضها لتمركزات نيران المدفعية العراقية)). ويمضي فيقول في ص 304 ((قام العراقيون في هذا اليوم بشن هجومهم الثالث وكان هجوما عزوما حيث اندفعت موجة بعد موجة من الدروع العراقية ضد اللواء 20. ولقد تكبد الإسرائيليون خسائر شديد جداً، وأحس القائد الإسرائيلي أنه لم يعد لديه الكثير من الوقت للصمود، إذ تقدم العراقيون وتسلقوا سفح التل وهم يقاتلون الإسرائيليين المنهكين تماماً. وكانت دبابات العراقيين ترمي أهدافها بمسافة اشتباك لا تزيد عن خمسة ياردات ، حيث اختلاط الحابل بالنابل واختلطت الدبابات العراقية بالدبابات الإسرائيلية، بل اصطدمت بعضها ببعض واصبح الموقف حرجاً جداً وتأرجح مصير المعركة بين الجانبين)).

تعليق
13. ما جاء آنفاً يظهر بوضوح أثر وصول القوات العراقية الباسلة إلى ميدان المعركة وانقلاب الموقف كما أنه يبين بوضوح شجاعة وعزم العراقيين على مواصلة الهجوم مهما بلغت التضحيات ويتضح ذلك بقرب مدى الاشتباك إذ حدث هنا ما يعرف بقتال (المهارشة) على الهدف وهو قتال بين القوات المتحاربة ينشب على مسافات قصيرة جداً تستخدم فيها كل الأسلحة وكل المهارات ويكون أشبه بما يعرف (بمعركة الجندي)، افبعد هذا شجاعة أكبر وهل يجرؤ من ينكر ذلك على الإنكار.

                                          

                  اصدار التعليمات النهائية قبل الهجوم

وقف إطلاق النار
14. وبتكامل وصول الفرقة المدرعة السادسة وباقي القطعات العراقية، وُضعت الخطة للقيام بهجوم شامل على القوات الإسرائيلية فجر يوم 23/ت1 تشارك به فق مع3 و فق مع 6، والقطعات المتجحفلة معها. ولو كُتب لهذا الهجوم أن ينطلق لكان أن تحقق النصر الأكيد.
15. لقد حرم العرب والعراقيون من استثمار الموقف الجديد ومن نصر كان في متناول أيديهم نتيجة لقبول سوريا بوقف إطلاق النار مساء يوم 22/ت1 . فأجهض الهجوم ووأدت آمال القوات العربية وأبطالها في الاقتصاص من العدو الغاشم. وعادت القوات العراقية إلى العراق وهي ترفل بالعز والفخر بعد أن أدت واجبها القومي وأنقذت بلاد العرب من السقوط من أيدي المعتدي الأثيم.
16. إن هذا التـأريخ القريب لقواتنا المسلحة الذي أردنا أن نستشهد به بأقوال العدو نفسه، خير دليل على صحة هذا التأريخ. وإن القرار التاريخي الحاسم الذي اتخذته القيادة العراقية على مستوى السوق العام في إرسال الجيش العراقي إلى الجبهة السورية كان قراراً حاسماً قلب الموازين السوقية في هذه الحرب. وهذا هو شأن الجيش العراقي دوما في معارك العراق والأمة العربية.

      

    

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1046 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع