في الذكرى الرابعة والخمسين لهروب الطيار منير روفا... حقائق وملابسات أخرى جديدة

                                                 

         بقلم العميد الطيار الركن محمد طارق سيد حميد

     

في الذكرى الرابعة والخمسين لهروب الطيار منير روفا ... حقائق وملابسات أخرى جديدة!.

     

عندما كنت مدرساً في جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا، قبل ثلاثة عقود، أجريتُ مع زميلي اللواء الركن زياد طارق جاسم، بحثاً معمّقاً عن كيفية هروب الطيار العراقي النقيب منير جميل حبيب روفا، بطائرة مقاتلة اعتراضية من طراز ميك-21 إلى إسرائيل، يوم 16 آب 1966. فالتقينا مع العديد من الطيارين الذين عاشوا ساعات ذلك اليوم وكانوا إما أصدقاءً لمنير روفا أو من العاملين معه في سلك الطيران، فضلاً عن زياراتنا لبعض من المؤسسات الرسمية ذات الصلة لتغطية الموضوع من معظم أوجه.

لقد توصّلنا إلى أن قصة الهروب بتفاصيل جديدة، لا كما روّجَ لها الإعلام الإسرائيلي، بل أن الحادثة لها جذوراً تمتد إلى عام 1957، وقتما حطّت على أرض العراق سرب من الطائرات الأمريكية يضمّ (12) طائرة نفاثة حديثة من طراز سوبر سيبر F-86 لتفعيل برنامج مشروع المساعدات الأمريكية ضمن خطط ميثاق بغداد (حلف بغداد) ابتغاء تحديث الأسلحة الثقيلة لدى القوات المسلحة العراقية تنفيذاً لاتفاقيات ذلك الحلف، وتمركز هذا السرب في قاعدة الحبانية الجوية الضخمة التي أنشأها البريطانيون في ثلاثينيات القرن الماضي.

وهنا نتوقف قليلاً لنربط الوقائع فيما بعد… فقد جرى في العراق يوم 14 تموز1958، الانقلاب العسكري المعروف الذي أنهى نظام الحكم الملكي وما هي إلا أيام معدودة حتى غادر الطيارون الأمريكيون المبعوثون لتدريب الطيارين العراقيين على ذلك الطراز الحديث في حينه، فيما تُرِكت الطائرات على ذمة العراق في تلك القاعدة.

طيارون عراقيون في الولايات المتحدة
وما أن توجّه نظام عبدالكريم قاسم نحو دول المجموعة الاشتراكية لأغراض التسليح والتجهيز، فقد أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية -بطبيعة الحال- برنامج مساعداتها آنفة الذكر طيلة أربعة أعوام متتالية حتى إنهار ذلك النظام اليساري بحركة 14رمضان- 8 شباط 1963، قبل أن يُقدم المشير الركن عبدالسلام محمد عارف على حركته في 18ت19632، لتصحيح الأوضاع السائدة، فيمسي رئيساً للجمهورية واسع الصلاحيات وينأى عن المعسكر الشرقي لتبدأ مفاوضات أمريكية-عراقية لإعادة تلكم الطائرات الاثنتي عشرة إلى أصحابها، عندئذ طلب الجانب العراقي من مثيله الأمريكي إيفاد عدد من الطيارين العراقيين الى الولايات المتحدة للمشاركة بدورات طيران متقدمة مقابل تسليم الطائرات.
وحالما وافقت واشنطن على ذلك فقد انتقت القوة الجوية العراقية أفضل طياريها ليعملوا -بعد عودتهم إلى الوطن-بصفة معلمين للطيران المتقدم، فأُوفَدَت طيارَين إثنين للمشاركة في الدورة الأولى، هما إسماعيل وقتي، وواثق عبد الله رمضان، من طياري المقاتلات ميك-17 فعادا للعراق بعد إكمالها بنجاح. وجاء الدور على طيارَين آخرَين للدورة الثانية فأُوفد إليها الاختصاصيّان على طائرة هوكر هنتر البريطانية وهما نجدت مصطفى النقيب، وعكرمة زين العابدين، قبل أن يوفد ثلاثة من طياري ميك-21 لخوض الدورة الثالثة والأخيرة، وهم: منير جميل حبيب روفا، وحامد عبد الجبار الضاحي، وشاكر محمود.
وهنا ننتهي من موضوعة الدورات التي حققت احتكاكاً بين الولايات المتحدة والعراق في المجالات العسكرية الحساسة لنخوض في صلب الحدث.

خطة الـمخابرات الأمريكية C.I.A
كان همّ المخابرات الأمريكية في عقد الستينيات الحصول على طائرة مقاتلة اعتراضية من طراز ميك-21 بأي ثمن كان، باعتبارها طائرة تفوّق جوي حديثة للغاية وذات تقنية عالية وسرعة تبلغ أكثر من ضعفَي سرعة الصوت، والتي عُدَّت طفرة في مجال الصناعات الجوية السوفييتية، وهي المقاتلة الاعتراضية (FIGHTER-INTERCEPTOP) الأعظم المعتمدة -منذ أواخر عقد الخمسينيات وفي غضون الستينيات- لدى القوات الجوية السوفيتية لدرء الأخطار عن أوطانها الشاسعة وتحقيق التفوق الجوي في سماء بلادها وأجواء دول حلف وارشو في أيّة حرب مقبلة حيال خصومها، وبالأخص أزاء القوات الجوية لدول منظمة حلف شمالي الأطلسي (N.A.T.O) والتي تتزعمها الولايات المتحدة بإمكاناتها الهائلة.
لذلك أقدمت المخابرات الأمريكية (C.I.A) -وليست المخابرات الإسرائيلية (الموساد)-على التخطيط لاستحصال طائرة ميك-21. فيما لم يُقحَم الموساد بأي دور إلاّ عند تنفيذ المراحل الأخيرة من الخطة الأمريكية الأصل.

إغواء الطيارين العراقيين
عاد طيارو الدورتين الأولى والثانية الى الوطن من دون أن يثير الأمريكيون أي شيء معهم، لكونهم من غير المتخصصين لقيادة طائرات ميك-21، حتى تم إيفاد الطيارين الثلاثة المذكورين للمشاركة بالدورة الثالثة، إذْ حاولت الـ (C.I.A) إغواءهم لتهريب طائرة واحدة من طراز ميك-21، والهبوط بها في أقرب مطار لدى أي من بقاع إحدى الدول المتاخمة أو القريبة من العراق والحليفة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط أمثال إيران، وتركيا، والسعودية، ولكن إسرائيل-بالطبع-كانت الأفضل والأضمن.
فوتح الطيارون الثلاثة -كلّ على انفراد-للتيقّن ممّن قد يكون على استعداد لتنفيذ المأرب، فجابههم حامد عبد الجبار الضاحي، بامتناع شديد لإيمانه بأنه يجسد قمة الخيانة للوطن والمبادئ والقيم، فكانت نتيجة رفضه الواضح أن دُبِّرَ له حادث سيارة أودى بحياته هناك.
ولما استشعر الطياران الآخران شاكر محمود ومنير روفا، بالخطر المحدق فقد قررا التظاهر بالموافقة ريثما يعودان للعراق فيكونان في مأمن من (C.I.A) وتنتهي المعضلة وينسدل الستار، فأنهوا الدورة على هذا الأساس، وعاد الاثنان إلى بغداد بسلام.
لكنهما لم يهنآ بالمأمن المرتجى، حيث حقق عملاء المخابرات الأمريكية تماساً في بغداد مع شاكر محمود، لتنفيذ وعده، فكان أن تقوّى في إجابته القاطعة بالرفض بأنه لن يخون الوطن ولا ينكث العهد والقَسَم، وسوف لن تطأ قدماه أرضاً أمريكية مجدداً. وفي تلكم الأيام حطّت عشيقته الأمريكية الجميلة -التي صادقها خلال الدورة-في بغداد تحت ذريعة اشتياقها وتعلّقها بشخصه وعدم احتمالها مفارقته، فأنزلها شاكر ضيفة في فندق أمباسادور، الواقع في شارع أبي نؤاس، والمطلّ على نهر دجلة، لتمكث بصحبته حوالي عشرة أيام وتبلّغه رسالة (C.I.A) محاولة إقناعه بضرورة تنفيذ وعده كي يستقر مستقبلاً في الأرض الأمريكية ليهنآ معاً بالعيش الرغيد سوية طيلة حياتهما. ولـمّا تلمّست رفضه بشكل قاطع، فقد أُوعِزَ إليها بقتله في غرفتهما بذلك الفندق قبل أن تسرع خلال ساعات بمغادرة بغداد إلى ديارها، حيث لم يُعرَف مقتل شاكر محمود، إلاّ بعد أن فاحت رائحة جثمانه.

إرغام منير روفا على الهروب
وجاء الدور على النقيب الطيار منير جميل حبيب روفا، وكان أن استوعب المغزى الكامن وراء مقتل صديقيه، إذْ لم يجرؤ الرفض فخطط للتنفيذ مُرغَماً، وكان في حينه أحد طياري السرب 17 المتمركز وسط قاعدة الرشيد الجوية المتاخمة للضواحي الشرقية من بغداد، وكان في حينه السرب الوحيد المجهّز بطائرات ميك-21 طراز (F-13) في عموم العراق.
لم يتأخر منير روفا، كثيراً قبل اتخاذ قراره القاطع، واضعاً خطته النهائية للهروب بطائرته إلى إسرائيل، وقد يمكن تلخيصها بما يأتي:

• قبل كل شيء سَفّرَ زوجته وأفراد عائلته بشكل اعتيادي لا يستجلب الأنظار، وذلك في سفرة اعتيادية إلى إيطاليا عن طريق أحد المكاتب السياحية التي تتعامل مع الخطوط الجوية العرقية واطمئن عليهم بعد وصولهم.
• قبل يوم واحد من موعد التنفيذ خطّط للقيام بطلعة جوية بعيدة المدى نسبياً بواقع مئات الكيلومترات وتستغرق أقصى وقت ممكن حسب الإمكانات المتاحة للطائرة ميك-21، وذلك بتعليق خزان إضافي أسفل بطن الطائرة ومن دون أية حمولة إضافية ولا أسلحة ولا أعتدة أو ذخائر في رحلة يقلع بها من قاعدة الرشيد الجوية -بطيران أفقي على خط شبه مستقيم ومن دون مناورات- وصولاً إلى قاعدة الوليد (H-3) الجوية على ارتفاع يبلغ11000متر ذهاباً وإياباً -وهو الارتفاع الأمثل للاقتصاد بالوقود- وبسرعة اقتصادية (CRUISING SPEED) تبلغ 780 كلم/ساعة، وذلك ابتغاء التحقق عملياً وقطع الشك باليقين.
• استنبط منير روفا، أن هذه الكمية القصوى من الوقود تكفي لقطع مسافة مجموعه 900 كلم، فأطمئن بأنه سيبلغ إسرائيل بطائرته ميك-21 عبر أجواء المملكة الأردنية الهاشمية، فقرر تنفيذ المهمّة في اليوم التالي بذات الكمية من الوقود والسرعة والارتفاع.
• وكان منير روفا، على يقين تام أن ليس هناك رادار عراقي يمكن أن يشكّ به، وإذا شكّ -على سبيل أسوأ الافتراضات-فإن الطائرات العراقية سوف لا تستطيع اللحاق به كونه سيكون قد غادر الأجواء العراقية.
• أما عند اختراقه الأجواء الأردنية التي سوف يمضي فيها أقل من نصف ساعة، فإن الرادارات الأردنية ليست أفضل من مثيلاتها العراقيات، فضلاً عن أن القوة الجوية الأردنية لا تمتلك سوى سرب واحد يحتضن (12) طائرة من طراز هوكر هنتر، والتي لا تبلغ سرعتها القصوى نصف سرعة الصوت وليس بإمكانها مقاطعته.
• وفي صباح اليوم التالي أقلع بطائرته من قاعدة الرشيد الجوية متوجهاً نحو الغرب بالارتفاع والسرعة نفسهما، وبعد ساعة واحدة حطّ بسلام في إحدى القواعد الجوية الإسرائيلية، حيث اُستقبل استقبال الأبطال من ممثّلي المخابرات الأمريكية والموساد الإسرائيلية.

    


الخاتمة
رغم وصف البعض عملية الهروب هذه بالخيانة العظمى -ولهم كامل الحق في ذلك-فإن مفارقات عديدة قد شابت تلك العملية، ولكنه في كل الأحوال لم يكن الطيار منير روفا، مضطهداً بشكل مطلق لكونه من المكون المسيحي كما ادعى. ولو كان كذلك لَـما قُبِلَ من حيث الأساس في كلية القوة الجوية في أواسط الخمسينيات، ولَـما أمسى طياراً لدى القوة الجوية العراقية، ولَـما نُسِّبَ لتسلّم أحدث الطائرات النفاثة الأسرع من الصوت لدى القوة الجوية العراقية، ولَـمَا ظلّ يخدم وسط سرب من المقاتلات في أعظم القواعد الجوية حسّاسيةً، ولَـما تدرّج في الرُتَب حتى وصل إلى رتبة نقيب طيار، ولَـما ثُبِّتَ بمنصب آمر رف طائرات في ذلك السرب الأساس المسؤول عن تحقيق الدفاع عن سماء بغداد، وأخيراً لَـما أُنتُخِبَ ليوفد ضمن ثلاثة طيارين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الختام لا بد من القول أن كل ما ذُكِرَ عنه في المقالات المنشورة بعيد عن الواقع، فدور المخابرات الإسرائيلية انحسر فقط في نقل عائلته من إيطاليا إلى تل أبيب واستقبال منير روفا، مع طائرته في سماء إسرائيل، في حين كان الدور الأساس في هذه العملية للمخابرات الأمريكية التي استلمت الطائرة المرجوّة ونقلتها إلى الولايات المتحدة حيث تمت دراستها من جميع تقنياتها ومحركها وأجهزتها ومكامن قوتها على أيدي خبراء أمريكيين، وقبل أن تعاد إلى إسرائيل ليحلّق بها طياروها كي يكتشفوا إيجابياتها وسلبياتها ونقاط ضعفها ومناورتها أثناء القتال والاشتباك الجوي القريب.
أما ما أورده الفلم السينمائي المعروض عن هذه العملية خلال عقد الثمانينيات وما ظهر فيها من علاقات منير روفا الغرامية وكيفية تجنيده وتسفير عائلته عبر شمالي العراق ودور الطبيب الجاسوس، ومقالات منشورة أخرى، فجميعها فيها مبالغات ومحض خيال مبتغاه التغطية على الدور الأمريكي الرئيس وأيضاً دعاية كاذبة لإعلاء شأن الموساد الإسرائيلي.
وختاماً أرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في تسليط ضوء جديد متواضع على هذه العملية المخابراتية الذي قمتُ بإعداد دراسة مستفيضة عنها صحبة زميلي وصديقي اللواء الركن زياد طارق جاسم.
والله من وراء القصد

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع