سلام مسافر
ألف باء تفتح ملف الجنس السري في العراق!
بهذا العنوان على الغلاف صدر أحد أعداد “ألف باء” ، مطلع سبعينيات القرن الماضي.
كنت اتفقتُ مع سكرتير التحرير الشاعر والكاتب فاضل العزاوي على فكرة التحقيق، ووجدت ترحيباً ودعماً من صاحب ” المخلوقات العجيبة”.
كان العراق، يعيش ربيع الأمل في حياة سياسية مستقرة، وتنمية مستدامة، ونهاية للصراع السياسي الدموي الذي أودى بحياة الألوف منذ فجر الرّابع عشر من تموز عام 1958.
افتتحت النقابات المهنية نواديها، واحتضنت شتى الفعاليات الثقافية والندوات، وازدهرت حديقة اتحاد الأدباء بنشاطات رحيقها الألفة وإيقاعها؛ رشفات الزحلاوي والمسيح .
مزّاتها ، عربدة عبد الامير الحصيري، وهوسات جاسم الزبيدي المختومة بماركة “الك رنة يا جدر الفوح”. وقفشات اللوذعي المقراء يوسف نمر ذياب ومناكفات وحروب مجيد
بكداش” الفكرية”.ودندنة حسب الشيخ جعفر.
تربعت “ألف باء” على عرش الصحافة العراقية بجدارة، يعمل في اقسامها، أفضل الكتاب والصحفيين والرسامين والمصممين برئاسة عبد الجبار الشطب، المثقف البغدادي الأنيق على الطراز الاوربي، صاحب النبرة الهادئة، والروح الديمقراطية الشفافة.
منح الشطب هيئة التحرير وسكرتيرها ” العجائبي” فاضل العزاوي ، حرية شبه مطلقة في إعداد المجلة، ولم يرسم حدوداً للمحرمات، حتى في تناول القضايا السياسية الأكثر حيوية، ووجدت الأقلام الخارجة للتوّ من السجون والمعتقلات في المجلة واحة، تطفئ عطش سنوات الجفاف في نقرة السلمان وسجن الحلة والعمارة وبغداد وفِي المنافي القسرية.
كانت حكومة حزب البعث في سنواتها الاولى بعد السابع عشر من تموز 1968؛برئاسة أحمد حسن البكر، وضعت برنامجاً واعداً للتنمية، واستثمرت عائدات النفط في الأعمار والبناء، وتوسعت المشاريع لتشمل البنى
الثقافية؛ الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات التابعة للدولة.
صحيح أنّ الحصول على امتياز صحيفة أو مجلة أهلية ، كان امراً صعباً، إلّا أنّ وسائل الإعلام الرسمية استوعبت غالبية الكتّاب والصحفيين بغض النظر عن توجهاتهم وميولهم السياسية.
ولم يشعر الصحفيون، باغتراب، استشرى في سنوات لاحقة، حين انفرط عقد الوفاق السياسي، وتفرق العشاء، بنهاية عرس لم يعمر طويلاً.
كنت التحقت بالعمل على القطعة في “ألف باء”، بالتزامن مع عملي في “مجلتي والمزمار” للأطفال.
ومثلما كان الشطب حانياً على المجلة الأولى في العراق، كان جليل العطية وابراهيم سعيد وبعدهما هادي نعمان الهيتي، بذلوا قصارى الجهد لإنجاح اول مطبوع منتظم للأطفال ،في تاريخ الإعلام العراقي.
كنت أقطع المسافة، بين ” مجلتي والمزمار” الكائنتين، في طابقين من مبنى وكالة الأنباء العراقية على “أبو نواس” الى الاذاعة والتلفزيون مشيا على الأقدام ومنها عبر شارع الرشيد إلى الجمهورية و”ألف باء”.
لا أدري كيف كنت لا أشعر بالتعب، في مسيرات شبه يومية.
لعلها طاقة الأمل ، تمنح الأجساد قدرة خلاقة.
قبل ملف “الجنس السري في العراق”، كنت نشرت أول تحقيق صغير مع صورة انفردت بها “ألف باء” تناول الحريق الذي شب في عبّارة نحو جزيرة الخنازير وسط دجلة المترع، أثناء سفرة نظمها المركز الثقافي الفرنسي في بغداد لدراسي لغة” الراء” في دورات مجانية. وكنت مشاركا في السفرة مع أصدقاء يتعلمون في المركز.
توالت التحقيقات، وبرز مقترح اجراء تحقيق استقصائي عن ملف الجنس في العراق، الذي لا يمكن ان يوصف الا بأنّه “سرّيّ” حتى لو تعرض للقاءات بين العشاق في “الشوارع الخلفية”.
وإذا كان نصير النهر وحبيبته الصحفية ندى النعيمي اختارا لتحقيق عن العشاق في بغداد، عنواناً هادئاً :
” الشوارع الخلفية”.
فقد وجدنا مع سكرتير التحرير أنّ نضاعف الجرعة ونقتحم المنطقة المحرمة.
أثار التحقيق من ثلاث صفحات مع صورة غلاف جذابة، اهتمام القرّاء، وشتائم المعممين والمحافظين، حتى أنّ معمماً، اقتحم استعلامات مبنى دار الجماهير، وعنها تصدر المجلة؛ طالبا لقاء رئيس التحرير، كما علمت لاحقا، ولا أدري ما اذا كان موظف الاستعلامات لبى طلبه، لكني سمعت أنه لم يوفر في قاموس الشتائم مفردة إلا وقذف بها المجلة واصحابها وصحفيييها
” الملحدين الشيوعيين الأنذال”!
لم تمض غير بضعة أيام، حتى التقيت الكاتب التراثي الموسوعي زهير القيسي في الممر، وشارباه الكثان، يهتزان، إمّا غضبا أو مناكفة، وفهمت منه أنّ ” الدنيا مگلوبة على المجلة بسبب تحقيقك الفضيحة”.
دخلت على سكرتير التحرير؛ فاضل العزاوي، الذي يحتفظ بهدوء عجائبي وبنبرة صوت ذات جرس فريد، حاول بعض المتأثرين به تقليدها؛ لكن عبثاً.
إنّها حصراً لفاضل العزاوي!
لم تبدو علي فاضل، علامات الانزعاج، لكنه تحدث معي بصوت خفيض أكثر من المعتاد.
فهمت أنّ القصر، وتحديداً الرئيس أحمد حسن البكر؛ اتصل برئيس التحرير، أو بفاضل ربما، وكان غاضباً جداً وقال ” شنو هاي مجلة لو كلجية” أو شيء من هذا القبيل.
وعلمت أنّ الشطب هدأ غضب الرئيس،ودافع عن محرري المجلة، ورفض نعوتاً قيل ان الرئيس أطلقها في فورة الغضب.
ولا أتذكر أنّ المجلة نشرت توضيحاً او اعتذاراً. بيد أنّ مهمة اصلاح ذات البين أنيطت بالتراثي الموسوعي زهير القيسي الذي كرس مقاله الأسبوعي للملف “المصيبة” وانتقد ما ورد في ثناياه وسرد بأسلوبه الشيق الرصين، رؤية العرب والإسلام للعلاقة بين الأنثى والذكر.
مرت الزوبعة، ولم يفرط عبد الجبار الشطب بالمجلة ومحرريها. دافع عنا وتمكن من إغلاق القضية، ولم يتعرض أحد للتعسّف أو الانتهاك.
كان زمناً جميلاً حافلاً بالمسرات والمنغصات لم تصل إلى حد الاختناق مطلقاً.
الذكر الطيب لأسرة “ألف باء” الرّاحلين والأحياء.
مرحبا لصدورها الجديد.
1049 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع