زيد الشهيد
عيد الاضحى .. العيد الكبير في السماوة
((يا حيف اجانه عاشور / مولود ما سوينه ))
لا يمر سوى شهرين وعشرة أيام على عيد رمضان حتى يطل عيد آخر هو عيد الاضحى .. واذا كان عدد ايام عيد رمضان ثلاثة فإن عيد الاضحى يحظى بأربعة ايام ، لذا عدّه المسلمون العيد الكبير .
في هذا العيد الذي يحل في العاشر من شهر ذي الحجّة ينهمك الناس في ذبح الاضاحي التي عادة ما تكون من الاغنام التي تتمتع بصحة تامة ومعافاة لا مريضة ولا هزيلة ، ذلك انها الوسيلة التي عبرها يتم كسب رضا الله تعالى عن الميّت الراحل الذي سيبقى غير راضٍ عن اهل الدنيا إن لم يذبحوا له الاضحية المعافاة ، ويوزعوا القسم الاكبر منها على الفقراء والمساكين من الجيران او الابعدين في الاحياء الاخرى .. تلك الاضحية التي يتم شراؤها قبل أيام والاعتناء بها حتى صبيحة العيد . ومن الناس من يشتريها قبل شهر او اكثر بسعر يقل كثيراً عن شرائها قبل حلول العيد حيث تزداد الاسعار ؛ فيعتنى بها كي تكبر خلال تلك الايام . إذ يتولى الفتية شراء الجت من البائعين في موقع بيع الجت ، والبرسيم ، والشعير الكائن في الحي الشرقي جوار سكة القطار .. وتلك ممارسة يفرح لها اولئك الفتية ، الذين يكونون على تماس مع مخلوق حيواني أليف سريع التآلف مع من يغذيه ويطعمه ... ومن الناس مَن يشتري الاضحية من معارف ريفيين يعيشون في القرى القريبة وهي لما تزل صغيرة عمرها اياماً معدودة ، ويتفقون مع اولئك الريفيين على تربيتها وتكبيرها لقاء مبلغ مادي حتى اذا اقتربت الايام جُلبت لتكون الاضحية .
ولقد اعتاد الناس عندنا في المدينة وعلى ضوء تعاليم دينية ان يذبحوا للميت على مدى سبعة اعوام فقط ؛ لكنني رأيت في اليمن وليبيا اللتين عشت فيهما لأعوام ان ذبح الاضاحي يتم سنوياً وبلا تحديد لعدد .. وفي ليبيا لا يذبحون للميت فقط انما للحي كذلك . لذا تشاهد الاسرة الواحدة تذبح ثلاث أو اربع من الاضاحي ، وتعمل بعد توزيع كمية من اللحوم على الفقراء على تمليح اللحوم وعرضها معلقة في الهواء لعدد من الايام حتى تجف ، ثم يخزنونها لاستهلاكها في قادمات الايام .. ويطلق على هذه العملية ( القدّيد ) التي هي شبيهة بالـ( باسطرمة ) التي يتفنن بها اهل الموصل ويصدرونها الى المدن في فصل الشتاء بعد تمليحها واضافة البهارات اللذيذة اليها .
التوجه الى مكة المكرمة
اعتاد الناس في مدينة السماوة ممن مر بهم العمر واصبحت فريضة الحج عليهم واجبة التوجه الى السعودية لأدائها ... ولما كان الناس يعيشون الحياة البسيطة والمتواضعة وليس لهم قدرة اداء الفريضة بالوصول بأيسر الطرق إلى مكة ، واقصد بها ركوب الطائرة التي لا تستغرق الرحلة فيها غير ساعات معدودة فانهم يتجهون الى متعهد ، اذكر منهم عبد الامير الشكيري ، يتولى نقلهم واقامة المناسك لهم جماعياً بواسطة سيارة عادة ما تكون ( دك النجف ) التي هي بتصور اليوم وسيلة مرهِقة جداً ، إذ ينحشر المسافرون رجالاً ونساءً فيها حشراً . وكان القاصدون الحج لقلة الحيلة ومحدودية المال يأخذون معهم الحبوب المجففة ( رز ، وعدس ، وفاصوليا ) ومعها الدهن الحر ، والتمر الديري ، والشاي ، والسكر ؛ اضافة الى ادوات الطبخ قدور وصحون ، وقواري للشاي مع استكانات . فهم هناك لا قدرة لهم على الدخول الى المطاعم والتمتع برفاهية زائر اليوم ... واذا كان الوصول الى مكة في الطائرة لا يستغرق سوى ساعات محددة فان الرحلة الى الديار المقدسة تأخذ اياماً معدودة تخترق فيها القافلة اراضي صحراوية وبوادي شاسعة . ويعاني المسافرون معاناة كبيرة وشديدة لكنهم يتحملون كل ذلك منطلقين من أنهم أمام واجب اداء الفريضة لابدَّ من تحمل المَشاق ، والصبر على الشدائد ... وهناك يؤدون مناسك الحج ( أمّا لهم ، أو لموتى راحلين نيابةً ، لم تسنح لهم الاحوال او كانوا غير قادرين على الاداء إبان حياتهم الدنيوية ) ، ويقضون ايام العيد قريباً من قبر الرسول الاعظم ، ويزورون مقبرة البقيع .. وفي في مكة يقفون على جبل عرفة ليلة العيد ، وفي صبيحة العيد يطوفون حول الكعبة .. وهنا في مدينة السماوة ، كما هي في مدن البلاد كافة ، يتسقَّط الناس اخبار الحِجّاج ، فيرهفون السمع الى الراديو الذي كان هو الوسيلة الوحيدة التي يتوخى الناس من خلالها سماع من له حاج او حاجّة وهم يقدِّمون السلام ويُعلمون اهاليهم بسلامة الوصول حيث تتوجه بعثة اذاعية واعلامية من العاصمة مصاحبة للحجاج من كافة مدن وارياف العراق ... وعندما يتم الحجاج كافة المراسيم وتبدأ ايام عودتهم تتلهف نفوس الاهالي ، وتتطلع الى الاخبار التي تنقل لهم عن قرب الوصول . واول هذه الاخبار السماع هي ما تعلن الاذاعة عن وصول الدفعة الاولى من الحجاج الذين يستخدمون الخطوط الجوية .
وعندما يتناهى خبر قرب وصول قافلة الحجاج تنطلق الاستعدادات داخل العائلات فتُهيأ البرانيّات اذ تفرش بالسجاد ، وتبخر هي وغرف البيت ، وتهيأ الخراف لذبحها عند وصول الحاج الى عتبة البيت مع الجكليت ، والعملة النقدية من الفئات القليلة حيث تُنثر على رأسه لحظة وصوله مع الهلاهل والاشعار ، وتعمل وليمة كبيرة لليلة الاولى التي تطأ فيها قدمه ارض البيت ؛ ويتقاطر المهنئون من المعارف والاقرباء والاصدقاء لتقديم التهنئة بسلامة الوصول والتبرك به كونه جاء قادما من مكة المكرمة وقبر الرسول ، متضرعين لله ان يمنحهم حج البيت ايضاً .
وفي المساء حيث يبقى الاصدقاء والمقربون ينطلق الحاج بالحديث عن مجريات السفر والمناسك التي ادّاها الحجاج وما رافقها من مشقة تبددت برحمة الله ورضوانه عليهم . ويشرع بالإجابة عن الاسئلة التي تجيش في نفوس المهنئين الذين يمنون النفس بحجٍّ قادم . ويروح الحاج يتحدث عن انواع البشر المسلمين من جنسيات مختلفة قادمين من اصقاع بعيدة قصد الفوز بالحج والتقرب من الله ، إذ يقفون سواسية امامه ، لا فرق بين عربي على اعجمي إلا بالتقوى التي جاءوا من اجل نيلها وتغذية نفوسهم بها .
وفي البيت تحتفل العائلة بسلامة وصول الحاج او الحاجة او الاثنين معاً ، حيث تستدعى الملله لتلقي وسط النسوة المحتفيات اشعاراً تمجِّد الرسول الاعظم وتهنىء بسلامة وصول الحجاج ... وعندما تلهث الايام وتتسارع فلا يتوفر الوقت لإقامة " حفلة المولود " تشرع نساء البيت وسط حزن يشيع في نفوسهنَّ بترديد :
يا حيف اجانه عاشور / مولود ما سوينه
إذ بعد ستة عشر يوماً من انتهاء العيد يطل شهر محرم الحرام ، ويتوجه الناس في المدينة إلى أداء مراسيم عاشوراء التي تستمر لعشرة ايام .
صبيحة اليوم الاول
يستيقظ الناس فجراً فيذهب الكثير منهم الى الجوامع لاداء صلاة الفجر ، وتبادل التهاني بين المصلين بعد الانتهاء حصراً ، فهم لا يتعايدون قبل اداء الصلاة ... ثم يعودون الى البيت لتبدأ ممارسة ذبح الاضحية . وعادة ما يعتمد في ذلك على قصابين يتم الاتفاق معهم مسبقاً ، لذا ترى هؤلاء يتنقلون من بيت لبيت بهمّة كبيرة واستعجال من اجل تلبية حاجات اكبر عدد من الزبائن . وكان القصابون يتلقون اجراً محدداً مع استحصال جلد الخروف ومصارينه ( امعائه الدقيقة ) يأخذونها فيبيعون المصارين عادة الى القصاب سعدون شبيلي الذي يجمعها فيبعثها الى متعهد في بغداد ، فيصدرها هذا الى متعهدين في بلدان أخرى لاستخدامها في العمليات الجراحية . أما الجلود فيبيعونها الى متعهد آخر يبعثها الى متعهدين في العاصمة .
وبعد ذبح الاضحية وتقطيعها الى قطع عديدة يتم توزيع وارسال عدد منها الى الفقراء ، ثم بعدها يتهيأ رب الاسرة ، وبعض الاحيان زوجته او الاسرة بكاملها للسفر الى النجف لزيارة موتاهم وزيارة الامام علي (ع) ثم يقفلون عائدين الى المدينة ليعيشوا ايام العيد بتقديم التهاني للمعارف والاقارب والاصدقاء .
الكليـﭽـة والحناء
تنشغل الاسر السماوية قبل يومين أو اكثر في الاستعداد للعيد عبر عمل الكاكول والكليجة وإن بنشاط يقل كثيراً عن نشاطها لعيد الفطر . فترى الافران اقل فاعليةً من الايام الاخيرة من شهر رمضان ؛ لكن الاستعدادات لشراء الملابس للجميع ، كباراً وصغاراً ، لارتدائها في عيد الاضحى تبقى كبيرة ... وتميل النساء والفتيات الى تحنية شعر الرأس والكفين مقرونة بالملابس الجديدة كما هي عادة استقبال عيد الفطر .. ومع الايام يتم تبادل الزيارات بين الاسر في بيوتها ، فالسماوة تخلو من وسائل الترفيه التي يمكن ان تستقبل الناس . والمكان الذي يحدد لنصب الاراجيح والدواليب بائسٌ وفي ارض سبخة ومهملة ؛ وحتى الاراجيح والدواليب فهي أيضاً بائسة لا تشبع عين القادم لنهل الهناء والسرور من ساعات العيد . لكن المنتظرين اطلالة العيد شباباً وفتية لا يندبون حظوظهم للبؤس الماثل امامهم ، فتراهم يخلقون من اللاشيء شيء ، فيروحون يستمتعون بما متوفر حولهم من وسائل ، ويقبلون على ايام اربعة بكل ما في قلوبهم من لهفة للاستمتاع ... فيذهبون الى دار السينما لمشاهدة ما اعلنت عنه الادارة قبل ايام ، ويؤرخون لمناسبتهم الجميلة بالتقاط صور يصنعها لهم سيد جليل عزيز او اخوه فاهم ، او هم لديهم كاميرات اعدوها مسبقاً لالتقاط صور حسب مزاجهم والاماكن التي يختارونها بأنفسهم ، ويذهبون الى النادي الرياضي للعب الدمبلة ، ويركبون الاحصنة والعربات ، وقد يصعدون الدولاب والاراجيح المتهالكة .... وفي كل هذا يعلنون فرحتهم وبهجتهم بعيد سعيد ، يتأسفون كثيراً حين تقرب ساعات انتهائه ، مُمَّنين النفس بعيد قادم ولو على بعد أشهر طويلة .
1126 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع