هيفاء زنگنة
سيبقى العراق دولة مارقة!
بذلت الحكومات البريطانية التي تلت حكومة رئيس الوزراء توني بلير، التي شنت مع أمريكا الحرب ضد العراق، عام 2003، ان تنسحب تدريجيا من كل ما له علاقة بالبلد الذي ساهمت بتخريبه.
تُركز سياستها على طمس كل ما يجذب الانتباه إعلاميا وسياسيا الى ما يجري فيه، حاليا، كنتيجة مباشرة وغير مباشرة لاحتلاله، حتى يكاد يكون العراق سرابا انحسر، خاصة بعد انسحاب قوات الاحتلال البريطانية، ونجاح الحكومة في تسقيط القضايا التي رفعت ضد الجيش البريطاني وما ارتكبه من جرائم. وكللت نجاحها بتشريع قانون يحمي القوات العسكرية من المسؤولية تجاه اية جريمة او « انتهاك» يرتكب في العراق وغيره.
هذه المعطيات، مكّنت الحكومة البريطانية من حماية صورتها من أي حدث قد يلوثها في مجالات تعتبرها، ظاهريا على الأقل، تمس حقوق الإنسان ووضع القوات العسكرية العاملة خارج بريطانيا في مهام تُعّلب، غالبا، باعتبارها « مساعدات إنسانية « أو « مُنح تنموية». هكذا تنشط آلة الإعلام والدعاية الرسمية على تغييب العراق، ومسح شن الحرب العدوانية وانعكاساتها من ذاكرة الشعب البريطاني، الذي تظاهر بملايينه ضدها، باستثناء استحضاره، عند الحاجة، كساحة « حرب ضد داعش».
من هذا المنطلق وللإجابة على عدد من الأسئلة المكتوبة لنواب بريطانيين، وضح وزير الدفاع بن واليس، في مجلس العموم، بتاريخ 22 تموز / يوليو، موقف الحكومة استهله بالقول بانه سيتحدث عن « مكافحة داعش»، مهمشا بذلك، منذ البداية، بقية الأسئلة التي قد تحرج الحكومة، خاصة، وما يشير الى مسؤولية الحكومة فيما يحدث اليوم، في العراق، كنتيجة للغزو والاحتلال.
أكد الوزير، عدة مرات، على ان وجود القوات المسلحة في بلدان مثل العراق وسوريا ضروري بسبب وجود صراع مستمر « حيث الأخطار التي تفرضها أمثال داعش والدول المارقة موجودة دائمًا» ومحاربة هذه القوى تجعل البريطانيين ينامون بشكل أفضل في أسرتهم. وهو ذات الموقف الذي طالما تبنته الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء كان الحزب الحاكم هو حزب العمال أو المحافظين، لستر تدخلها الامبريالي واستعمارها في عديد البلدان، مستغلة تخويف المواطن من «الآخر / الإرهابي»، وتحت مسميات مختلفة تناسب الحقبة الزمنية والمصلحة الاقتصادية المتوخاة. فالإمبريالية تحتاج الإرهاب، دائماً. وإن لم يستدعَ الإرهاب استفزازا عبر منع الاحتجاج السلمي وجره للعنف المتصاعد، فهو سهل الصناعة بالتوريط وباختراق التنظيمات السياسية العادية.
وفق هذه السيرورة، يُحذر وزير الدفاع، من “احتمال عودة ظهور داعش هناك» وأنها « يمكن أن تضرب مواطنينا هنا» ويستطرد الوزير لتحيين وتعميق خطر داعش التي « تواصل نيتها في تنفيذ وإلهام الهجمات ضدنا، وتظل أهم تهديد إرهابي للمملكة المتحدة ومصالحنا». وهو ذات الخطاب، تقريبا، الذي استخدمه توني بلير عشية إعلانه الحرب يوم 20 آذار/ مارس 2003. قائلا انه أمر القوات بالمشاركة في “العمل العسكري بالعراق.» حينها لم تكن « داعش» قد صُنعَت بعد، فكانت «مهمتهم: إزاحة صدام حسين ونزع أسلحة الدمار الشامل». لأن « العالم يواجه تهديدا جديدا من فوضى ولدت إما من دول مارقة كالعراق أو من الجماعات الإرهابية المتطرفة… كلاهما يكره أسلوب حياتنا وحريتنا وديمقراطيتنا». وتتوقف « طمأنينة العديد من الدول على شجاعة وتصميم قواتنا». وإذا ما حدث وتساءل البعض عن هذه الدول التي ستوفر لها الطمأنينة، يرد بلير « لقد التزمنا أنا والرئيس بوش للعمل من اجل السلام في الشرق الأوسط على أساس دولة إسرائيل الآمنة ودولة فلسطينية قابلة للحياة».
الخطاب، اذن، واحد لتبرير « تدخل» القوات البريطانية. «العدو « جاهز للاستخدام سواء كان صدام حسين أو أسلحة الدمار الشامل او القاعدة أو داعش. وهل هناك أنبل من مهمة الدفاع عن أمن، ليس البريطانيين فحسب بل والعالم كله، وتوخي، في الوقت نفسه، تحقيق « السلام» بل وحماية أهل البلد المُحتل سواء من قبلهم او ممن غرزوه كما في فلسطين؟
لتحقيق هذا الهدف الانساني، يُخبرنا الوزير: « تواصل طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني القيام بدوريات في سماء العراق، بشكل شبه يومي» وكانت قد شنت 16 هجوما، وضربت 40 هدفًا إرهابيًا منذ تموز/ يوليو 2019. وبفضلها و« بفضل قوات التحالف والقوات الشريكة المكونة من 82 عضوًا في العراق وسوريا»، تحقق النصر. ولئلا يتبادر الى الاذهان ان تحقيق النصر على داعش سيؤدي الى انهاء ضرورة سيطرة القوات الأجنبية على العراق، يقول الوزير متداركا « لكن القتال الصعب ضد داعش لم ينته».
لذلك يؤكد الوزير استمرار دور المملكة المتحدة « القيادي في الائتلاف العالمي» كما هو. فعلى الرغم من تقدير المملكة لقوات الأمن العراقية وتضحياتها في القتال ضد داعش، وعلى الرغم من اكمال أكثر من 50.000 فرد من الجيش العراقي والشرطة الاتحادية وحرس الحدود وقوات الأمن الكردستانية وكتائب الاستجابة للطوارئ التدريب الذي قدمته الدول المساهمة بقوات التحالف. الا انها « لا تزال بحاجة إلى المساعدة الدائمة لإزالة التهديد»، من خلال التدريب والتوجيه والتعليم العسكري المهني من قبل التحالف ومهمة الناتو في العراق والمبادرات الثنائية، بالإضافة الى تقديم الدعم الجوي الأساسي.»
ولم ينس الوزير اضافة الكليشيه الضرورية التي يجيدها المستعمِر عن رعايته للشعوب المُستَعمَرة وعبء الرجل الأبيض متحدثا عن « التزام المملكة المتحدة باستقرار العراق وسيادته»، متناسيا حقيقة مساهمته في تخريب كل ما له صلة بالاستقرار وسيادة البلد، ومنوها بتوقيع « مذكرة تفاهم حول العلاقة الدفاعية المستقبلية» في آب/ أغسطس 2019. وهي في الحقيقة اتفاقية ستسمح لبريطانيا بإبقاء قواتها في العراق. آخذين بنظر الاعتبار، بقائها مادامت مصلحتها تقتضي ذلك، بموافقة الحكومة المكونة من ساسة مُدجنين مهمتهم الأساسية حماية مصالحهم الخاصة ومصالح القوى الخارجية، وهذا ما يذكرهم به الوزير، بوضوح وقوة يصلان الى درجة التهديد، حين يقول « على الحكومة حماية قوات التحالف والبعثات الأجنبية ومحاكمة المسؤولين عن الهجمات. التحالف موجود في العراق بناء على طلب الحكومة العراقية، للمساعدة في الدفاع عن العراقيين وغيرهم، مكررا، ربما للمرة العاشرة في تصريحه، ضرورة وجودهم « ضد التهديد المشترك الحقيقي للغاية من داعش. بدون جهودهم، سيتم تشجيع داعش فقط».
ان اتخاذ أية حكومة قرار توقيع اتفاقية أو معاهدة مع جهة خارجية، يتطلب البحث والتمحيص وقراءة مدى قانونية الاتفاق وحجم الفائدة والضرر من قبل فريق خبراء في المجال المعني، فكيف اذا كانت الاتفاقية او المعاهدة تمس استقلال البلد وسيادته، مع دول احتلت البلد وسببت قتل ما يزيد على المليون مواطن، خلال فترة قياسية في قسوتها وهمجيتها، استنادا الى أكاذيب وتلفيقات بات مسؤولو دول الاحتلال انفسهم يعترفون بها؟ وهل طُرحت هذه الاتفاقيات المصيرية سواء مع بريطانيا أو أمريكا للاستفتاء؟ أم ان الاستفتاء الوحيد الذي سيتم، كما لاحظنا في الأسابيع الأخيرة، عبر التفجيرات والاغتيالات والصواريخ، التي ستبقى اللغة السائدة في « العراق الجديد»؟
1100 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع