مينا العريبي
هل ينجو العراق؟
«تأكدت الانقسامات العراقية بـ:
1-عرف المحاصصة الذي جاء به الاحتلال (شيعة، سنة، كرد، تركمان،أقليات) الذي جوهر العراق في مكونات.
2 - الأحزاب المسيطرة «الشيعية، السنية، الكردية، التركمانية»، التي أرادت تأكيد مكاسبها عبر الانقسام.
3 - الأحزاب الدينية التي استبدلت التنافس الطائفي بالتنافس الحزبي».
كتب المحلل السياسي العراقي هشام الهاشمي هذه الأسطر قبل ساعة فقط من اغتياله أمام منزله، وسط بغداد، ليل الاثنين. الخبر الفاجع هزّ العراق وكل من يهتم بالشأن العراقي، فالهاشمي كان أفضل المحللين للتطورات العراقية، وخاصة ما يتعلق بالجانب الأمني. كان الهاشمي من أقوى الأصوات العراقية ضد الإرهاب، إرهاب «داعش» وإرهاب الميليشيات الخارجة عن القانون. فبعد أن كان المحلل الأكفأ في تعقب الإرهابيين وتحليل تحركات «داعش»، بات من أهم المحللين في الشأن الأمني العراقي وخطورة الميليشيات على الدولة. رغم حبه الشديد للعراق فإنه لم ينجرف وراء عواطفه في تحليلاته، بل كان يعتمد على المعلومات الدقيقة، ويقدم طرحاً منطقياً ومفصلاً للتطورات العراقية. كان يعلم المتابع للشأن العراقي أنه إذا كان مصدر الخبر هو الهاشمي، كان هو اليقين، في وقت تزدحم فيه الأخبار الزائفة عن العراق. عندما وردت الأخبار الأولى عن اغتيال الهاشمي، اتجهت الأنظار إلى حسابه على «تويتر» أملاً في تكذيبه الخبر... لكن التكذيب لم يأتِ، والخبر المؤلم تأكد. الطائفية التي اشتكى منها الهاشمي في تغريدته الأخيرة لم يعرفها هو يوماً، فكان يتحدث كعراقي وانحيازه كان للعراق. لا يميل لطائفة أو عرق أو حزب ما. الهاشمي وطني بامتياز، كان يقدم المعلومة والتحليل لكافة الصحافيين بهدف واحد، زيادة الوعي عن بلده الجريح.
اغتيال الهاشمي له أسباب عدة، على رأسها عدم محاسبة من اغتال مئات من المغدورين سابقاً، ومع الأسف لائحة أسماء هؤلاء تطول، على رأسها الصحافي أحمد عبد الصمد الذي اغتيل في يناير (كانون الثاني) الماضي، والناشط صفاء السراي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وغيرهما من خيرة شباب العراق. لو تمت محاسبة قتلة هؤلاء، ربما كان قد نجا هشام الهاشمي. وربما نجا العراق.
استهداف الهاشمي لم يكن فقط لشخصه، بل كان استهدافاً لمن يقول الحق واستهدافاً لمن يطالب ببسط سيادة القانون ومحاربة الميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون، بغض النظر عن توجهاتها. الرصاص الذي استهدف الهاشمي استهدف معه الحكومة العراقية الجديدة ووعودها بمواجهة الخارجين عن القانون.
توعد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي القتلة، قائلاً: «إن من تورط في الدم العراقي سيواجه العدالة ولن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا أبداً».
لكن هل هذه الحكومة قادرة على تحقيق العدالة؟ الإجابة تعتمد على مبدأ أساسي، وهو سيادة الدولة. على الكاظمي أن يضرب بيد مِن حديد مَن كان وراء مقتل الهاشمي وبسرعة، وعليه أيضاً تقوية مؤسسات الدولة لتستطيع فرض سيادة القانون. هو يدرك ذلك ويسعى لتقليم أظافر الأطراف المتطاولة على القانون. فعلى سبيل المثال، قبل أسابيع أعلن أن كل من يطلق صاروخاً في البلاد هو خارج عن القانون، ويقوم بعمل إرهابي، حتى إن كان من ضمن الميليشيات المدعومة سياسياً أو ضمن مسمى «المقاومة». وكان تحركه ضد «كتائب حزب الله» الشهر الماضي ضمن مسعى الحد من الخروقات الأمنية والاستهتار بسيادة القانون. اعتقلت القوات العراقية عدداً من عناصر «كتائب حزب الله» الذي علناً لا يحترم مؤسسات الدولة ولا الحكومة. ولكن بعد أيام، خرج هؤلاء من المعتقل وتعالت أصواتهم ضد الكاظمي وضد السلطة، بالإضافة إلى تهديدهم الهاشمي وعدداً من العراقيين المعارضين لهم علناً.
الكاظمي كان أمام خيار صعب. إن هادن الميليشيات المتطرفة كسباً للوقت، خسر الحرب ضد الخارجين عن القانون. وإن استعجل المواجهة، قد تندلع معركة من الصعب أن يسيطر على نتائجها. واليوم لا خيار؛ فالمعركة قد بدأت فعلاً.
والكاظمي بحاجة إلى من يسانده في هذه المعركة المطلوبة لا محالة إذا كان هناك أمل في إنقاذ العراق وتحقيق العدالة. الواقع هو أن العملية السياسية في العراق تعتمد على نظام برلماني مشتت بين الائتلافات والأحزاب، ولا يوجد لدى الكاظمي حزب سياسي يدعمه، على العكس تتشكل تحالفات سياسية تسعى للحد من جهوده. لذا يضطر لخلق موازنات سياسية للبقاء في السلطة وتمرير قرارات ضرورية. الموازنات تعني الحاجة للمساومات، لا محالة. وهذه المساومات تعرقل عجلة الإصلاح، وأحياناً تكون على حساب سيادة الدولة. لا يمكن القبول بهذه المعادلة إذا كان الكاظمي جاداً في تعهداته لمنع انتقال العراق إلى «بلد عصابات». يدور العراق في حلقة مفرغة، الإصلاح يحتاج إلى تحالفات سياسية، التحالفات السياسية تحتاج إلى مساومات، المساومات تأتي على حساب الإصلاح. وكلما ازدادت العجلة في الدوران فقد الناس الأمل، ما قد يضعف التفاف الشعب حول الكاظمي.
المحاصصة السياسية والطائفية هي ضمن الحلقة المفرغة التي سئم منها الشعب العراقي وتظاهر ضدها شباب العراق، الذين مات أكثر من 700 منهم في عهد الحكومة السابقة. لكنها مع الأسف ما زالت ملتصقة بالعملية السياسة في العراق. وعلى سبيل المثال، بتاريخ 2 يوليو (تموز)، قدّم الكاظمي ترشيحه حسن البياتي ليكون وزير دولة، من دون حقيبة. ومن المدهش أن رسالة الترشيح، الموجهة إلى رئيس مجلس النواب العراقي، تطلب نصاً «استحداث وزارة دولة يكون وزيرها من المكون التركماني من أجل دعم المشاركة الوطنية في بناء الدولة». كيف يمكن بناء الدول إذا كان التعيين يأتي لحسابات طائفية معلنة؟ كيف يمكن إصلاح حال العراق إذا كان العمل الرسمي يسير على هذه الأسس؟ لا يمكن توجيه اللوم كله إلى الكاظمي، الذي كان قد قدم أسماء عراقية ذات كفاءة عالية لتولي مناصب حكومية، وبينما بعضها تمت الموافقة عليها، رفض عدد من تلك الشخصيات من قبل الأحزاب السياسية، خوفاً على مصالحها. وهذا هو جوهر الفساد الإداري والمالي الذي يجب دحره لتكون هناك فرصة لنجاح هذه الحكومة، والأهم من ذلك نجاح العراق.
بالطبع سيادة الدولة تعني احترام حدود العراق ومنع الخروقات المتكررة من إيران وتركيا. التدخل الإيراني الواضح في السياسة العراقية وتحريك الميليشيات والجهات الفاسدة تضر بالقطاعات العراقية كافة. والقصف التركي المستمر على العراق يتصاعد من دون أي اعتبار للسيادة العراقية.
وبينما على العراق أن يسيطر على المنافذ الحدودية للبلاد ومنع القصف الجوي والخروقات المتكررة لأرضه، الواقع هو أن العراق لا يملك قوة جوية تحميه. بل يعتمد على قوات أجنبية تختصر وجودها على مكافحة «الإرهاب». يدور الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة حالياً، والذي من شأنه أن يحدد العلاقات الأمنية بين البلدين. على الكاظمي أن يقدم ما هو في مصلحة العراق، وليس ما يرضي الأصوات الحزبية التي تريد إرضاء الجانب الإيراني أو تعمل على شعارات شعبوية لا تفيد الصالح العام. العراق ما زال بحاجة إلى الدعم العسكري الأميركي، وعلى الكاظمي أن يشرح ذلك بوضوح وشجاعة للشعب العراقي.
السيادة أولاً وقبل أي شيء آخر تعني حماية المواطن. وفشلت السلطة بحماية الهاشمي وكثيرين ممن أرادوا النهوض ببلدهم. حماية المواطن هي أيضاً من خلال تأمين الأمن ولقمة العيش والحياة الكريمة وحماية المال العام. وهي أساس مطالب المتظاهرين والناشطين الوطنيين العراقيين الذين دعمهم الهاشمي، وهم يواصلون المسيرة رغم الاستهداف المتواصل. عندما يضطر المزارع إلى إتلاف محصوله لأنه لا يستطيع أن ينافس «سعر» المنتج المستورد من الخارج، فهذا خرق لسيادة البلد. وعندما يخاف المستثمر على أمواله من المفسدين، هذا أيضاً خرق لها. وعندما يقبع في السجون آلاف من دون محاكمة أو عدالة، هذا خرق. وعندما يموت المواطن عند باب منزله، هذا خرق سافر.
الحكم على نجاح الحكومة سيكون بنهاية المطاف مبنياً على نجاحها في حماية المواطن وعيشه بحرية وكرامة... وهذا يتحقق بسيادة القانون. ولهذا محاسبة من اغتال الهاشمي في غاية الأهمية... وإلى ذلك الحين، فالرحمة على روحه والعزاء لذويه والمطالبة بتكملة المسيرة ضد الخارجين عن القانون.
عظم الله أجرك يا عراق.
1053 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع