الجنطة!

                                             

                   الدكتور مليح صالح شكر


الجنطة!

للجنطة حكايات كثيرة ويجب أن تروى في هذا الزمن الذي أصبح الفساد والاختلاس والرشوة من سماته اليومية.

كنتُ في القاهرة عام 1977 محرراً لمكتب وكالة الانباء العراقية في العاصمة المصرية .
وآنذاك أقتضت الاجراءات الادارية المعمول بها ان يتم استبدال المستشار الصحفي فاضل عبد الغفور الشاهر بعد ان قضّى فترة أطول من فترات العمل المعتادة في الخارج وبرضى مراجعه الرسمية ببغداد .
كان فاضل الشاهر قد أعد مقراً جديداً للمركز الثقافي العراقي في الجيزة ليس بعيداً عن فندق شيراتون الذي كان وفندق هيلتون بالقاهرة من الفنادق القليلة الكبيرة .
وعندما إلتحق المستشار الصحفي الجديد ماجد أحمد السامرائي كان لابد له ان يقوم بعملية استلام وتسليم مع المستشار فاضل الشاهر ، وكنت حاضراً تلك الحادثة التاريخية التي اوضحت مدى نزاهة موظفي الدولة ودبلوماسيها وأمانتهم في التصرف بأموال الدولة ، وأفتخر بتعرفي عليهما .

          

إستذكرت تلك الحادثة هذه الايام من شهر تموز عام 2020 فور مشاهدتي لمقابلة تلفزيونية مع سمير عبد الوهاب الشيخلي مع إحدى الفضائيات وهو يتحدث بفخر عن اعادته حينما كان وزيراً للداخلية لحقيبة فيها خمسة ملايين دينار( 15 مليون دولار آنذاك ) هي وفقاً للقانون نثرية وزير الداخلية يصرفها كما يرغب لخدمة منصبه دون مطالبته بايصالات رسمية ، ورفضها!
نعم رفضها !
حقيبتي الاخرى التي أتحدث عنها حصلت في القاهرة بين فاضل الشاهر وماجد السامرائي ، المستشار الصحفي المنقول وزميله الذي سيستلم المنصب بعده.
ولا ادري هل يتذكر الاخ ماجد هذه الواقعة بعد كل هذه السنين؟ لكني تذكرت تفاصيلها فور مشاهدتي مقابلة الشيخلي التلفزيونية .
كانت وزارة الثقافة والاعلام والصحف والمجلات الثقافية والتراثية ببغداد تستكتب كتاباً وباحثين وصحفيين مصريين لنشر مقالاتهم في المطبوعات العراقية مقابل أجور ومكافآت لم تكن كبيرة، بل حسب قيمة الكاتب والموضوع الذي ينشره.
وإعتاد فاضل الشاهر ، رحمة الله على روحه الطاهرة ، أن يقوم بصرف أجور ومكافآت النشر لأولئك الكتاب مقابل ايصالات بثلاث نسخ ، واحدة للمستلم ، وواحدة يرسلها الى الجهة التي خولته بصرف المبلغ ببغداد ، والثالثة يحتفظ بها في أرشيف الدائرة الصحفية بالقاهرة .
وفي كل عملية تسليم واستلام ، اجراءات تقليدية تتضمن جرداً بممتلكات الدائرة المعنية ، أو لنقل جرد الاثاث والاجهزة وغيرها ، ولم تكن في المركز الثقافي العراقي آنذاك سوى أجهزة استنساخ وآلات طابعة ، وعرض سينمائي ، واجهزة صوت تقليدية محدودة ، ورفوف الكتب والمجلات وغير ذلك.
وعندما تم انجاز التوقيع بين الرجلين على قوائم الجرد، نهض فاضل الشاهر وسحب جنطة سفر سوداء من خلف كرسيه ، ووضعها أمام ماجد السامرائي ، الذي فوجىء بالموقف ، فسأل ، وما هذه يا ابا فداء؟
فرد فاضل الشاهر ، هذه وصولات بكل ما خولتني الدولة صرفه من مكافآت وأجور نشر طيلة سنوات عملي بالقاهرة!
######

وأعتذر عن تتمة ما قاله فاضل لماجد وقتذاك، ولكن تلك الواقعة ،وواقعة سمير الشيخلي توضح مدى أمانة الرجال الذين أداروا الدولة في تلك الفترات من تاريخ العراق المعاصر.
كان في العراق رجال يتلقون عروضاً مالية باهضة خلال مفاوضاتهم مع الشركات الاجنبية لتوريد مكائن ومعدات وسفن وبواخر وسيارات وبضائع ، ويفاجئون مفاوضيهم بقبول العرض ، وعند انجاز المفاوضات وقبل التوقيع النهائي يطلب العراقيون خصم ما عرض عليهم من قيمة العقد ، وكانت الدولة العراقية تكافىء موظفيها بسيارات ودرجات وظيفية أعلى، وكنت آنذاك على اطلاع بواقعتين من هذه المفاوضات تم تكريم اعضاء الوفد في إحداها بسيارة مرسيدس لكل عضو في الوفد ، وفي الثانية بسيارتين ! وعدد منهم ما يزال حياً .
وحتى لا يدعي من يرغب بالتشكيك في أمانة المفاوضين العراقيين بالزعم ( انهم كانوا يخافون من رجال المخابرات الاعضاء في الوفد)،أقول ان تلك الوقائع جرت قبل سنوات كثيرة من البدء بصيغة اضافة عناصر مخابرات للوفود الرسمية .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

710 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع