داود كركوكلي
"يهود العراق يتكلمون عن أنفسهم" – كتيب الدعاية الذي أصدرته الحكومة العراقية باللغة الإنكليزية 1969
قد يستغرب القارئ العزيز من العنوان الذي وسمت به مقالي، ولكن صبرا فستنجلي لكم الصورة بعد أن نخوض في التفاصيل.
قبل ايام استل ابني من أحد رفوف مكتبتي المتخمة بالمؤلفات عن العراق عامة ويهوده خاصة كتيب صغير بالإنكليزية، بعنوان "يهود العراق يتحدثون عن أنفسهم =Iraqi Jews speak for themselves" ليسألني بعد أن تصفح وريقاته، عن مدى مصداقية ما ورد فيه من شهادات لمواطنين يهود في عراق ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في حقبة تربع فيها حزب البعث على كرسي حكم العراق.
أقفلت صفحات الكتاب الذي كان جليسي في تلك الأمسية لأشرح لنجلي، وهو المهتم منذ نعومة أظفاره بتاريخ أسلافه على أرض الرافدين، الخلفية وراء اصدار الكتيب. قلت يا ولدي هذا الكتيب الذي قلبت وريقاته الان كتيب دعائي نشرته دار الجمهورية ببغداد عام ١٩٦٩ ضمن حملة "بروبوغندا" ممنهجة اطلقها نظام تلك الحقبة القاتمة السواد بالنسبة ليهود العراق في محاولة منه لذر الرماد في عيون العالم الحر. هذا النظام صادر حرية أبناء طيف مسالم من أطياف العراق حيث أمسوا كعصافير في قفص لا يمكنهم حيزه الخانق حتى من فرش اجنحتهم.
انها فترة ما بعد اعدامات يناير/كانون الثاني ١٩٦٩ المشؤومة، يوم نصبت أعواد المشانق وعلقت عليها جثث اليهود بساحة التحرير ببغداد مدينة السلام وساحة البروم بثغر العراق الباسم البصرة. كان معظمهم من الشباب اليهودي الذين اتهموا بالتجسس والخيانة وحوكموا محاكمة "تلفزيونية" صورية نتائجها كانت مقررة سلفا. هذا ماعدا العشرات من الذين غيبوا قسرا واعتقلوا في اقبية ومعتقلات اجهزة المخابرات التي تفننت في ممارسة شتى أنواع التعذيب والتصفيات الجسدية ضدهم.
وعندما تعالت أصوات احرار العالم من دعاة حقوق الإنسان (اشك في أن اليهودي حظي في ذاك العهد بتصنيفه بخانة الانسان) تطالب بفك قبضة الخناق عن رقاب طائفة من أعرق مكونات ارض الرافدين والتي ساهمت في رفع راية الدولة العراقية الحديثة في مجالات عدة.
الكتيب الدعائي تضمن لقاءات مع تجار وأطباء يهود "رددوا" فيها ما املته عليهم الظروف القاهرة استجابة لرغبات النظام الذي وزعه على الصحفيين والبعثات الاجنبية ليكون ردا خائبا لاحتجاجات خرجت في بقاع مختلفة في العالم تطالب برفع الاجحاف والغبن الذي عانى منه اليهود في تلك الفترة.
وبالتالي فإن ما اورده الكتيب من لقاءات هي بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا يمكن اعتمادها كوثيقة لاي غرض كان ما كان سوى أنها شاهد على التنكيل الذي مورس ضد ما يقارب من 3500 يهودي، ما تبقى من طائفة عاشت ما يقارب من 2600 عام في بابل الرافدين، ومحاولة مكشوفة للنظام لتلميع صورته اعلاميا قبل أن يقارب الفصل الاخير من تاريخ الوجود اليهودي ببابل على الانتهاء.
ماكينة الدعاية الحزبية عملت ساعات إضافية لتسويق "معاملتها الحسنة" والحياة الرغدة التي انعموا بها على الطائفة الموسوية كما سميت آنذاك. دعت وزارة الاعلام طواقم تلفزيونية غربية في مدرسة فرنك عيني للقاء هيئتها التدريسية وطلابها اليهود والذين "شكروا"، أمام الكاميرات وآلات التسجيل، حكومتهم الرشيدة على طيب معاملتهم. الطواقم الاجنبية كانت محاطة برجال الامن الذين مهمتهم مراقبة شفاه وتعابير وجوه المدرسين والطلاب اليهود. هذه الطواقم الاعلامية زارت أيضا كنيس يهودي كمثال على حرية العبادة التي وفرتها الحكومة لرعاياها من اليهود أيضا بصحبة رجال الامن.
كنا تحت مجهر الحكم وأجهزته القمعية التي لا يردعها رادع، تختطف وتعتقل وتعذب وتعدم وتقتل من تشاء. هكذا فقدت هذه الطائفة المسالمة أكثر من خمسين شخصا من خيرة أبنائها وبناتها لم يحظى بعضهم بثرى يوارون فيه. هذا بالإضافة للعشرات ممن لاقوا التعذيب والضرب المبرح والاهانات في الشوارع وحتى في حرم جامعة الحكمة التي لم يسلم طلابها اليهود من الضرب والاهانة. ستبقى الشهادات والآلام الحقيقية حبيسة من عاصروا تلك الفترة من امثالي الذين لازالوا أحياء ليدحضوا الأكاذيب وتزييف الحقائق.
حولون – إسرائيل
حزيران 2020
1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع