مبدعو العراق و المصير الكالح...؟

                                          

                            داود البصري     


مع رحيل الفنان و الموسيقار العراقي الشهير ( طالب القره غولي ) أو ما يمكن تسميته ب ( بليغ حمدي ) العراق ، تطوى صفحة مهمة من صفحات الفن العراقي المعاصر الذي إزدهر في أواخر ستينيات القرن الماضي و تفجر إبداعا و حيوية و إنتاجا طيلة مرحلة السبعينيات الإبداعية التي راكمت نشاطات ووجوه فنية و اعمال إبداعية مهمة تمثلت في إبداعات موسيقية فنية غمرت دنيا الشرق بأسره وشكلت وجها حضاريا للعراق كان من الممكن أن يشكل بدايات حقيقية لنهضة حضارية شاملة لولا الحروب الإقليمية و المصائب السياسية التي تهاطلت على البلد وحولته لمصنع لأنتاج الخراب و للغريب من الأفكار الخرافية و العدمية بل تحول اليوم ليكون بؤرة طائفية متفجرة ومركزا من مراكز الأزمات و الحروب الطائفية السوداء و مآلا و مستقرا لكل القوى السوداء التي تتربص بالعراق و الأمة الشر المستطير.

يمثل الفنان الراحل بإبداعاته التي غطت مساحات الزمن الموسيقي الجميل في العراق بعطائه الثري و بقدرته الفذة على تطويع الألحان ، و بقدرته الكبيرة على إكتشاف المواهب و تقديم أرقى الألحان و المشاركات التي تركت بصماتها في تاريخ الموسيقى و الغناء ليس في العراق فقط بل في الشرق بأسره ، لايوجد مطرب عراقي شهير و متميز لم يمر من تحت يد الفنان الراحل ، و لا توجد أغنية عراقية شهيرة لم يلحنها ذلك الراحل الكبير ، ولا توجد قامة فنية عراقية قدمت للعراق كل هذا الزخم الهائل من الأعمال الموسيقية التي تسامت على كل المشاكل السياسية ودخلت عوالم الإبداع الإنساني الخالدة المتسامية على الصراعات و الأزمات المفتعلة ، لقد برز طالب القره غولي بأعماله العاطفية الجميلة التي رددها خيرة مطربي العراق و فنانيه من أمثال ياس خضر و سعدون جابر وفاضل عواد و أنوار عبد الوهاب و أمل خضير ، كما برز بشدة و تميز خلال مرحلة الحرب العراقية/ الإيرانية الطويلة و الدموية المكلفة ( 1980/1988 ) و التي لم يعتبرها الراحل الكبير مرحلة يريد نسيانها نظرا لإرتباطها بعهد الرئيس العراقي السابق و الراحل صدام حسين! بل تفاخر بها و أعتبرها جزءا فاعلا و رئيسيا من تاريخه الفني و الإبداعي و كان شجاعا في هذا الموقف الذي له ثمنه الغالي في العراق اليوم ، في ( القادسية ) و أناشيدها قدم طالب القره غولي أبرز إبداعاته النغمية الخالدة إبتداءا من أول نشيد ( يا سعد يا جدنا ) الذي كان إلإيقونة الموسيقية لتلكم الحرب ، وبرز في تقديم ألحانه للفنانين العرب الذين تهاطلوا على العراق وقتذاك مثل سوزان عطية وسميرة سعيد و غيرهم الكثير ، وكان من الممكن جدا لو كان في العراق حالة إستقرار و سلم أهلي و توافق سياسي و تنمية هادئة أن يبرز الفنان الراحل على المستوى القومي لولا الظروف السابقة ومن ثم دخول العراق بأسره مرحلة الحصار الدولي القاسية التي أتبعت غزو الكويت عام 1990 و التي هشمت العراق بالكامل و أعادته للخلف لألف عام و يزيد و أستنزفت إمكانياته و أطاحت بمثقفيه و مبدعيه بالتعاون مع الدكتاتورية و الإستبداد ، و رسخت كل أسس و معاني التخلف الراهن الفظيع ، و برغم أن الفنان العراقي إذا أراد العيش في العراق فعليه مجاراة السلطة و التغني في بلاطها لتجنب غضبتها و العيش في رحابها و التمتع بإمتيازاتها إلا أن الفنان العراقي وجد نفسه في حالتي المعارضة و الولاء بنفس الحالة المزرية ، فالمصير البائس و النهاية المؤلمة هي الملاذ و المحط الأخير لبلاد لا يمكن أن تقدم سوى العذاب و الدموع و الآلام مثل العراق ، وجميعنا يتذكر مأساة الفنان العراقي البصري ( فؤاد سالم ) الذي كان يعاني من درزينة من الأمراض و العلل التي أصابته بالشلل في الشام و لا أدري أين هو الآن ؟ و كان فنانا معارضا بصلابة للنظام العراقي السابق وهو ما كلفه الكثير الكثير من إنعدام الراحة و الإستقرار و الضمان الصحي و المعيشي وكسب إحترام الشعب العراقي دون شك ، أما الفنان الراحل طالب القره غولي فرغم عمله الطويل في دروب السلطة السابقة و تبؤأه لمنصب موسيقي متقدم في العراق إلا أن ذلك لم يشفع له ليكون مرتاحا و مظمئنا للمستقبل بل تشرد في شيخوخته في الشام ردحا من الزمن بعد الإحتلال خشية من عمليات القتل و الإنتقام التي قامت بها الميليشيات الطائفية و الإيرانية حتى بلغ به الوهن قمته ليعود للناصرية التي نطلق منها بذلك ( الريل ) أو القطار ليموت فيها عليلا و حزينا و يختتم مرحلة عطاء وإبداع طويلة إمتدت لأكثر من نصف قرن طبع خلالها الغناء و الموسيقى في العراق بطابعه الجميل و السهل الممتنع الذي لا ينسى أبدا و سيظل خالدا في سجل و سفر الخالدين ، فيا أيها الراحل الكبير ( وداعتك ذاك أنت غالي .. و إعزاز وحق الله إعزاز.. و بالقادسية شهودنا... و جذاب دولبني الوكت بمحبتك جذاب )... و يبدو أن مصير المبدعين في العراق مرتبط بمصير العراق البائس ذاته ، فشاعر الإنسانية الكبير بدر شاكر السياب مات عام 1964 في الكويت وهو يجر حسرته على ( العراق البعيد المختزن بالبروق و الرعود ) ، كما أن الموت طوى صفحات فنانين كبار عانقوه في غربتهم و تشردهم مثل الراحل الملحن كمال السيد وغيره الكثير ، و اليوم يأتي الدور على الراحل الكبير طالب القره غولي ليغمض عيونه و يطوي إبداعاته و العراق الذي غناه و تغنى به يعيش في أردأ أحواله الحضارية و السياسية... فرحم الله فنان الشعب الراحل الكبير ، وسيظل التاريخ هو الحكم الأول و الأخير...

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

897 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع