حسين الحلي
(كاتب واعلامي عراقي مقيم في كندا)
ذكريات عراقية في الغربة لا تنسى -١ - قرآن سليم حاييم
شكل عام 1995 مرور 3 سنوات على اقامتي في بلدي الجديد كندا.. وكان عاما زاخرا وثريا اجتماعيا ومعلوماتيا بالنسبة لي فقد تعرفت على الكثير من أبناء الجالية العراقية من يهود العراق المقيمين في مونتريال ومنهم كان الصديق الراحل “سليم حاييم” ذلك الانسان اللطيف المهذب الواسع المعلومات والذكريات..
ولد “سليم حاييم” في بغداد لعائلة ميسورة الحال ثرية فوالده كان من مؤسسي غرفة تجاره بغداد وأحد أهم اعضائها وهيئة ادارتها المحترمين والمرموقين وكان والده رجل اعمال معروف في بغداد فقد افتتح اول سينما في بغداد وجهزها بأحدث المعدات والاجهزة ووسائل الراحة. كان منزل أهل سليم يقع في شارع الرشيد حيث قدم لي يوما صورة للمنزل في شارع الرشيد ذلك الشارع التراثي الذي كان يعتبر قلب مدينه بغداد. حكى لي سليم " كنت أخرج من منزلنا وأذهب الى ابو نؤاس حيث كان هناك ناديا فيه حديقة كبيرة واسعة وينتظرني سايس الخيول ليحضر لي حصاني لأركبه وانا مرتدي بدلا الفروسية الكاملة والتقي هناك بالوصي عبد الاله الذي كان هو الاخر يأتي ويركب فرسه ونتجول أنا وهو على خيولنا لساعات.. كان الوصي شخص دمث الاخلاق مؤدب ويحترمني كثيرا".
عندما التقيت بسليم للمرة الاولى وتعرفت عليه في مقهى- گهوة (موشي) وهو ركن في مول “روكلاند” في مدينة مونتريال الذي حرص يهود العراق على الالتقاء فيه صباح كل يوم سبت مع بعضهم البعض للتسامر والحديث في شؤون الدنيا والذكريات العراقية الجميلة.. كان الصديق يعقوب قطان) قد أطلق هذه التسمية على ركن كبير مليئ بالكراسي والطاولات أشبه بمقهى عراقي وسماه (گهوة موشي) قائلا لي ضاحكا" " يا ولد حسين كان أبغداد قهوه أروح لها مع والدي اسمها قهوه موشي". وبعد التحري وجدت فعلا قهوة شهيرة كانت موجودة في جانب الكرخ مطلة على النهر تدعى (گهوه موشي)!
هناك تعرفت بسليم حاييم وتوطدت علاقتي معه وأصبحت كمن من عائلته حيث دعاني الى منزله وتعرفت بزوجته اللبنانية السيدة أندريه طوطح (من عائلة عدس السورية الاصل).
كانت أندريه سيدة لطيفه تتحدث العربيه باللهجة اللبنانية بطلاقة وكان سليم في كل مره أكون عندهم في المنزل مع زوجتي حريص كل الحرص على سرد حكايات عراقية قديمة لنا وكنت ادون بعضها وكان عند الحديث يبدوا متعصبا لعراقيته يرفض تعريف تعبير يهود وعرب ويقول "كلنا عرب، هناك من هم ديانتهم يهود ومسلمين ومسيحيين)!. وكان متمسكا عصبيا في الجدال حول هذا الموضوع.. ففي أحد المرات وكنا انا وهو جالسين في (مقهى-گهوة موشي) مع الصديق المرحوم اسحق سيغال وأخرين نتحدث مع بعض بلغتنا البغدادية العراقية وبضجيج العراقيين عندما يلتقون ويتحاورون وكأنهم يتعاركون كان هناك في الجانب الاخر شخص كندي ينصت وينظر الينا وعندما إستدار سليم ناحية الرجل سأله الرجل "أنتم يهود أليس كذلك؟" فأجاب سليم بنعم فقال الرجل "ولكن ما هذه اللغة التي تتحدثون بها انها ليست عبرية؟" فقال سليم بحدة "هذه لغة عراقية عربية نتحدث بها" تعجب الرجل وعاد للسؤال "ولماذا تتحدثون بلغة عربية وأنتم يهود؟" فقال سليم مخاطبا الرجل "نحن يهود عرب وهذه لغتنا التي كنا نتحدث فيها في بلداننا"! صمت الرجل وعبس وجهه وبدا عليه عدم فهم عباره "يهود عرب". حاولت انا أن اتدخل واشرح له فقال لي سليم "اتركه حسين هذوله حمير ما يفهمون بينا ولا يعرفون شي عنا"! ضحكت لجواب سليم. فقال لي "حسين انا من كنت في بغداد لم نتربى على شيء يهود وعرب أنا لا اعترف بهذا المصطلح.. هل تعلم عندما جئت مونتريال كنت أبحث عن زوجة مصمما أن تكون عراقية أو عربية من بيئتي تعرف ما أعرف وتفكر كما أفكر وعندما لم أجد عراقية بحثت عن العربية فالتقيت باندريه اللبنانيه وتزوجتها ولم أكن أرغب بالزواج من كندية يهودية لأنني كنت أريد القواسم المشتركه الاجتماعية والثقافية والدينية بيننا".
وقد سنحت فرصه لي لمشاهده زواج سليم واندريه في كندا في مدينة مونتريال من مقاطعة كويبيك الفرنسية الذي كان في اوائل الستنيات فقد أحضر لي سليم مجموعة من الصور وشريط سينمائي 8 ملم طالبا مني نقله على فديو وأخبرني انه فلم حفل زواجه من اندريه الذي كان قد اقيم في فندق "الريتز" الشهير في مونتريال. كانت مشاهد الفلم التي نقلتها جميلة تظهرا حفل عرس كبير شمل الكثير من اصدقاء سليم من يهود العراق والكنديين.
في أحد الايام اتصل سليم بي داعيا اياي أنا وزوجتي لمنزله يريد أن يعرفني بشقيقته التي قدمت من أمريكا. ذهبت الى منزله هناك التقيت بسلفيا حاييم (خضوري) الاستاذة في الادب العربي والاسلامي وزوجة المرحوم المفكر العراقي اليهودي المعروف ايلي خضوري. جلست ساعات مع سيلفيا التي بهرتني بثقافتها وكثرة اطلاعها وقدمت لي نسخة من نشره فصلية تدعى "دراسات الشرق الأوسط" وهي مجموعة من الدراسات والمقالات والابحاث الفكرية في الدين والمجتمع والسياسة تتعلق بالشرق الاوسط لكتاب يهود عراقيين وكتاب عرب. وهي النشرة التي كان قد أسسها زوجها المفكر المرحوم خضوري وبقيت هي تديرها. وكان عددا ثريا بموضوعاته الفكرية والمعلوماتية. بقيت التقي بسلفيا في كل مرة تأتي لمونتريال في زياره اخيها سليم وفي كل مرة اغتني من الحوارات مع سيدة عراقية مفكرة ومطلعة.
في أحد الزيارات لسليم في منزله تركني أحتسي الشاي والحلوى اللذيذة التي أعدتها اندريه وغاب فترة ثم عاد وبيده بما يشبه كتاب صغير بجلد أسود وقال لي "حسين هذا قرآن ورثه والدي من جده وهو مكتوب بخط اليد ومطرز بالذهب وقديم رافقني من العراق الى لبنان واوربا ثم الى كندا كل هذه السنين.. أود أن أهديه لك لان أولادي من بعدي لا يفقهون بمثل هذه الامور ليبقى عندك تعرف قيمته وتحافظ عليه" !! دهشت لكلام سليم وقلت له "لا عزيزي سليم هذا يعود لك احتفظ به ولك العمر الطويل". أصر سليم أن أخذ القرآن فرفضت معتذرا بأن يكون معه طالما هو على قيد الحياة.
في أواخر عام 2016 كنت مسافرا للاردن وعدت اوائل عام 2017 وعند عودتي لمونتريال علمت بخبر محزن وهو رحيل صديقي العزيز - سليم حاييم. صدمني الخبر وحزنت كثيرا لرحيله. كان صديقا عزيزا طيبا عاصرته لسنوات طويله كأخ كبير. وفي يوم 21 نوروز من نفس العام كانت زوجتي قد دعت الاصدقاء للاحتفال في منزلنا بحفله نوروز التي تحرص على اقامتها كل عام.. قدم الكثير من أصدقائي من يهود العراق وقدمت اندريه زوجة المرحوم سليم والتي سارعت بتحيتها معزيا لها بموت سليم فقدمت لي حقيبة قالت أنها هدية لزوجتك بمناسبه نوروز وتوجد هدية خاصه لك وصيه من سليم. تعجبت واستفسرت عن ماهي؟ فقالت: "القرآن الذي كان لديه أوصى قبل موته بان يكون لك! ".. تألمت وقلت لها: "لماذا لا يبقى معك؟". فقالت "لا.. هو أوصى بان يكون لك عزيزي.. هذه وصيته".
وقرآن سليم الذي تركه لي وضعته في دولاب زجاجي خاص أتطلع اليه احيانا ويذكرني بالعزيز سليم رحمه الله وقد عرفت أن هذه النسخة من القرآن قديمة من الحقبة العثمانية حوالي عام 1772 ميلادية.. كل يوم أرى القرآن وأتذكر ما قاله سليم لي "هذا القران أنت خير من يرعاه ويفهم قيمته لان أولادي لا يفهمون بهذه الامور أخاف عليه من بعد وفاتي"!
والآن وأنا في الغربة أمر بنفس حالة سليم ووضعه وربما قلقه.. فسوف يأتي يوم أرحل أنا عن هذه الدنيا واولادي هم أيضا تربوا هنا كاولاد سليم ولا يفهمون بهذه الامور ولا اعرف أين سينتهي قرآن سليم حاييم؟؟
1137 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع