إنهم لا يعرفون الشعب العراقي

                                                 

                            هيفاء زنكنة

إنهم لا يعرفون الشعب العراقي

انهالت التهاني على « العراق»، كما الحامض حلو على رأس عروس أو رأس ولد في حفل ختانه. وأخيرا، صار للعراق رئيس وزراء جديد، يدعى مصطفى الكاظمي. صحيح أنه غير منتخب، رشحه رئيس جمهورية غير منتخب، إذ لم تزد نسبة الناخبين، في المرة الاخيرة، عن 18 بالمئة، إلا أن هذا غير مهم، فبعد انقضاء خمسة أشهر على اجبار المنتفضين رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة، وبعد فشل مرشحين اثنين في الوصول الى خط النهاية، لم يعد هناك الكثير من الأمور المهمة بالنسبة الى ساسة « العملية السياسية» ومديريها. المهم أن يتم تعيين رئيس وزراء، أيا كان، وتقديمه باعتباره المنقذ بعد أن تم تعليق كل المساوئ، بضمنها قتل المنتفضين، بمشاركة وعلم الجميع، على شماعة رئيس الوزراء السابق.

حصلت المعجزة اذن، وُلد الطفل الذي يتنازع على أبوته اثنان، في بلد يدعى العراق. حال اعلان الولادة/ تشكيل الحكومة الناقصة، سارع الأبوان المتنازعان للاحتفال. مايك بومبيو، وزير خارجية أمريكا، كان الأول. لم يتحمل الانتظار فأرسل تغريدة ذكر فيها أنه «من الرائع التحدث مع رئيس الوزراء العراقي الجديد». وكاد، لفرط سروره أن ينهي التغريدة لولا تذكره أنه نسى إضافة الكليشيه الجاهزة أي « الشعب العراقي» أو أهل البلد المضَّيف (كما هو متعارف لدى قوات الاحتلال على تسمية أهل البلدان المحتلة)، فأكمل قائلا: «لقد تعهدت بمساعدته على تنفيذ أجندته الجريئة من أجل الشعب العراقي». ونافسه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، باستخدام كليشيه « الشعب العراقي»، مؤكدا « أن إيران ستقف دائما بجانب الشعب العراقي».
كلاهما يدعيان أنهما إنما يقومان بكل ما في وسعهما، وبذل كل التضحيات المادية والبشرية، من أجل « الشعب العراقي»، مما يثير، في خضم تبادل التهاني وتنفس الصعداء بالتصويت على الحكومة الجديدة، تساؤلا جوهريا، قلما يتم التطرق اليه، منذ غزو واحتلال البلد عام 2003، وهو: عن أي شعب يتحدثان؟ وأين هو هذا « الشعب العراقي» الذي يدّعيان الاهتمام به والعمل من أجله في مسار نزاعاتهما واقتتالهما ومفاوضاتهما على أرضه، بعيدا عن أراضيهما، حفاظا على مصالح أمنهما القومي؟ هل هو شعب افتراضي من « مكونات» استحدثت ونُشرت على ارض البلد، كالعشب الضار، آملين ان تكون، بمرور الوقت، الشعب المُراد تفتيته بين ديمقراطية الشيطان الأكبر وولاية فقيه الشيطان الأصغر؟
ماذا عن الشعب الآخر الذي قاطع الانتخابات، بشكل شبه جماعي، والشعب المقيم، بملايينه، في مخيمات النازحين والمدن المهدمة، ومئات الآلاف من المعتقلين والمسجونين والمختفين؟

ماذا عن الشعب الذي تكاد الاحتجاجات والاعتصامات أن تكون، لاستمراريتها، مطبوعة على جيناته ضد قوات الاحتلال الانكلو أمريكي أولا ثم ضد حكوماته بالنيابة والميليشيات المدعومة إيرانيا ثانيا، وضد كليهما وكل ما يمثلانه في انتفاضته الأخيرة منذ تشرين / أكتوبر 2019؟ الانتفاضة التي أجبرت عادل عبد المهدي على الاستقالة بعد أن تم تقديمه، كما هو مصطفى الكاظمي اليوم، باعتباره السياسي المعتدل، مالك الحل السحري لفض النزاع بين الشيطان الأكبر والأصغر، وخلق التوازن المطلوب بين المُحتَلين وساستهما المحليين. الانتفاضة التي لم تنجح الميليشيات، بتعاون أو تعامي القوات الحكومية في القضاء عليها، بل تأجلت، جزئيا، بعد انتشار وباء كورونا وحرص المنتفضين على سلامة عموم الشعب ليثبتوا بذلك، أنهم «الشعب العراقي»، المُهمل، المستهان به، الذي عمل المحتل على تغييبه، ومع ذلك يواصلون النضال بتكلفة الدم الغالي الذي دفعوه، بآلاف الضحايا ومئات آلاف الجرحى والمختطفين. إنهم « الشعب العراقي» الذي خرج مطالبا باستعادة وطنه وسيادته وهويته الوطنية ورحيل المحتلين الأمريكي والإيراني، وليس، كما يردد يوميا، ومع كل تغيير لأقنعة الوجوه الفاسدة، ان يكون حشية أرض يتبادل عليها المحتلون الأوضاع.
إن الصورة التي رسمها عدد من العراقيين المتعاونين مع الإدارة الامريكية في فترة ما قبل الغزو، وكان مصطفى الكاظمي واحدا منهم، عن شعب سيستقبل قوات الاحتلال بالزهور والحلوى، تمزقت مع قتل أول جندي للاحتلال، كما هي صورة الشعب الراكض للتضحية بنفسه من أجل «الأمام» ، التي فقدت وهجها العقائدي، بعد مرور 17 عاما على الاحتلال، وتأكد الشعب من أن شجرة التضليل سواء كانت مستندة على الديمقراطية أو « الدعوة» الدينية / الطائفية، بقيت هوائية بلا جذور في المجتمع العراقي، على الرغم من كل الجهود التي بذلها رؤساء الوزراء الذين سبقوا الكاظمي بدءا من أياد علاوي والجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وانتهاء بعادل عبد المهدي، والذين تم تعيينهم، كلهم وفق المحاصصة الطائفية وإن بتعديلات طفيفة على السطح مثل إضافة صفة « المعتدل» أو « المستقل»، وكلهم، كما الكاظمي، كان الشرط الثاني لتعيينهم هو الحصول على رضى أمريكا وإيران معا، بحجة تحقيق ما يسمى بالتوازن السياسي داخل العراق.
طوال هذه الفترة، تعامل المحتل وساسته المحليون مع الشعب باعتباره هامشا في صفحة يكتبونها هم، الى أن رجرجت انتفاضة تشرين الأوضاع بقوة وكان بالإمكان أن تؤدي الى تغييرات حقيقية تمس جوهر العملية السياسية والفساد المستشري لولا انتشار وباء كورونا الذي وفّر للنظام فرصة تمديد البقاء. الأمر الذي يعيد الى الأذهان ذات التساؤلات التي واجهها رؤساء الوزراء السابقين وأهمها مدى معرفتهم بالشعب العراقي الحضاري، الأبي، المعتز بكرامته وحقوقه، ومدى ولائهم وتمثيلهم لهذا الشعب والوطن، بعيدا عن الرطانة الخطابية. وبالنسبة الى الكاظمي، هل سينفذ مطالب المنتفضين، ومن بينها تقديم المسؤولين عن قتل المتظاهرين الذين زاد عددهم عن 600 شخص وجرح أكثر من 24 ألف آخرين، الى القضاء، خاصة وأنها خطوة ستتطلب التحقيق معه، أيضا، بحكم كونه رئيسا للمخابرات، يفترض فيه، معرفة الفاعلين، أكثر من أي شخص آخر في حكومة تتحمل المسؤوليّة المباشرة عن الكثير من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وانتهاكات ترتقي الى جرائم ضدّ الإنسانيّة؟
ثم أليس هذا هو « نفس الطاس ونفس الحمام»، ما دامت الحكومة الجديدة، قد تم اختيار أعضائها وتعيين رئيسها من قبل نفس أشخاص النظام الفاسد وأحزابه وميليشياته؟ يشير نزول المحتجين الى الشوارع، في بغداد وعدة مدن أخرى، حال انعقاد الجلسة الاولى للحكومة الجديدة، أنهم يعرفون الأجوبة مسبقا وأن لعبة التسويف والمناورات، من ذات الوجوه، لم تعد تنطلي على أحد.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

843 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع