صفوة فاهم كامل
في وداع الأميرة بديعة أخر أميرات العراق
لم تعج مواقع التواصل الاجتماعي ومحطّات التلفزة في العراق مثلما عجّت خلال الأيام الماضية فور إعلان نبأ وفاة الأميرة بديعة بنت الملك علي، في منفاها الاختياري في العاصمة البريطانية لندن، صبيحة يوم 9/5/2020 عن عمرٍ ناهز المائة عام أثر شيخوخة صالحة، وتاريخ ناصع، ومسيرة طويلة، كان في وسطها جرحٍ لم ولن يندمل. وتوشحت صفحات المواقع بصورها وعائلتها، وبكلمات الرثاء والنعي المؤثّرة والعبارات والخواطر الحزينة.
هي خالة ملك العراق الشهيد فيصل الثاني، وشقيقة ولي عهده الأمير عبد الإله، وابنة الملك علي، ملك الحجاز وحفيدة الشريف حسين ملك العرب. ولدت في دمشق في 20/3/1920، وتنقّلت خلال حياتها الطويلة إلى عدّة مدن منها مكّة والرياض وعمّان وبغداد والقاهرة وسويسرا حتى استقرت في نهاية المطاف لتمضي خريف عمرها في لندن.
تُعتبر الأميرة بديعة ثاني شخصية في العائلة تُعمّر، وتبلغ القَرن من السنين بعد عمّتها الأميرة صالحة بنت الحسين، التي توفيت عام 1996 عن عمر ناهز 106 سنة، وكأن الله جلّت قدرته أراد بهذه القدر أن يطول بعمر هاتين الأميرتين ليعوّض عن مَنْ توفى ورحل مبكّراً من أبناء العائلة في أزمان مختلفة وهم في أعمار ما بين الصبا والشباب والنضج، فالملك فيصل الأول توفي أثر سكتة قلبية وهو بعمر 50 سنة وزوجته الأميرة حُزيمة بنت ناصر، توفيت وهي بعمر 51 سنة، وابنتهما الأميرة رئيفة أو (رفيعة) توفيت وهي صبية، ووالدها الملك علي، توفي اثر نوبة قلبية وهو بعمر 56 سنة والملك غازي توفي بحادث مؤسف وهو في عمر 27 سنة، والأميرة عالية توفيت بمرض عُضال عن 39 عاماً وهي في ريعان شبابها وفرحتها بابنها الوحيد، والأميرة جليلة توفيت حرقاً بعمر 33 سنة وهي لا زالت عروس، والأمير عبد الإله الذي أُبيد وسُحل وهو بعمر 45 سنة، وشقيقته الأميرة المعطاء عبديّة التي قُتلت معه، وهي بعمر 51 سنة، وأخرهم الملك اليتيم البريء فيصل الثاني، الذي بُطشَ جسده الطاهر وخرَّ صريعاً وهو في زهرة شبابه وزفافه عن 23 سنة.
ترعرعت الأميرة بديعة في كنف والدها وعمّها وبقية أفراد الأسرة الهاشمية، ثمَّ انتقلت مع أمها وأخيها وشقيقاتها إلى قصر الرحاب، وأمضت معظم طفولتها وصِباها وشبابها معهم.
في عام 1950، تزوجت من الشريف حسين بن علي، لينفرد الزوجان في بيتهما الجديد الذي أشرفت شخصياً على بناءه وأنفقت الغالي والنفيس عليه، وأنجبت فيه أولادها الثلاثة الأشراف محمد وعبد الله وعلي. عاشت الأميرة بديعة حياة بديعة وسعيدة في بغداد ولها ذكريات جميلة ظلّت راسخة في مخيلتها رغم ما أصاب العائلة من نكبات. وعُرف عنها إنها امرأة اجتماعية تُحب الحياة، ودودة من الجميع، راعية للتقاليد العروبية الهاشمية، إلى أن غادرت العراق مُكره مُجبرة بعد شهر من انقلاب 14 تموز الأسود عام 1958، وهَجرت إلى الأبد، بيتها الأنيق في ضاحية المنصور وذكرياتها البهيجة عن بغداد وأيامها الناظرة في العراق.
في أخر ظهور علني لها في لقاء متلفز وهي على أعتاب التسعين من العمر، تحدثت الأميرة بديعة بحرقة وألم شديدين وخاطبت من غيّبَ أسرتها وحرمها من صلة الرحم مع عائلتها الوديعة وقالت مرتجفة من كلام يبكي القلب ويُدمع العين وتقشعرُّ له الأبدان: (أريد أن يعرف العراقيين كم عذبوا أخي... ولماذا؟ قدّمَ أربعة عشر عاماً من شبابه للعراق بإنصاف ومحبة وفخر... لم يكن عدوٌ لهم ولا ظالم لأحد... لماذا فعلو بنا ذلك ونحن أحفاد الرسول؟ ولماذا ذهب فيصل العريس ذي الثلاثة وعشرين عاماً بطلقة غادرة؟ غدرَكم هذا، كان مثلما غدرْتم بجدنا الحسين تماماً. أريد أن أسأل لماذا يا عراقيين فعلتم بنا ذلك؟ هل نستحق ما فعلتموه بنا وبأهلي؟ لا أعرف أين قبر أمي وأختي وما بقي من جسد أخي... لم نسرق ولم نفعل ولم نقتل...! ماذا فعل لكم أخي البريء... لا أقدر أن أغفر للعراقيين ذنوبهم ... الله هو الغفّار ...) وقالت أيضاً (إنا أُسمّي العراق مقبرة الهاشميين وهو مقبرة الهاشميين ...!)
رحيل الأميرة بديعة، جاء متلازماً مع استلام رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي منصبه الجديد، فغرّدَ في صفحته قائلاً: (بوفاة الأميرة بديعة ابنة الملك علي، تطوى صفحة مضيئة ومهمة من تاريخ العراق المعاصر. كانت الراحلة جزءًا من مشهد سياسي واجتماعي مثّل العراق خير تمثيل ...)!
سيرة مائة عام من عمر الأميرة اختصرها السيد الكاظمي، بكلمات مقتضبة ورثاءٍ خجول...!
أما كان الأحرى بروتوكولياً أن يصدر ديوان رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء بياناً رسمياً لائقاً أو كلمة تأبينية ينعي فيها وفاة أميرتهم ويواسي الشعب العراقي هذا المصاب الجلّل؟!
وهذا أقل تقدير يوازي ما فعلها أبناء عمومتها في الأردن حينما أصدر الديوان الملكي الهاشمي بياناً نعى فيه وفاة صاحبة السمو الملكي.
كنّا نتطلّع أيضاً أن يبادر رئيس الوزراء متلطفاً، بأرسال نجلها الشريف علي بن الحسين بطائرة خاصة إلى إنكلترة، استثناءًا من الظروف الصحية غير المواتية في العالم الآن، والعودة مع جثمانها إلى بغداد إجلالاً، وتشييعها بمراسيم وداع تُليق بأخر أميرة هاشمية من الأسرة الملكية الحاكمة، وإكراماً من الدولة العراقية لعائلتها الصغيرة المتبقية، وكبادرة حسن نيّة، للصفح والعفو أمام العراقيين عما اقترفته أيديهم، وأن توارى الثرى مع بقية أسلافها في رحاب المقبرة الملكية في الأعظمية لتكون الضيفة الثالث عشرة والأخير في هذه المقبرة.
لكنَّ الأميرة الراحلة ومنذ أمد غير قليل كانت قد أوصت في وصيتها أن تدفن بجوار زوجها الشريف حسين، في مدفن العائلة الخاص والأنيق غرب لندن.
إن غياب الأميرة بديعة، عن مسرح الحياة هو بمثابة غياب أخر شاهد على قرن من الزمن من تاريخ العراق الحديث، والشاهد على كل عروش عائلتها الكبيرة التي لم ترث منها أي شيء، ويبقى التاريخ هو الشاهد الأكبر. لكن في المقابل فإن محبي ومناصري العهد الملكي الزاهر، يتوسّمون اليوم ويحدوهم الأمل في أن يُمضي نجلها الأصغر الشريف علي بن الحسين، راعي الحركة الملكية الدستورية، بمسيرته السلمية الهادئة كوريث لعرَش العراق، لحين عودة الحقّ إلى نصابه واليقين إلى أصحابه.
الّلهم أمطر على قبرها الطاهر شئابيب رحمتك، وعزائم مغفرتك واحشرها مع النبيين، والصديقين والشهداء، وعطّر مثواها بالطيب أينما وريت بأرضك ...
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لئـن حُرمت ثرى بغداد تنـزِلُهُ
وما كمثل ثراها طيبُ أبشارِ
1109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع