الإشاعة

                                                     

                             د. زكي الجابر

الإشاعة

حِوارٌ أجراه: عبد السَلام بِنْعِيسى
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد

- أُستاذ زكي الجابر، لِنَفتَتِح معكَ هذا الحوارَ حولَ صَحافَةِ الإشاعةِ بالتَساؤُلِ حَولَ مَعنَى كلمةِ إِشاعة، وما هُو تَعريفُها؟
- الإشاعةُ هي خَبَرٌ مُبالَغٌ فيهِ أو غَيرُ حقيقيٍّ وابنُ ساعَتِه، وَيَتِمُّ تَنَاقُلُه وتَدَاوُلُه شِفاهِيّاً بينَ الجُمهورِ. وبِهذا المعنَى يُمكِنُ أن تُستَخدَمَ الإِشاعَةُ في نِظامٍ عامٍّ منَ الدعايةِ، ولكنَّها ليستْ رُكناً أساسيّاً في الدِعايةِ، خصوصاً الدِعايةِ السِياسيَّة. والقانونُ العامُّ الذي يَسودُ الإِشاعةَ ويتحكَّمُ فيها يتحدَّدُ في إطارِ الغُموضِ بالإضافةِ إلى الأَهمِيَّةِ، أَي أَنَّهُ كُلّما كانَ هناكَ تَعتِيمٌ على الأخبارِ وعَدَمِ وُصولِها إلى الجُمهور، وكُلّما كان هناك غُموضٌ في رُؤيةِ الأَحداثِ، وكانتِ الأحداثُ التي يعيشُها البَلدُ تَكتَسي أهميَّةً خاصَّةً إلّا وتَنتشرُ الإشاعةُ وتزدهرُ بين صُفوفِ الجُمهورِ. ومكافحةُ الإشاعةِ في ظلِّ هذا الوضعِ تَنحَصِرُ في مُهِمّةٍ واحِدَةٍ هي رَفعُ الغُموضِ عَبْرَ نَشرِ الأخبارِ الحقيقيّةِ، ذلكَ أَنَّه عندما تكونُ الأخبارُ مُتاحَةً لِجميعِ الناسِ، وتَكونُ هذه الأخبارُ صادِقةً وتَعكِسُ ما يَعيشُونُه في واقِعِهم فساعَتَها لن يكونَ هناكَ أيُّ داعٍ لانتشارِ الإِشاعةِ ولاختلِاقِها.
- نَشْرُ الأخبارِ مُهِمَّةُ وسائلِ الإعلامِ السَمعِيّة – البصَرَيّةِ والمكتوبةِ، فهَلْ في دُوَلِ العالَمِ الثالثِ، حيثُ تَنتَشرُ صَحافةُ الإشاعةِ، لا تَقومُ وسائلُ الإعلامِ بِدَورِها في نشر الأخبار؟
- من الأُسُسِ التي انْبَنَى عليها وُجودُ وَسائلِ الإعلامِ تَنظيمُ وصُولِ الأَخبارِ وتَزويدُ الجُمهورِ بها لِلتَقليلِ مِن أهميَّةِ انتِشارِ الإشاعة. فهذهِ هيَ وظيفةُ أجهزةِ الإِعلامِ المُتغَلْغِلَةِ وَسطَ الجَماهير، فمن أجلِها ظَهرَتْ وأُنشِئَتْ وأصبحتْ مُؤَسسَّاتٍ لها إمكانيّاتٌ مادِّيَةٌ وبَشَرية لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ولكنَّ الذي حَدثَ هو أَنّنا نَعيشُ الآنَ في عالَمٍ لا يَقومُ فيه الإِعلامُ بالدورِ المَنُوطِ به، ولكنّهُ يؤدّي عَكْسَ الوظيفةِ التي أُنشِئَ بِسَببِها. إنه يَقومُ بتَضليلِ الرأيِ العامِّ ولا يُقدِّمُ الأخبارَ بشكلٍ يَشفي غَليلَ الجُمهورِ ويُجيبُ على تَساؤُلاتِه. لَنْ أَقِفَ هنا عندَ الصِيغةِ الإخباريّةِ المشهورة: ’’التَقَى المسؤولُ الفُلانيُّ بالمسؤولِ الفُلانِيِّ‘‘ دُونَ إِعطاءِ مضمونِ الحديثِ الذي دارَ بينَهُما، ولكنّني أَقصِد أحداثاً كُبرَى من الأهميّةِ بمكانٍ مَرَّتْ بها الأمّةُ العربيّةُ والعالَمُ أيضاً من غَيرِ أن يَظهَرَ لها أيُّ أَثَرِ ساعةَ الإعدادِ لَها عَبْرَ وسائلِ الإعلام. وكَمِثالٍ واحدٍ على هذه الأحداثِ المُحادثاتُ الفِلسطينيةُ الإسرائيليةُ التي جَرَتْ في أُوسلو والتي أَسْفَرتْ عن اتّفاقِ إِعلانِ المَبادئِ بين مُنظَّمةِ التَحريرِ الفِلَسطينيةِ وإسرائيل.
فالعالَمُ بأَسرِه لم يعرفْ ما جرى في أُوسلو إلا بعدَ الإعلانِ عن الاتّفاقِ الذي تمَّ التوصُّلُ إليه، فَهَلْ أجهزةُ الإعلامِ العالَميَّةِ من وكالاتِ أنباءٍ وصُحفٍ ومَحَطّاتٍ تَلفَزيّةٍ وإذاعيَّةٍ لم تكنْ على عِلمٍ بالمفاوضاتِ عندما كانتْ تجري في أوسلو؟ إذا كانتْ على غيرِ علمٍ بالمُفاوضاتِ فما عَليها إلا أن تُغلِقَ أبوابَها، وإذا كانتْ تَعلَمُ بانطلاقِ المفاوضاتِ وبِسَيْرِها وبكافّةِ مراحِلِها ولم تُعَمِّمْ ما اطَّلعتْ عليه على الجمهورِ فهُنا تكونُ قد قامتْ بِتَضْليلِ الرَأيِ العامّ. فَمِثْلُ هذه التصرُّفاتِ التي لا تَسمَحُ بِنَشرِ الأخبارِ لَحظَةَ وُقوعِها هي التي تُساعِدُ على ظُهورِ الإِشاعةِ وانتشارِها بَينَ الناس.
- قد تكونُ الاعتباراتُ السياسيّةُ هي التي تَحَكَّمتْ في عَدَمِ نَشرِ أخبارِ المُفاوضاتِ الجاريةِ آنذاكَ في أوسلو.
- وأيضاً الاعتباراتُ السياسيّةُ هي نفسُها التي تقفُ وراءَ نَشرِ الكثيرِ من الإشاعاتِ، فلقد أصبَحتْ في العديدِ من بلدانِ العالمِ أجهِزةٌ متخصِّصةٌ في صناعةِ الإشاعةِ وترويجِها، حيثُ صارتْ في وقتٍ من الأوقاتِ صناعةً لها مُنَظِّرُوها ومُهندسوها ومُمَوِّلُوها ومُنَفِّذوها.
فَفي ظروفِ الحربِ الباردةِ تَمَّ إنشاءُ ما عُرِفَ آنذاكَ بعِياداتِ الإشاعةِ، وهذه العِياداتُ كانتْ في البُلدانِ الاشتراكيَّةِ وأيضاً في البُلدانِ الرأسماليَّةِ، أَيْ في الشرقِ وفي الغرب. ولقد كانتْ مُهِمَّتُها التَصَدِّيَ للإشاعةِ ومُكافحتُها، بِحيَثُ كانتِ الإشاعةُ بِمُجرَّدِ ما تنتشرُ في بَلدٍ ما إِلّا ويتِمُّ أَخذُها لِتَدخُلَ إلى المُختَبَر – العِيادةِ لِكَيْ تُدرَسَ وتُحَلَّلَ وتُعرَفَ مصادرُها، وبعدَ ذلكَ يَقَعُ تَشخيصُها ومِن ثُمَّ الرَدُّ عليها. فمكافحةُ الإشاعةِ عَمَليَّةٌ صَعبَةٌ جِداً وخطيرة، فأنتَ إِذا سَكَتَّ عنها فأنتَ خاسِرٌ، وإذا قُمتَ بالردِّ عليها وبِشَكلٍ غيرِ مدروسٍ فأنتَ خاسِرٌ أيضاً. ولقد عانَتِ الدولُ العربيَّةُ كثيراً من الإشاعاتِ الإسرائيليّة.
- إذا كانتِ الإشاعةُ تُستَعمَلُ أثناءَ الحربِ الباردةِ، وفِيما بينَ الدُولِ المتصارِعةِ فإنَّ المُلاحَظَ حاليّاً هو أَنَّ الدُولَ الديمقراطيَّةَ الصناعيّةَ تتوفَّرُ على إعلامٍ يُقدِّمُ أخباراً يَتِمُّ تَصديقُها والتَفاعُلُ معها بشكلٍ نِسْبِيٍّ مِن طَرَفِ الجُمهورِ، في حِينِ أَنّهُ في بُلدانِ العالَمِ الثالثِ هناك ازدهارٌ لِصُحُفِ الإشاعة.
- كما أَشَرتُ في البدايةِ، الإشاعةُ مرتبطةٌ بِمَدَى تَوَفُّر الخبرِ من انعدامِه، فإذا كانتْ هناكَ أَجهِزةٌ إعلاميّةٌ لا تُقدِّمُ أخباراً، وإذا كانتْ المعلوماتُ مُصَنَّفةً بحيث لا يَجوزُ للصَحَفِيِّ الوصولُ إلّا إلى ما هو مَسموحٌ به من طَرَفِ أجهزةِ الدَولةِ، أي أَنَّ هناكَ، حسب ما نسمِّيهِ في عِلمِ الإعلامِ، حُرّاساً للبوّابةِ يَقفونَ في وَجهِ الأخبارِ ولا يَسمَحونَ بنَشرِها، وإذا كانتْ هناكَ رقَابةٌ ذاتيّةٌ قائمةٌ داخِلَ كلِّ صَحَفيِّ وفي ذاتِ أيِّ رئيسِ تحريرٍ، وهناكَ شُرطِيٌّ يتحرّكُ في قلبِ كلِّ مُديرِ جريدةٍ لِيَمنَعَهُ من نَشرِ الأخبارِ ففي هذه الحالةِ علينا أَلّا نستغربَ إذا ما وَجَدْنا أنَّ البلدَ قد تحوَّل إلى مَزرعَةٍ كبيرةٍ للإشاعةِ، وفي ظِلِّ وضعٍ كَهذا لن تتوقَّفَ أبداً عن التوسُّعِ والانتشار.
وحتَّى إذا ما توفَّرتْ الأخبارُ في بعضِ الأحيانِ وكان مصدرُها فاقداً للمِصداقيّةِ فآنذاكَ يُصبِحُ البلدُ مرتَعاً خَصباً للإشاعة. فمعَ انعدامِ المِصداقِيّةِ ومع سياسةِ سَدِّ الأَبوابِ في وَجهِ الصَحَفيِّ الباحثِ عن الأخبارِ صارَ إعلامُ العالَمِ الثالثِ لا يَنشُرُ ولا يتطرَّقُ إلى ما يُحِسُّ به الناسُ ويردِّدونَهُ عَبْرَ أفواهِهم. لقد أصبحَ لدينا جهازانِ للإعلامِ، واحدٌ واضِحٌ ومكشوفٌ وتستعملُه الأجهزةُ والمؤسَّساتُ لكي تُقدِّمَ به ما تشاءُ للجمهورِ وبالمُقابِلِ هناكَ جهازٌ آخرُ لدَى الجُمهورِ بِحيثُ يعتمِدُ على نفسِهِ لِتَسريبِ الأخبارِ ولِنَقْلِها وتداوُلِها. مِن هنا تأتي الإشاعةُ وهذا هو مَصدَرُها الرئيسي.
- في هذه الحالةِ ما يَروجُ بينَ الناسِ وما يَتِمُّ تَداوُلُهُ يكونُ غيرَ مُتَحَكَّمٍ فيه مِن طرفِ أيِّ جِهة.
- هناكَ الإشاعةُ التي تكونُ نابعةً من جهةٍ معيَّنَةٍ، وهذه الجهةُ التي تُنتِجُها هي التي تُسيِّرُها وتتحكَّمُ فيها، كَأَنْ نقرأَ في بعضِ الصُحُفِ أَنَّ المنتوجَ الفُلانيَّ مثلاً يُسَبِّبُ السرطان، حيثُ يتِمُّ نَشرُ مثلِ هذا الخبرِ وتَرويجُه كإشاعةٍ بين الناسِ مع تَداوُلِه على نِطاقٍ واسعٍ رغمَ أَنَّهُ عارٍ عن الصحّةِ، ولكنه يَدخُلُ في إِطارِ حَربٍ تجاريّةٍ تَستَعملُ الإشاعةَ كَأَحَدِ أسلحتِها، وهناكَ الإشاعةُ التي تَنبَعُ بِشَكلٍ تِلقائِيٍّ من الجُمهورِ إذ هو الذي يُنتِجُها ويُروِّجُها وأحياناً يُصَدِّقُها.
- أستاذ زكي الجابر، أنا أتصوّرُ أنه إذا انتشرتْ إشاعةٌ ما في فرنسا مثلاً، وجاءَ وزيرٌ فرنسيٌّ وقامَ بِنفيِ تلك الإشاعةِ، يتهيّأُ لي أنَّ الجمهورَ الفرنسيَّ سيصدِّقُه وسيأُخُذُ نفيَهُ مأخَذَ الجِدِّ، أمّا في بُلدانِ العالَمِ الثالثِ فإذا انتشرتْ إشاعةٌ ما وجاءَ مصدرٌ رسميٌّ وكذَّبها فربَّما تَكذيبُه قد يتعاملُ معه الجمهورُ وكأنَّه تأكيدٌ لها.
- أشَرنا إلى أنَّ انتشارَ الإشاعةِ أمرٌ مرتبطٌ بِقلَّةِ الأخبارِ وبالغُموضِ وبالظَرفِ التاريخيِّ الذي يَعيشُه البلدُ وبانعِدامِ المِصداقِيَّةِ، وعلينا أن نُضيفَ البعد السَيكولوجِيَّ للإنسانِ والذي على أساسِه تزدهرُ الإشاعةُ وتنتشر. فنحنُ كبشرٍ نتعاملُ مع كثيرٍ من الأحداثِ بمَنطقِ اللاوَعْيِ واللاشُعور، أو ما يُسَمَّى إعلاميّاً بالتفكيرِ الراغبِ في حُدوثِه. فالإشاعةُ تستثمرُ الحاجةَ الإنسانيّةَ وتستغلُّها، وتتوجَّهُ بالأساسِ إلى الرغبةِ المُلِحَّةِ عند الناسِ لكي تُوَظِّفَها. إنها تفعلُ في الإنسانِ ما تفعلُ به الأحلامُ وفقاً للتحليلِ ’’الفرويدي‘‘. فإذا كانتِ الأحلامُ ليستِ الحقيقةَ بكامِلِها ولكنَّها تعكسُ جانباً من الحقيقةِ أو تَعرِضُها مشوَّهةً من بابِ الحِفاظِ على التوازُنِ النفسيِّ للإنسانِ، فإنَّ نفسَ الأمرِ ينطبقُ على الإشاعة. إنّها بِدورِها تَعرِضُ الحقيقةَ مُشوَّهةً وتُقدِّمُها مُزيَّفةً للإنسان.
فهُناكَ أنواعٌ من الإشاعاتِ. هناكَ الإشاعةُ التي تكونُ على شكلِ ’’بالُونِ اختبارٍ‘‘ بِحَيثُ يتِمُّ تَسريبُها وتَرويجُها لِمَعرفةِ حَسّاسيّةِ الرأيِ العامِّ إِزاءَها ومَدَى تَجاوُبِه معها. وهناكَ الإِشاعَةُ الزاحفةُ التي تنتَقِلُ تدريجيّاً بشكلٍ خفيفٍ ثم تَعلُو إلى أن تُصبِحَ مُتواتِرةً ثُمَّ قَويَّة. وهناكَ الإشاعَةُ الغاطِسَةِ التي تَنامُ ثُمَّ تَعلُو مَرّةً أُخرَى حَسْبَ الظُروفِ وحاجاتِ مُرَوِّجيها. وفي جميعِ الأحوالِ فالتَصَدِّي لِلإشاعةِ ليسَ بالأَمرِ الهَيِّنِ، فالأمرُ يقتَضي دَهاءً وحَنَكَةً لا مَثيلَ لَهُما لِمَنْ يُريدُ القيامَ بذلك. ولِتَبيانِ هذا سأُعطي مثالاً واحداً. ففي الحربِ العالميّةِ الثانيةِ انتشرتْ إشاعةٌ قويّةٌ تُفيدُ بأنَّ مسؤُولينَ كِباراً في ألمانيا قد أُعدِمُوا، ولِلرَدِّ على هذه الإشاعةِ قامَ ’’گوبلز‘‘ Goebbels(1) بتَرويجِ إشاعةٍ أُخرَى مَفادُها أنَّ ’’هِمْلَر‘‘ Himmler(2) كانَ من ضِمنِ الذين أُعدِمُوا. ولَمّا انتشرتْ هذه الإشاعةُ بشكلٍ كبيرٍ بينَ الناسِ قامَ ’’گوبلز‘‘ بإِظهارِ ’’هِمْلَر‘‘ للجُمهورِ عَبْرَ مُقابَلاتٍ صَحَفِيَّة تَمَّ إجراؤُها معه، أي أنه قَضَى على إشاعةٍ في موضوعٍ مُعيَّنٍ بِنَشْرِ إشاعةٍ أَقوَى منها. وهكذا تَمَّ تكذيبُ ما تداوَلَهُ الجمهورُ من إعدامِ بعضِ المسؤولينَ الألمانِ، فبِطَريقةٍ غيرِ مُباشِرةٍ وَقَعَ نَفْيُ وتكذيبُ إشاعةٍ انتشرتْ بشكلٍ كبيرٍ بينَ الرأيِ العامِّ الألمانيِّ أثناءَ فَترةِ الحربِ.
- لكنَّ المُلاحَظَ هو أنّه، في العالَمِ الثالثِ، الإشاعاتُ التي تنتشرُ عَبْرَ بعضِ الجرائدِ المُختَصَّةِ في هذا البابِ، يقفُ القارئُ على أنَّها مجردُ إشاعاتٍ ويكادُ يتأكَّدُ يوميّاً، عَبْرَ التجربةِ، مِن عدَمِ صِحّةِ ما تنشُره، بِحيثُ لا يتحقّقُ في واقعِه أيُّ شئٍ مما تتحدَّثُ على أنّه سيقعُ، ولكنْ مع ذلكَ تظلُّ فئةٌ من الناسِ تتعامَلُ مَع الصُحُفِ التي تنتجُ هذه الإشاعات؟
- هذه طبيعةُ الإنسانِ، فمِثلَما يأكلُ ويشربُ ويستحِّمُ ويُحِبُّ فهو أيضاً لَديهِ رغبةٌ في الفُضولِ والاستِطلاع. فهو يتطلَّعُ دائماً إلى معرفةِ أشياءٍ يجهلُها، ويَجبُ أن تَتِمَّ تَغذِيةُ هذا الفُضولِ لديه. فالتطلُّع إذا لم يكنْ يُؤذِي الآخرين فهو عمليّةٌ مشروعةٌ، والإنسانُ بِدونِ تَطَلُّعٍ لا يُمكنُ أن يكونَ إنساناً. وما دامتْ هناكَ حاجةٌ إنسانيّةٌ للتطلُّعِ ولا تَتِمُّ تغذِيتُها، فسيظلُّ الناسُ يَتَعاطَوْنَ مع مُؤَسَّساتٍ الإشاعةِ، فهي على الأقلِّ تُوهِمُهم بأنّها تُغَذّي حُبَّهم في التَطلُّع. والمسؤوليةُ حَول نَوعيّةِ ما يُقدَّمُ من أخبارٍ تقعُ على كاهِلِ الإعلاميِّ، فهو الذي يَنبغي أن يسأَل كيفَ عليهِ أن يُرضِيَ هذا التَطلُّع. فبإمكانِه أن يُرضِيَهُ بالإشاعةِ الكاذبةِ وبالإثارةِ وبإعلامِ العُنفِ والجنسِ، كما أنَّ بإمكانِه أن يُرضِيَهُ بإعلامٍ هادفٍ رزينٍ له غاياتٌ إنسانيّة. وكَيفَما كانَ الأمرُ فالجمهورُ سيبقَى بغريزتِه الإنسانيّةِ يتطلَّعُ ويتملَّكُه الفضولُ، وسيظَلُّ يشتري الصحيفةَ ويشاهدُ التلفزيونَ ويتابعُ الراديو.
- التعاملُ مع أجهزةِ الإعلامِ وحتَّى مع صُحُفِ الإشاعةِ، ألا يُمكِنُ أن يَعكِسَ اهتماماً جماهيريّاً بالشَأنِ العامِّ، فمواضيعُ صُحُفِ الإشاعةِ هي في نهايةِ المَطافِ تَدورُ حولَ قضايا تَهُمُّ كلَّ المواطنين، بِصَرفِ النظرِ عن الكيفِيّةِ التي يَتِمُّ التعامُلُ بها مع هذه القضايا؟
- هذا أمرٌ مؤكَّدٌ، فأحلامُ الناسِ إذا لمْ تتحقَّقْ فهذا لا يَعنِي أنّها انتهتْ، فهيَ تَظَلُّ كامِنةً ولكنَّها لا تَزولُ بشكلٍ نِهائيٍّ، وإنّما تنتظِرُ المُثيرَ لكَي تُعيدَ إنتاجَ نفسِها، فحتَّى في الطبيعةِ الاعتياديّةِ، الإنسانُ عندما يَحلُمُ حُلُماً مُعيَّناً ولا يتحقَّقُ هذا الحُلُم فإنّه سيظَلُّ يتكرَّرُ طِيلةَ عُمرِه خُصوصاً إذا كان مُرتبطاً بحاجةٍ أساسيّةٍ لديهِ في حياتِه، فالذين يُعانون من الكوابيسِ، نفسُ الكوابيسِ تعودُ إليهم من حينٍ لِآخَر. فما دامتِ الأحلامُ لم تَتِمَّ تَلبيتُها في الواقعِ فهي ستَظلُّ مُلازِمةً لِصاحبِها وستُعيدُ إنتاجَ نفسِها بَلْ ستظَلُّ تتكرَّرُ عَبْرَ الأجيالِ، ينقُلها الناسُ جيلاً عن جيلٍ، وهذه حقيقةٌ تماثِلُ الُفلكلورَ والملاحِمَ التي عِشناها في أَدبنِا إبتداءً من ’’ألفِ لَيلة ولَيلة‘‘ وما قبلَها إلى وقتِنا الراهن.
فبُطولةُ أبي زَيد الهِلالي تتردَّدُ وتُتَوارَثُ عَبْرَ الأجيالِ لأنّنا كُلًّنا نَوَدُّ أن نكونَ ’’أبو زَيد الهلالي‘‘ وكلُّ عاشقٍ يُريدُ أن يكونَ مثل قَيسِ بنِ المُلَوَّح، والجميعُ يتمنَّى أن يكونَ في شجاعةِ عنترةَ بنِ شدّاد، وفي عَدْلِ عُمرَ بن الخطّاب وعُمرَ بنِ عبدِ العزيز. فهؤلاء كُلُّهم كانوا بَشَراً ونَحنُ نُعيدُ إنتاجَهم في مِخيالِنا ونُضفي عليهم نوعاً من القَداسةِ التي نتمنَّى إدراكَها والوصولَ إليها. وفي السياسةِ نَودُّ أن يتحقَّقَ نفسُ الشئِ، وفي الاجتماعِ كذلكَ، فنحنُ لدينا ’’يوتوپيا‘‘ Utopia(3) التي هي حُلُم ٌإنسانيٌّ نَرجو أن يتحقَّق. مِن هُنا تظلُّ الشُعوبُ متمسِّكةً بالأحلامِ وبترديدِ الأماني وبِتَقبُّلِ الإشاعات.
- هل يعني هذا أنّ للإشاعةِ دوراً إيجابياً؟
- إذا أردتُ أن أُبيِّنَ الأساسَ الذي تنطلقُ منه الإشاعةُ بِحيثُ أنها تَعي حاجاتِ الناسِ وأمانيهم وتُوظِّفُها، فَمثلَاً مسرحيةُ ’’في انتظار گودو‘‘ Waiting for Godot(4)، عندما تُعرضُ على الناسِ في مُختلِفِ بِقاعِ العالَمِ وفي مُختلِفِ الأوضاعِ الاجتماعيّةِ تجدُ لها صدَى. فالسجينُ والمتضايِقُ في حياتِه الزوجيّةِ والمُفلِسُ في تِجارتِه والعامِلُ المستَغَلُّ في المعملِ، الجميعُ يجدُ في ’’گودو‘‘ الأملَ، فكُلُّنا ننتظرُ ’’گودو‘‘ ولذلك نحن مُعجَبون بهذهِ المسرحيّة، فالإشاعةُ لها في بعضِ الأحيانِ وظيفةُ الحُلُمِ والأمنيةِ والفولكلورِ، خصوصاً إذا كانتْ نابعةً من الجُمهورِ بشكلٍ تلقائيّ.
- ألّا تتضمَّنُ عمليّةُ انتشارِ الإشاعةِ مغزىً مُعيَّناً، أليسَ للأمرِ صلةٌ بالوضعِ الثقافيِّ للبلدِ الذي تنتشُر فيه؟
- لِنَقُلْ إنّها في الحقيقةِ جزءٌ من ثقافةٍ عامةٍ، فما دامتْ تَتغذَّى من المِخيالِ فهيَ جزءٌ من الثقافةِ العامّة. فعندما تَصدرُ عن الناسِ فهي تكونُ مثلَ الحُلُمِ والأمنيةِ، وكلُّ مُبدِعٍ، سواءٌ أكان شاعراً أو رِوائياً أو قَصّاصاً أو مسرحيّاً، لا يُمكنُه أن يَحرِمَ نفسَه من الاستفادةِ من أحلامِ الشعبِ ومن أمانيهِ، فقديماً قالَ العربُ جُملتَهم المشهورة: ’’أعذَبُ الشِعرِ أَكذَبُه‘‘ لأنه يُحقِّقُ لهم نوعاً من التوازُنِ النفسيّ. إننا نَستمتُع بالأدبِ والفنِّ لأنهمّا يُحقّقانِ لنا نوعاً من الارتياحِ ويُلَبِيّانِ نوعاً من أمانينا التي نَعجِزُ عن تحقيقِها في حياتِنا الواقعيّة.
فإذا أردْنا أن نقولَ إنّ هناكَ مغزىً ما في الإشاعةِ فهذا قولٌ صحيحٌ، ولكنْ يبقَى علينا نحنُ كمفكِّرينَ وباحِثينَ أن نَلتَمِسَ جوانبَ الصِدقِ في الإشاعةِ، وأنا أتحدّثُ هنا عن الإشاعةِ عندما تكونُ مُنطَلقةً من الشَعبِ ومِن ألسِنَةِ وصُدورِ البُسَطاء، ففي هذه الحالةِ ليستْ كلُّ إشاعةٍ مُختَلقَةً اختِلاقاً، إنها تَعبيرٌ عن إحساسٍ جَماعيٍّ له جذورٌ في الواقع، وعلى الباحثِ أن يتحرَّى عن جانبِ الصِدقِ في الإشاعةِ وأن يَصِلَ إليه.
- ولكنْ كيفَ يُمكنُ للباحثِ أن يتحرَّى عن جانبِ الصدقِ في الإشاعةِ وهي لا تتوفَّرُ على مَصدَرٍ مُحدَّدٍ يُمكنُ الرجوعُ إليه؟
- كما يَفعلُ الناقدُ عندما يتحرَّى عن جانبِ الصِدقِ في القِصّةِ الأدبيّةِ أو في القصيدةِ أو المسرحيّةِ أو الرِواية، يُمكنُه أن يفعَل نفسَ الشئِ مع الإشاعة. إنها مُؤَهَّلةٌ لكي تصبح مَجالاً واسِعاً للدراسةِ في مجالِ الاتّصالِ والإعلامِ، دراسةٌ تقومُ بتحرّي انتشارِ هذه الظاهرةِ في بُلدانِ العالَمِ الثالثِ وتُقارنُها بما يجري في العالَمِ المتقدِّمِ من أجلِ الوقوفِ على مَدَى انتقالِ الإشاعاتِ في العالَمِ ومَدَى تَماثُلها ومَدَى صلتِها بأماني الشعوب. فلدينا إشاعاتٌ تتكرّرُ، وأُخرياتٌ ستُولَدُ، ولكنّها جزءٌ من ثقافةٍ عامّةٍ نتغذّاها في البيتِ وفي المقهَى وفي حياتِنا العامّة. فالناسُ يُريدون التكلُّمَ عن الأخبارِ والأحداثِ الرائجةِ في محيطِهم، وإذا لم نوفِرّها لهم لكي يتحدّثوا عنها فَهُم سيصنَعونَها من مِخيالِهم.
- ولكن أَلا يُمكنُ أن يُشكِّلَ الأمرُ خطراً على الإنسانِ وذلك عندما نَعِدُه عَبْرَ الإشاعةِ بأن أَشياءً مُهمّةً ومُفيدةً ستتحقّقُ له في واقعِهِ، ولكنًّه بعد طولِ انتظارٍ يكتشفُ بأن لا شئَ مِمّا وعدناه به قد تحقَّق؟
- أظُنُّ أنَّ لَدَى كافّةِ الشعوبِ أحلاماً معيّنةً وأمنياتٍ تودُّ الوصولَ إليها، وكلما ضَخَّمتِ الإشاعاتُ هذه الأماني وصوّرتْها على أنّها صارتْ أقربَ إلى الإدراكِ وأنَّها على وَشْكِ التحقُّقِ، ثم يَكتشفُ الناسُ أنّها ما زالتْ بعيدةً عن مُتَناولِهم إلّا وسيُصابونَ بالإحباطِ وقد ينتجُ عن ذلكَ القلقُ واليأسُ، وكما نعلمُ جميعاً فحالاتُ الإحباطِ واليأسِ والقُنوطِ حالاتٌ قاتِلةٌ، وهي تَقضي على الأحلامِ وعلى التطلُّعات. ويبدو لي أن شعوبَنا بَدَل أن تعيشَ الحركةَ الدافِعةَ المُندَفِعةَ إلى الأمامِ أصبحتْ حاليّاً تعيشُ مُكتَفِيةً بما هو مَفروضٌ عليها، ولم تَعدْ تتطلَّعُ إلى ما هو أفضلُ في ظِلِّ ما يُعرفُ بالنظامِ العالَميِّ الجديدِ وفي ظِلِّ المبدأِ المعروفِ بنهايةِ التاريخ، وأنَّ الرأسماليَّةَ بشَكلِها الحالي هي السائدةُ وأنَّ على الشعوبِ القبولُ بما هو سائد. وأمامَ زَحفِ الإعلامِ التجاريِّ وإشاعةِ الأماني التي لا يُمكنُها أن تتحقَّقَ، ومع تَوليدِ الوَعيِ المُزيَّفِ، إذ أنّني في وضعي الماديِّ الفقيرِ يُمكنُ لي أن أتماثَلَ، عَبْرَ وسائلِ الإعلامِ، مع أَكبرِ بُرجوازيٍّ في بَلَدي لكي أكتَشفَ في الواقِعِ أن الفرقَ بينَنا هو الفرقُ الموجودُ بين السماءِ والأرضِ. أمامَ هذه الاعتباراتِ، وفي ضوئِها، رُبّما سنعودُ إلى حِكَمِنا وأمثالِنا القديمة: القناعةُ كنزٌ لا يفنَى، أَلصبرُ مفتاحُ الفرج.
1 – پول جوزيف گوبلز Paul Josef Goebbels (1897-1945). سياسيّ نازيّ ووزير الدعاية في ألمانيا النازية من 1933 إلى 1945. (ويكيپيديا)
2 – هاينرخ هملر Heinrich Himmler (1900-1945). قائد القوات الخاصة الألمانية والشرطة السرية والمشرف على إبادة المدنيين في معسكرات الموت الألمانية. (ويكيپيديا)
3 - يوتوپيا Utopia، مجتمع مثالي لا وجود له، يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل البشر، ومُقابِلُها العربي هو ’’المدينة الفاضلة‘‘. (ويكيپيديا)
4 - ’’في انتظار گودو‘‘ Waiting for Godot. مسرحية للكاتب الأيرلندي صموئيل بيكيت Samuel Beckett. (ويكيپيديا)
نشرت في صحيفة ’’الاتحاد الاشتراكي‘‘(المَغرِب)، 17-5-1995.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

974 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع