سنُة العراق .. خيارات مفتوحة أم خيار مغلق؟؟/ 2 - 2

                                    

                    د. محمد عياش الكبيسي
 
لم يتمكن خيار المواجهة المسلحة من كسب الحد الأدنى من التأييد الشعبي حتى داخل الوسط السنّي رغم وجود البيئة المحتقنة والتي يغذيها باستمرار السلوك الطائفي لحكومة المالكي، ولا شك أن هذا يرجع لاعتبارات وجيهة منها:

أولا: إدراك السنّة أن المواجهة لن تكون بينهم وبين حكومة المالكي بقدر ما ستكون حربا أهلية لن تنتهي إلا بسحق إحدى الطائفتين أو اللجوء إلى التقسيم الممهور بالدم، وربما يمثل هذا حجر الزاوية في السياسة الأميركية لتغيير خارطة العراق والمنطقة بعد الفوضى الخلاقة أو فوضى الدم، والموقف الأميركي من الثورة السورية يرجح هذه المخاوف.

ثانيا: إن إيران والتي جنّدت كل إمكاناتها لمساندة بشار الأسد في سوريا ستكون أكثر حرصا على مساندة المالكي، سيما أنها تتمتع بحدود مفتوحة مع العراق تزيد على الألف كيلو متر، والتي ستتمكن من خلالها إرسال الألوية والفيالق إذا اقتضى الأمر، وهذا من شأنه أن يدخل العراق والمنطقة كلها في المحرقة الكبرى أو الفوضى الخلاقة والتي لن تكون إلا في مصلحة الكيان الصهيوني.

ثالثا: إن أهل السنّة يفتقرون إلى الحد الأدنى من الدعم الخارجي عربيا وإسلاميا ودوليا، وهذا يعني أنهم بمواردهم وإمكاناتهم الذاتية لن يتمكنوا من خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، خاصة بعد تمكن الطرف المقابل من الهيمنة على موارد العراق وإمكاناته.

رابعا: تجربة الحويجة القريبة، والتي كان ينتظر من دعاة المواجهة أن يجعلوا منها شرارة الثورة، لكن النتيجة كانت على خلاف كل تلك الشعارات والهتافات، وربما كان الطرف المستفيد من كل ما حصل هو الإقليم الكردي الذي استطاع أن يتصرف بذكاء لتحقيق مكاسبه على الأرض سياسيا واقتصاديا وأمنيا، بينما خسر الحراك السنّي موقعا أو أكثر لصالح حكومة المالكي.

خامسا: على صلة بالنقطة السابقة، فإن السنّة سيخسرون أية إمكانية للتفاهم أو التحالف مع إخوانهم الكرد في حالة نشوب حرب أهلية تحت عنوان إسقاط العملية السياسية والدستور.. إلخ لأن الكرد بكل توجهاتهم إضافة إلى حكومة الإقليم يعدون أنفسهم جزءا من هذه العملية وهذا النظام، وهم إن لم يشعروا بالحاجة إلى مواجهة الثوار فسيكتفون بترتيب أوراقهم مع حكومة بغداد للحصول على مزيد من المكاسب.
ولذلك فإني من الناحية الموضوعية لا أرى الدعوة إلى المواجهة المسلحة دعوة جادة حتى عند أشد الناس ترويجا لها، وقد تكون لديهم غايات أخرى لا صلة لها بمصلحة الوطن ولا بمصلحة السنّة، خاصة أن جلّ هؤلاء قد رتبوا أوضاعهم خارج العراق، في حين أن خيار المواجهة يتطلب النفير إلى الميدان وتشجيع كل المهاجرين أو المهجّرين على ذلك.


خيار واحد:

في الحقيقة لم يبق أمام أهل السنّة إلا خيار واحد، وهو الحل السياسي المتمثل بتكوين الإقليم السنّي، وهو ما عبّر عنه الناطق الرسمي باسم الحراك في المحافظات الست الدكتور محمد طه حمدون (أن نحكم أنفسنا بأنفسنا ضمن العراق الموحّد)، إلا أن هذا الخيار لم يحظ بالإجماع السنّي لحد الآن ولأسباب كثيرة منها:

أولا: النقص الحاد في المعلومات، حيث إن أهل السنّة في الغالب لا يعترفون بالدستور ولا بالعملية السياسية كلها، وقد اضطروا تحت ضغط الواقع للمشاركة في الانتخابات ظنا منهم أن هذه المشاركة الضعيفة والمترددة ستدفع عنهم الضر الذي مسّهم، ولذلك تشيع لديهم مفاهيم مغلوطة عن طبيعة الفيدرالية ومآلاتها، ومنها أن الفيدرالية تعني التقسيم، والحقيقة أنها لا تعني أكثر من توسيع الصلاحيات في بعض الأمور الإدارية والثقافية والاقتصادية والأمنية، وهو ما يتيح لأهل السنّة ترتيب وضعهم الداخلي بشكل أفضل مع المحافظة على هويتهم وخصوصيتهم، وهو نظام شائع في أكثر من %40 من دول العالم.

ثانيا: التأثر بالثقافة القومية والتي غرسها حزب البعث عبر أكثر من ثلاثة عقود، حيث أقر البعث بالخصوصية الكردية التي تميزهم عن العرب ولذلك سارع مبكرا بمنح الكرد الحكم الذاتي، يقول الشيخ عبدالملك السعدي: (إن إقليم كردستان ليس وليد ما بعد الاحتلال، بل هو حكم ذاتي قائم منذ أكثر من عقدين من الزمن، وله مقوِّماته الأمنية والعسكرية قبل إقامته، وما هو حاصل من رخاء واستقرار وإعمار كان موجودا قبل الاحتلال) بينما لا يعترف البعثيون بالتمايز الديني أو المذهبي مهما بلغ من حدة واحتقان طالما أنهم داخلون في مسمى (أمة عربية واحدة)، وليس عندهم مشكلة أن يتحول أبناء السنّة إلى الشيعة طالما أنهم سيبقون عربا وعراقيين.

ثالثا: هناك جملة من المخاوف والتساؤلات التفصيلية الوجيهة والتي تشكل بمجموعها مصدر قلق وتوتر، إلا أنها في الغالب لا تتعلق بخيار الإقليم خاصة، بل هي موجودة وقائمة الآن ويتوقع استمرارها مع كل الخيارات، ومن ذلك:

1 - ما مصير السنّة في المحافظات التي لن تدخل في الإقليم السنّي مثل بغداد والبصرة؟ والحقيقة أن هذا السؤال لا علاقة له بخيار الإقليم، فالإقليم من الناحية الدستورية يضم المحافظات المتفقة على قيام الإقليم على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، وهو قد لا يسمى سنيا أصلا، والكرد اليوم موجودون في بغداد وبقية المحافظات ولم يجبرهم أحد على الهجرة إلى إقليم كردستان، أما إذا كانت هناك نيّة للحكومة لتهجير السنّة من تلك المحافظات بقوة السلاح فهذا الأمر متوقع مع الإقليم وبدونه، وقد حصل مثل هذا بالفعل لبعض السنّة في بغداد والبصرة.
إلا أن الغريب أن يطرح هذا السؤال دعاة المواجهة المسلحة، وهو معكوس عليهم بطريق الأولى، فلا شك أنه بعد نشوب الحرب الطائفية -لا قدر الله- من المحتم أن يكون وضع السنّة هناك أكثرة صعوبة وخطورة.

2 - كيف سنحافظ على الإقليم في حالة حصول عدوان من حكومة المركز؟ وهو سؤال معكوس أيضا على دعاة المواجهة، فإذا كان أهل السنّة غير قادرين على حماية مناطقهم فكيف سيتمكنون من تحرير العراق كله والحفاظ على وحدته؟ ثم أيهما أيسر على الحكومة أن تقاتلنا محافظة محافظة؟ أو تقاتلنا مجتمعين في إقليم واحد؟ هذا ناهيك عن القوة الأمنية وحرس الإقليم والتي يسمح للإقليم بتشكيلهما دستوريا.

3 - ماذا لو رفضت الحكومة منح هذا الحق للمحافظات الست؟ والحقيقة أن الحكومة لا علاقة لها بالقبول أو الرفض، فالموضوع هو من صلاحيات المحافظات البحتة، ولكنه يحتاج إلى إقراره من المحكمة الاتحادية كواقع وليس كحق، وإلى إشراف من المفوضية العليا للانتخابات كناحية إجرائية لتنظيم الاستفتاء الشعبي، أما في حالة عرقلة الحكومة لهذا الحق بالقوة، فللمحافظات الدفاع عن حقها هذا بكل الوسائل، وسوف لن تجد الحكومة القدرة على التحشيد الداخلي أو الخارجي لمواجهة مثل هذا الحق الصريح بخلاف خيار المواجهة.
4 - من سيكون رئيس هذا الإقليم؟ وهذا السؤال يعكس الضعف الداخلي الذي يشعر به دعاة المواجهة، إنهم يتخوفون بالفعل من هيمنة الأطراف السياسية أو العشائرية المنافسة، وهذا يعني أنهم لا يملكون القبول الذي يهيئهم لقيادة هذه المحافظات، فكيف إذاً يتوقع لهم القدرة على قيادة العراق، مع أن المحافظات الأخرى ستكون أشد رفضا لهم، وقد سمعت عن بعضهم أنه لا يعترض على فكرة الإقليم بقدر تخوفه من هيمنة الإسلاميين لما يرى من المظاهر الإسلامية الطاغية على منصات الاعتصام وفي سلوك الجماهير وهتافاتهم.
لقد أصبح من الواضح بعد كل هذا أنه لم يعد هناك من خيار عملي وواقعي أمام أهل السنّة، إلا أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ضمن العراق الموحّد كما أعلن قادة الحراك، أو الرجوع بخفي حنين بعد كل هذا العناء وهو ما يعني الانتحار والدخول في مرحلة التيه التي لا يعلم نتائجها إلا الله.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

881 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع