هيفاء زنگنة
المثقف والاحتلال: من النازية إلى «العراق الجديد»
لايزال هناك من يعتبر احتلال بلده وجهة نظر تستحق النقاش. ولايزال النقاش دائرا بين أوساط المثقفين، بعد مرور 17عاما على غزو العراق واحتلاله، وما سببه من خراب مباشر وغير مباشر، حول استخدام او اختيار مصطلح أو نعت ملائم يصفون به ذلك الحدث الجلل. بهذا التيه يقف المثقفون لوحدهم، منعزلين عن بقية أبناء الشعب، وحتى عن ساسة النظام الذين جلبهم الاحتلال معه وقام بتنصيبهم كحكام بالنيابة، الذين باتوا يستخدمون مفردة «الاحتلال». بل ويذهبون، أحيانا، ابعد من ذلك، متغنين، بالمقاومة، أما بعد انتفاء الحاجة إليهم أو بعد عثورهم على « رب عمل» آخر، يتكفل بحمايتهم، ويمدهم بالعقيدة اللازمة لتبرير الاحتلال وتعاونهم معه فيما يُعرف قانونيا وأخلاقيا بالجريمة الأكبر.
احتلت الكتابات عن ذكرى الغزو في عام 2003، مساحات نافست ما يُكتب عن فايروس كورونا على صفحات التواصل الاجتماعي خاصة من قبل المثقفين. يُلاحظ عند مراجعة ما كتب، وجود انقسام حقيقي بين مؤيدي الاحتلال ومناهضيه. لم تخفت حدته على الرغم من مرور 17 عاما مثقلة بالخسارة البشرية والخراب والفساد والطائفية وخطر تقسيم البلد المسلط على الرؤوس مثل السيف. يمتد الانقسام عميقا ويطفو على السطح، بمفردات ومصطلحات، حسب الانتماء الحزبي، أكثر من غيره. الا ان ما يجمع الكل، في مرحلة التخبط السياسي، وتحول البلد الى ساحة اقتتال بين احتلالين، وانهيار الساسة الأخلاقي والديني المنعكس على شرائح مستفيدة من الاتباع، هو إصرار المثقفين على كونهم يمثلون وعي الامة، وان امتلاكهم عصا «الحقيقة»، يمنحهم عصمة اللاخطأ، و القدرة على الرؤية أبعد من بقية الناس. اذ قلما نرى مثقفا يعتذر عن مواقف سياسية له أدت الى ارتكاب جرائم ضد أبناء شعبه. فهو محق دائما وهو قادر على التبرير والمحاججة، وإذا ما باتت الحقيقة واضحة وضوح الشمس بالتوثيق والشهادات الحية ووجد نفسه محاطا بآخرين يمتلكون شجاعة الاعتراف بالخطأ او الجريمة، يلتفت حينئذ ليلقي اللوم على الشعب « الجاهل والمتخلف». الأمثلة كثيرة في هذا المجال، لعل أكثرها وضوحا هو قيام مثقف بإقناع إدارة بوش بان الشعب سيستقبل قوات الاحتلال بالأزهار والحلوى، كما منح المحتل الانطباع بانه، وحفنة عملت معه، يمثلون صوت الشعب، وان الشعب سيلتذ بالاستماع الى قصف عاصمته بغداد، كما يلتذ بسماع الموسيقى.
من هنا، من شيزوفرينيا المظلومية والرغبة المرضية بالانتقام، ومن الخلط الانتقائي (الانتقائي الممنهج وليس الغبي) ما بين القضايا وأدعياء القضايا، حّشَد بعض المثقفين أنفسهم (ولايزالون) لتسويق الغزو بمصطلحات تتماشى مع حاجة السوق، مهما كانت متناقضة المعنى، مثل ان الحل الوحيد لإنقاذ البلد من النظام الدكتاتوري هو القوات الأمريكية ـ البريطانية، أو التساؤل ببراءة مصطنعة: ما هو الحل اذن، لقد حاولنا وفشلنا… ما هو الحل؟
ومع الغزو ولترسيخ الاحتلال ومؤسساته، استحدثت أجهزة الإعلام الدعائي ـ العسكري ـ السيكولوجي، المصطلحات المطلوبة للتعميم وغسل أدمغة المواطنين عن طريق التكرار المستدام، مع مراعاة الاختلاف في الجمهور المتلقي وكيفية السيطرة على طريقة تفكيره وجعله يصدق ما يقال له. فما استحدثته الإدارة الامريكية لتحشيد الرأي العام الأمريكي مختلف عما أستحدث للتأثير على الشعب العراقي. ففي أمريكا وبريطانيا، انصب التحشيد الدعائي الإعلامي على اثارة الخوف والاحساس بالتهديد من النظام العراقي الذي يمتلك « أسلحة دمار شامل» وبإمكانها افناء بريطانيا، مثلا، خلال 45 دقيقة فقط، حسب خطب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير.
وتطلبت مخاطبة الشعب العراقي مفردات تحمل مضامين مختلفة عن تلك الموجهة الى الأمريكيين. صارت اللغة محّملة برسائل أخرى معدة للاستهلاك المحلي: «التحرير» أو «التغيير» أو «الاستبدال» أو «حرب العراق». أما احتلال العاصمة التاريخية بغداد، فقد استبدل الاسم/ الرمز المرتبط بأذهان العرب والمسلمين بالعلم والثقافة والحضارة وكل ما يمثل عزة وكبرياء واعتداد الشعب، ب» سقوط بغداد». تدريجيا، لم يعد التأثر بهذه المصطلحات يقتصر على عموم الناس، بل تتسلل حتى الى عقول بعض المثقفين المناهضين للاحتلال، ليقوموا بتكرارها، بالنيابة، بلا تفكير، وبالإمكان ملاحظته في الكتابات عن ذكرى الغزو.
ان انقسام المثقفين العراقيين حول احتلال بلدهم ليس فريدا من نوعه. فالمثقفون الفرنسيون لايزالون يراجعون الوثائق والشهادات حول الاحتلال النازي لفرنسا ودور المقاومة والمتعاونين مع الاحتلال، حتى اليوم وعلى الرغم من مرور 100 سنة على الاحتلال وتقسيم البلد الى ثلاثة أجزاء وتنصيب حكومة فيشي « الفرنسية الوطنية» المتعاونة مع الاحتلال النازي ضد المقاومة.
وتمنحنا مراجعة دور المثقف الفرنسي، في جمهورية فيشي، مقاربة لفهم أفضل حول نقاط مهمة من بينها: كيفية التعامل مع مسؤولي النظام الحاكم الخاضع بدوره لسلطة احتلال أو متعاونا معها، ضد قوى الشعب المقاومة، وما هي طبيعة هذه القوى ونسبتها بالمقارنة مع نسبة « المتعاونين» مع المحتل؟ فقد كان في جمهورية فيشي مستويات تشابه متعددة وبدرجات مختلفة مع ما يجري في العراق منذ احتلاله. فكما فرضت أمريكا سياستها على الحكومات العراقية المتعاقبة وفق الاتفاقية الأمنية والاتفاقية الاستراتيجية تعاونت حكومة فيشي، برئاسة المارشال بيتان، مع الألمان في كافة المجالات وعلى رأسها الأمنية وتوفير الأيدي العاملة. وإذا كانت الطائفية قد أثبتت فائدتها للساسة العراقيين خاصة حول ظهور المهدي المنتظر لإحلال العدل، فان جمهورية فيشي وجدت في الدين المسيحي أداة لأقناع الناس بان المعاناة، كما المسيح، ستجلب العظمة للامة.
بالنسبة الى المثقفين، ارتبط البعض، بدرجات متفاوتة، بمؤسسات فيشي والمتعاونين مع المحتلين النازيين في باريس، لأسباب عديدة كالعنصرية والانتهازية والكراهية للشيوعية. كان من بينهم المعماري المشهور لو كوربوزييه، ومدير المسرح جان فيلار، والروائي لويس فرديناند سيلين.
ولعل نقطة الاختلاف الجوهرية التي تستحق الوقوف عندها في مجال المقارنة بين مواقف المثقفين الفرنسيين والعراقيين تحت الاحتلال، هي ان عديد المثقفين الفرنسيين الذين ارتبطوا بحكومة فيشي وتعاونوا مع الاحتلال النازي غّيروا مواقفهم بل وانضم عدد منهم للقتال ضمن صفوف المقاومة، على الرغم من ان عمر الاحتلال والجمهورية لم يتجاوز الأربع سنوات، بينما لايزال المثقف العراقي، يُنشد « التغيير والتحرير»، عاجزا عن لفظ كلمة الاحتلال، بعد مرور 17 عاما عليه. فهل اختلف مفهوم « الاحتلال» حقا أم ان دور المثقف في مجتمع يعيش حالة حرب وحشية مع احتلالين متصارعين، هو صراع مع نفسه؟
1463 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع