خالد القشطيني
الحنين لبغداد
قلما بعد شاعر عراقي عن بلده من دون أن ينتابه هذا المرض، مرض الحنين لبغداد، ويحرك فيه قريحته لتسجيل عواطفه نحوها. اشتهر منهم بصورة خاصة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي كثيراً ما وجد نفسه بعيداً عن وطنه لشتى الأسباب السياسية. الحنين للعراق يرتبط دائماً بالحنين لبغداد ويرتبط الحنين لبغداد بالحنين لنهر دجلة، النهر الذي تحتضنه المدينة كما تحتضن الأم وليدها. نظم الجواهري قصائد عدة تعبر عن تعلقه بهذا النهر في قصيدته الشهيرة «يا دجلة الخير»:
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآنا ألوذ به
لوذ الحمام بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
إلى آخر القصيدة البليغة الحاشدة بالعواطف والشجون. بيد أن الجواهري كان يدرك بأنه سيعود يوماً للمدينة التي أحبها وهام بنهرها. الأمر ليس كذلك بالنسبة لشاعر آخر، الشاعر الموسوي مير بصري الذي رحل من العراق وهو عالم بأنه رحيل من دون عودة، أو كما يقال طريق لا عودة فيه. حمله الرحيل إلى لندن، وفيها راحت عواطف الحنين تنتابه لبغداد وأصحابه فيها. كتب قصائد عدة تعبر عن هذا الشوق والحنين.
بغداد يا حلم الصبا ورؤى الكهولة والمشيب
بعد الطريق فكنت في قلبي كمرآة الغريب
ولكم حننت إلى ربوعك في ذرى الوادي الخصيب
وإلى شروق الشمس في لآلائها وشجا الغروب
قد فاح في قطر الندى وشذى النسيم لدى الغيوب
والطير يبني وكره ويجود باللحن العجيب
كان لمير بصري أصدقاء وأحباء كثيرون في بغداد، فنظم قصائد عدة في وداعهم وشوقه إليهم ولذكرياتهم. كان منهم الأديب والمفكر المعروف مصطفى علي الذي تسنم مناصب مهمة عدة في الدولة. كان منها منصبه وزيراً للعدل في العهد الجمهوري. ارتبط الشاعر به في علاقة حميمية. وكانت مناسبة لإثارة الذكريات:
ذكرت بلادي، ذكرت الفرات
ودجلة والماء يروي الظماء
وشمس الصباح تضيء البطاح
بنور يماثل صفو السماء
وشمس الأصيل تثير الشجون
بريح الأقاحي ولون الدماء
وأين الرياض وفيها الظلال
تداعب سراً ضيوف المساء
وأين النخيل؟ عذوق تميل
ثقالاً بتمر جزيل العطاء
ذكرت الجنان وسرب الحسان
على الجسر يخطرن شبه الظباء
ضحكن سروراً بفيض الصبا
فشع السناء وشاع الهناء
1014 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع