د.صلاح الصالحي
تميمة الكف والعين لطرد الحسد في تراث الشرق الأدنى القديم
شكل 1: يد الإلهة عشتار (إنانا)، هذا العنصر الزخرفي في الهندسة المعمارية الآشورية تم استخدامه في المعابد والقصور وعليه نقوش مسمارية، وقد عثر عليها في قصر آشورناصربال الثاني (883-859) ق.م لإحياء ذكرى إقامة الأساس الجديد لمعبد الإله ننورتا في كالخو (موقع نمرود) كعاصمة للدولة الآشورية
كانت الإلهة عشتار في بلاد الرافدين رمز الحب والجنس والأنوثة، لذلك تقع على عاتقها مسؤولية حماية النساء الحوامل من العين الشريرة التي تجلب الحسد والغيرة وجعلهن يتمتعن بصحة جيدة، لذا علق البابليون في منازلهم اشكال الكف والعين، أو ممارسة التلويح بالكف مع فتح الأصابع بوجه كل حسد مع ذكر الدعاء، أو عند ذبح اضحية سواء كان ديك أو خروف يغمس الكف بالأصابع المفتوحة بالدم ويطبع على الباب أو الجدران من أجل البركة أو على الاغلب لطرد الحسد، ومثل هذه الأفكار قديمة جدا ومعروفة في حضارة العراق القديم.
لدينا واحدة من الزخارف الدينية المستخدمة في كل مكان سواء في الفن أو التصميم يطلق عليها الخمسة (ḫamsa) (الكف والعين)، وهي تميمة على شكل خمسة أصابع مفتوحة في وسطها عين، وعادة هي اليد اليمنى، واستخدمت كعلامة على الحظ الجيد، وابعاد الشر، والحسد، وانتشر استعمالها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبحر المتوسط، وقد نشأت في بلاد الرافدين وفي فينيقيا (سوريا وفلسطين)، وقد برزت الخمسة كرمز المرتبط بدرء العين الشريرة بين المسلمين واليهود أيضا، وأصبحت شعبيتها وهويتها في كل مكان باعتبارها ممارسة دينية عند عامة الناس وكانت أكثر انتشارا في القرن السادس عشر الميلادي، إن دراسة جذور هذه الممارسة وتخصيصها لاحقا للحياة الدينية في الشرق الأدنى إلى جانب تحليل الدور الواسع في استخدام التمائم، وأهمية الرقم خمسة في حياة السكان تلقي مزيدا من الضوء على هذه الممارسة.
تكمن الأصول الأولى للخمسة (الكف والعين) في المجتمعات الشرق الأدنى القديم خاصة في بلاد الرافدين ، فيربط الباحث (Stol) الكف ذو العين بالاعتقاد السائد بالعين الشرير بين سكان بلاد الرافدين، فقد كانت اليد (يد الإنسان) تستخدم كرمز للسحر، والمعروف أن السحر هو أصل الشر الذي يصيب الفرد، ولكن في نفس الوقت كان ينظر إلى (يد عشتار) كرمز جيد، ومع هذا ينظر إلى الأفراد الذين يعانون من الأمراض على أنهم تعرضوا بشكل خاص للحسد وغيرة من قبل آخرين فكانت سببا في مرضهم، وكان يعتقد أن التمائم توفر الحماية الإلهية اللازمة لدرء هذه الخطر، كما أن المعزم وهو كاهن يطلق عليه wāšipu)) مهمته طرد الارواح الشريرة بالتعاويذ و الرقى و عرف بشكل واسع في العصرين البابلي الوسيط (1500-626) ق.م، والاشوري الوسيط (1500-911) ق.م، وقد وردت عدة مصطلحات تدل جميعها على عمل هذا المعزم ودوره في ابعاد الشر.
يوضح الباحث (Stol) أيضا، أن المرض النفسي والجسدي في بلاد الرافدين كان ينظر إليه على أنه يستلزم حماية (يد عشتار) التي تتحكم في المرض والعافية، ويمتد استخدام (يد عشتار) للإشارة إلى المرض النفسي في المصطلحات الأثرية الحديثة في وجود اشكال طينية مفخورة للأيدي التي تم إدخالها في جدران المباني الرئيسية، بما في ذلك مساكن الملوك في بلاد الرافدين، فقد اكتشف علماء الآثار كتابة مسمارية على هذه الأيدي الطينية، وكتبت غالبا على ظهرها، وتحتوي على أسم الملك والمبنى الذي وضعوا فيه تلك اليد، وكانت تستخدم لتفادي الشر والحسد، وبما أن البعض من تلك الايدي وجدت في عوارض السقوف فربما تم استخدامها أيضا (لدعم) هيكل البناء بطريقة ما (الشكل 1).
شكل 2: لوح من النحاس يعود للعصر الآشوري الحديث محتما استخدم في طرد الشياطين الشريرة فكما نرى الشيطان بازوزو في اللوح
تظهر أصول الخمسة (الكف والعين) في العصور القديمة ارتباطا مشتركا بـ (اليد المفتوحة) مع الحماية الإلهية وبركة من الآلهة، ولكنها تشترك أيضا في القلق بشأن آثار العين الشريرة، والمعتقدات الدينية العامية والقلق الذي يبدو ان له دور في حياة المؤمنين في المجتمعات القديمة، وتستشهد الباحثة (Marie-Louise Thomsen) في بحثها:
Marie-Louise Thomsen: “The Evil Eye in Mesopotamia,” Journal of Near Eastern Studies, 51, part. 1. 1992. Pp.19-32
بنص أكادي كدليل على الإيمان بالآثار المدمرة لعين الحسد الشريرة في بلاد الرافدين، فقد كانت العين الشريرة مرتبطة بالسحر والشعوذة وغيرهما من الشرور التي تسببها الكائنات البشرية الخبيثة، وغالباً ما يؤدي السحر إلى نزاعات بين العائلة والجيران، أو مرض خطير، أو حتى الموت، فإن آثار العين الشريرة توصف بأنها حوادث قد تحدث لأي شخص في أي وقت، فقد يحدث خطأ في صناعة الجبن، أو تكسر الأداة، أو تمزيق الملابس، وما شابه ذلك من الحوادث اليومية، فيعتقد ان هناك عين شريرة فعلت هذا الشيء، وحدثني صديق بان عمه الشاب كان يسبح في نهر دجلة صباحا وشاهدة جيرانهم فقال له انت ابيض الجسد وقوي البنية فيما بعد توفي العم المسكين ودفن عصرا في نفس اليوم على ما يبدو لم يكن يحمل تميمة تدفع عين الحسد والشر.
تم اكتشاف الفن (apotropaic) (بمعنى الفن الذي يبحث عن الاشكال التي تجنب التأثيرات الشريرة أو الحظ السيئ بهيئة تماثيل) المرتبط بالعين الشريرة أيضا بين الفينيقيين، فقد اكتشفت تعويذة سحرية على تميمة تحتوي على طرد الأرواح الشريرة في موقع (أرسلان طاش) في سوريا، ويرجع تاريخها إلى عام (600) ق.م، وتصف الثعبان (رمز للشيطان) وهو يلقي العين الشريرة، ولا يمكن تدمير العين الشريرة إلا من قبل الإله بعل، الذي يطرد (الثعبان الشيطاني بعيدا في السهوب)، كما وضعت لوحة أخرى عثر عليها خلال التنقيبات عند مدخل المنزل ودعيت بالعين الشريرة وتعمل على طرد الشر من المنزل.
شكل 3: عين الإله حورس تبعد الشر والحسد والارواح الشريرة في المعتقدات المصرية القديمة، ولازالت تستخدم كزينة تعلق على صدور النساء، وتباع في أسواق خان الخليلي بالقاهرة
كما اعتقد قدماء المصريون بعين حور (حورس باليوناني) (سابقاً عين القمر أو عين رع) بالمصرية القديمة (أوجات)، هي رمز وشعار ذو خصائص تميمية، تستخدم للحماية من الحسد والأرواح الشريرة ومن الحيوانات الضارة، والأمراض، وهي في شكل قلادة يتزين بها الشخص، وتعبر في نفس الوقت القوة الملكية المستمدة من الإله حور، وكانت تلك القلادة توضع أيضا على صدر مومياء الفرعون لتحميه في القبر، وقد صنعت عين حورس من الذهب وصورت تحمل صور حورس والإله رع (إله الشمس)، وكانت (أوجات) بمثابة رمز إلى الاستقرار والآمن في مصر والكون في عهد الفراعنة.
1276 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع