مايكل نايتس*
تحديد نسبة الرد على هجمات إيران ووكلائها
عندما استهدفت الغارات الجوية الأمريكية عناصر من ميليشيات «كتائب حزب الله» وشخصيات عسكرية إيرانية رفيعة المستوى في 29 كانون الأول/ديسمبر و 3 كانون الثاني/يناير، كانت الولايات المتحدة تطلق بذلك العنان لانتقام مكبوت منذ وقت طويل رداً على مجموعة من الاستفزازات من جانب الميليشيات العراقية. ومع أن هذه الضربات القوية ربما تكون قد أضفت بعض الحذر على حسابات العدو، إلّا أنه من المرجح أن يكون هذا الردع مصدراً في طريقه إلى النضوب.
ولعل الدافع الأخير للضربات - مقتل متعاقد مدني أمريكي خلال الهجوم الصاروخي الذي شنته «كتائب حزب الله» في 27 كانون الأول/ديسمبر على قاعدة "كي وان(K-1)" في كركوك، لم يكن سوى حادثة واحدة من أصل سلسلة من عمليات الميليشيات التي تزداد خطورة ضد المنشآت الأمريكية. وقد منع حسن الحظ فقط موت المزيد من الأمريكيين في الهجمات التي شُنت منذ ذلك الحين، وشملت ضرب الجزء الأمريكي من "قاعدة الأسد الجوية" بصواريخ باليستية إيرانية، مما تسبب في أكثر من مائة إصابات دماغية غير مميتة (8 كانون الثاني/يناير)، وقصف قاعة الطعام في السفارة الأمريكية في بغداد بقذائف الهاون (26 كانون الثاني/يناير)، وإطلاق صواريخ على الموقع الأمريكي في "غرب القيارة" (31 كانون الثاني/يناير)، وإلقاء عبوة ناسفة على قافلة لوجستية أمريكية جنوب بغداد (10 شباط/فبراير)، وهجوم صاروخي على موقع أمريكي في كركوك (13 شباط/فبراير).
ويبدو أن الولايات المتحدة قد أبلغت طهران بأنها ستضرب الميليشيات العراقية وأهداف إيرانية إذا قُتل أي أمريكي، إلاّ أنّ هذا الخط الأحمر فتح الباب أمام منطقة رمادية خطرة تشجعت فيها إيران ووكلاؤها على مواصلة هجماتهم غير الفتاكة. فإلى جانب واقع أنّ بإمكان مثل هذه الهجمات الشديدة الخطورة أن تؤدي إلى المزيد من الوفيات الأمريكية في مرحلة ما، فإنها ستسفر أيضاً عن العديد من الإصابات الإضافية إذا ما سُمِح لها بالاستمرار، كما ظهر في الضربة في 8 كانون الثاني/يناير. وعلى نطاق أوسع، سوف تحدّ من حرية الأمريكيين في التحرك في العراق وسوريا، مما سيقوّض هدف وجودها هناك في المقام الأول.
وهذا الوضع غير مقبول - فالولايات المتحدة بحاجة إلى سبيلٍ لردع مثل هذا السلوك، حتى وإن كانت الهجمات لا تتسبب بمقتل الأمريكيين. وعندما واجه الجيش الأمريكي تحديات مماثلة في العقود الماضية، كان يُنشئ أنظمة حساب تُطابِق العقوبة مع الجريمة، مع مستويات مفيدة من القدرة على التنبؤ والتناسب والمساءلة.
الدروس المستفادة من مناطق حظر الطيران العراقية
في التسعينيات، اختبرت قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين تدريجياً الخطوط الحمر الأمريكية في مناطق حظر الطيران، مستخدمةً وحدات الدفاع الجوي لاستهداف الدوريات الأمريكية اليومية بدرجات متفاوتة من الخطورة. فأدرك المسؤولون الأمريكيون أنهم بحاجة إلى آلية للاستمرار في تحديث الردود الرادعة العقابية ومعايرتها، ليس للحفاظ على سلامة قواتهم وعملها فحسب، بل لتفويض الردود إلى قادة محليين أيضاً مع الحفاظ في الوقت نفسه على المساءلة والتناسب. فجاء الحل في شكلين، هما: نسبة الرد وخيارات الرد.
وكانت نسبة الرد عبارةً عن نظام حساب صنّف أنواعاً مختلفةً من استفزازات العدو، ثم ربطها على نحو تقريبي بردود أمريكية مسلحة مختلفة. وقد أخذ النطام العوامل التالية في الاعتبار:
كمية الهجمات. عدد الهجمات ضمن فترة التغطية المعنية (على سبيل المثال، الأيام الخمسة عشر الماضية).
التصنيف النوعي. على سبيل المثال، تم تصنيف إطلاق نيران مدفعية عشوائية مضادة للطائرات في مرتبة أدنى من إطلاق صاروخ أرض جو فتاك من طراز "إس إيه 6 (SA-6)"؛ كما صُنّفت الهجمات على المنصات الهشة مثل طائرات الإنذار المبكر المحمولة جواً في مرتبة عالية أيضاً.
نسبة الرد. تم اختيار شدة كل ردّ فعل حركي للولايات المتحدة استناداً إلى الحساب الرقمي للعامليْن الكمي والنوعي أو إلى عملية احتساب أقل رسمية (على سبيل المثال، يمكن اعتبار خمس هجمات مدفعية مضادة للطائرات كمعادِلة لهجوم صاروخي واحد).
وكانت خيارات الرد عبارة عن مجموعات من الأهداف المفروزة مسبقاً والتي يمكن الحصول بسرعة على تخويل لاتخاذ إجراءات انتقامية بحقها. وتضمّن النظام متغيريْن اثنين هما:
اختيار الأهداف: تم تقييم خيارات الرد، حيث قد ينطوي الخيار الأدنى على ضربة مباشرة على وحدة الدفاع الجوي المخالِفة، بينما قد يكون مستوى الرد التالي ضربة مباشرة على مجموعة بعيدة وأكثر قيمة من أهداف الدفاع الجوي. أما خيارات المستوى الأعلى فقد تتضمن ضرب أهداف خارج منطقة حظر الطيران أو أهداف أخرى غير الدفاعات الجوية. وقد مَنَح هذا النظام للقادة الأمريكيين من حين لآخر خيار تعقب أهداف استراتيجية قيّمة مثل القيادة على المستوى الوطني والمواقع العسكرية.
سلطات القيادة: كان كل خيار رد مقترناً بمستوى تخويل معيّن. فقد تتم الموافقة على الخيار الأدنى على المستوى التكتيكي (أي، الطيار الذي تم ضرب [طائرته])، في حين تتطلب الخيارات الأكثر قوة موافقة من القائد العام في "القيادة المركزية الأمريكية" أو حتى كبار القادة المدنيين في واشنطن.
والأهم من ذلك، تم تصنيف النظام على المستوى السري، لذلك لم يعرف العدو تماماً كيف تم ترجيح الانتقام أو تخويله. وعلى هذا النحو، يمكن اعتماده سرّاً ليتناسب مع الظروف المتغيرة في العراق والإرادة السياسية في واشنطن. كما منح النظام المسؤولين الأمريكيين خيار حجب الرد وإضافته إلى "ملف" العدو لشنّ ردٍ أقوى في وقتٍ لاحق والضرب في الزمان والمكان الذي يختارونه - ولكن دائماً مع تحليل منطقي ومقاييس حسابية داخلية واضحة. وعند تطبيق هذه الأساليب بجرأة، كما كان عليه الحال في منطقة حظر الطيران الشمالية في عام 1998، فقد قللت على نحو فعال من الهجمات العراقية على الطائرات الأمريكية.
تطبيق نسبة الرد حالياً
هناك على الأقل بعض الآليات التي تدعم نسب الرد وخياراته على مأزق حماية القوات الذي تواجهه الولايات المتحدة حالياً في العراق وسوريا، حيث تعمل القوات الأمريكية من جديد في مرمى العدو بشكل يومي. وفي الواقع، يشير الردّ الأمريكي السريع على الهجوم الصاروخي الفتاك الذي وقع في 27 كانون الأول/ديسمبر إلى أنّه تم استخدام خيارات الردّ المفروزة مسبقاً. غير أنّ الموقف الأمريكي الحالي هشّ ويمكن التنبؤ به بشكل عام، وأن الإجراءات الدفاعية الكلية لن تكون كافية لحماية القوات الأمريكية والدبلوماسيين والمقاولين. ولن تتمكن الحكومة الأمريكية من تلبية واجب ضمان أعلى درجات الحماية سوى من خلال إقران الإجراءات الدفاعية مع الردع بالعقاب.
وقد تؤدي نسبة الردّ الجديدة إلى أخذ العوامل التالية في الاعتبار:
كمية الهجمات. عدد الهجمات المدعومة من إيران على القوات الأمريكية في العراق وسوريا ضمن فترة التغطية المعنية - على سبيل المثال، الثلاثين يوماً الماضية.
التصنيف النوعي. يجدر تصنيف هجمات الصواريخ وقذائف الهاون التي تنطوي على إطلاق نار على أهداف دقيقة أو بشكل كثيف بِنيةٍ واضحة للقتل عند مرتبة أعلى من ضربات المضايقة وتجنب الهدف عمداً. كما يمكن تصنيف الضربات على الأهداف الهشة (على سبيل المثال، المنشآت غير المصلّدة، الطائرات، قوافل السيارات) في مرتبة أعلى أيضاً. وقد يتم تصنيف استخدام الأسلحة المتقدمة مثل القنابل التي تزرع على شكل متفجرات على جانب الطريق أو الصواريخ الدقيقة أو الصواريخ الباليستية في مستوى أعلى بعد.
وعند احتساب الجيش الأمريكي نسبة الردّ من أجل تنظيم ردود فعله الحركية على مثل هذه الهجمات، يمكنه مراعاة المنهجية التالية:
خيارات الردّ. يمكن للخيارات الأدنى أن تنطويَ على إطلاق نيران مضادة على فرق الصواريخ، كما حدث على ما يبدو في 31 كانون الثاني/يناير عندما استهدفت المدفعية فريق الصواريخ الذي يطلق النار على الموقع الأمريكي في "مطار قيارة الغربي". ويمكن للأهداف الأعلى مستوى أن تشمل قواعد الميليشيات والعناصر التكتيكية (مثل تلك التي قُصفت في 29 كانون الأول/ديسمبر) أو قادة الميليشيات (مثل أولئك الذين قتلوا في 3 كانون الثاني/يناير). كما تشكّل الإصابات الوشيكة غير الفتاكة أو الضربات الفتاكة على شخصيات مقربة من قادة الميليشيات خيارات محتملة أخرى، وهو الأمر بالنسبة للهجمات الإلكترونية. وتجري في الواقع عملية متواصلة لتوليد الأهداف وفرزها والموافقة عليها، لذلك كل ما يلزم فعله هو تقسيم خيارات الرد إلى مستويات مختلفة.
سلطات القيادة. يجب أن يكون مستوى التخويل اللازم لتنفيذ معظم خيارات الرد هذه أو جميعها مرتفعاً جداً، مثل القائد العام لـ "القيادة المركزية الأمريكية"، أو على الأرجح القادة المدنيين الكبار في واشنطن. ونظراً إلى قلّة الضربات المفترضة الضرورية، فلن يكون إشراك قادة رفيعي المستوى في صنع القرار في كل حالة أمراً غير منطقي أو عبئاً لا مبرر له. ولن تكون هناك عجلة للضرب في معظم الحالات، ومن شأن نظام خيارات الرد المفروزة مسبقاً أن يسهّل بشكل عام الانتقام في الوقت المناسب - وبالتأكيد بسرعة كافية تسمح لأعداء الولايات المتحدة بالربط ما بين استفزازاتهم المحددة وردود واشنطن المتناسبة على نطاق واسع.
سياسة الانتقام في العراق
لا بد من مراجعة أعمال الرد وتحديثها بانتظام، لذلك من الضروري استخدام أي نظام رد وتفقده باستمرار للتأكد من أنه لا يزال يتناسب مع الهدف المقصود منه. ويمكن لواشنطن حينئذ تغيير طريقة احتساب نسبة ردّها سرّاً وكما تريد. ومن خلال تقليل ضغط الاضطرار إلى الردّ فوراً خوفاً من الاعتبار [بأنّ الولايات المتحدة] تدير خدها الأيسر، بإمكان مثل هذا النظام أن يُخفض خطر استدراجها إلى شنّ ضربات انتقامية في ظل ظروف خطيرة - لا سيما عندما تهدف قوات العدو إلى جذب القوات الأمريكية إلى التسبب في أضرار جانبية. وتوجد بالفعل العديد من مكونات مثل هذا النظام (مثل فحص الأهداف واعتبارات التناسب)، ولكنها غير مدمجة في إطار منطقي للدفاع عن النفس.
وللخروج من الحلقة المفرغة الحالية، تحتاج الحكومة الأمريكية إلى نظام انتقامي أكثر رسمية تتوازن فيه المزايا الميكانيكية والسياسية. وإلا، ستستمر إيران وميليشياتها العميلة في تجاوز حدود الردع إلى أن تقتل المزيد من الأمريكيين أو تصيبهم بجراح بشكل مؤلم. وكان اغتيال قائد «كتائب حزب الله» أبو مهدي المهندس والقائد الإيراني قاسم سليماني في 3 كانون الثاني/يناير قد شكّل فائضاً من الانتقام في وقت واحد، يتسبب في خطر كبير بحدوث تصعيد غير مقصود واحتمال تقويض الموقف الأمريكي الشامل في العراق وسوريا. يجب على أولئك الذين يرغبون في السلام أن يسعوا إلى إيجاد نظام ردع أكثر تدريجياً يمكن أن يخفض حرارة الصراع الأمريكي-الإيراني.
*مايكل نايتس، هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وقد عمل على نحو وثيق في القضايا الأمنية في العراق منذ عام 2003، بما فيها إطروحة حول سياسات الغارات الجوية الأمريكية المستهدفة في ذلك المسرح.
1008 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع