علي حسن
اطلالة على قصيدة ( اموت غريبة*)
اعادتني قصيدة " أموت غريبة " للشاعرة سمية العبيدي الى زمن كان قد مضى ولم يبق الا شيء قليل مما علق في الذاكرة وما كان له ان يزول ففي المعقل وفي مجلة الموانئ العراقية خرج بدر شاكر السياب حيث كان يعمل وكان الجو ماطرا الا انه لم يلبث الا ان عاد الى مكان العمل ثم خرج بعدما يزيد على خمس عشرة دقيقة بقليل وفي جيبه قصيدة – مدينة بلا مطر- التي ما كان للسياب الا ان ينفثها بعد طول حصر في العقل وفي الوجدان فكانت بصورها وأفكارها ورؤاها واحدة من القصائد التي يضن بها الزمان في شعرنا الحديث 0
وهكذا كان الأمر مع قصيدة " أموت غريبة " ففي اقل من عشر دقائق كانت هذه القصيدة قد انبثقت من مكامن الأسرار لتقول الشاعرة العبيدي من الشعر ما تشاء وتهوى حين تقفل الى النفس بتاريخها وتراثها بنخيلها ونهرها ومن ثم الإنغراس بطمي العراق حيث يتشكل الوجود بحضور إيجابي لا سلبي00 لذا فان الشاعرة تشبثت بهذا كله مزيحة عنها صورة السياب ونازك الملائكة لانها إرتأت الا تكون مثلهما كيلا تموت كما ماتا غريبين عن العراق0
ما كنت نازكة
ولا أشبهت بدرا
- ومثلهما أموت غريبة -
وما ذاك الا لانشدادها وإنغراسها في ملاعب صباها ومواطن أحلامها حيث تتكور وتنمو الحياة فتغدو تاريخا حاضرا لا انفصام عنه بل مداومة فيه وانغراس رغم الغضب ورغم الحزن والألم الذي يلفنا ويحتوينا 0
قدماي عالقتان في طمي العراق
وملء أنفي عطره
ورغم معاناتها الذاتية التي لم تفصح عنها مباشرة الا اننا نستشف ذلك من الصورة الكبيرة التي تعرضها وما ذاك الا شعورها باللامبالاة فهي ملفوظة مثل التمرة التي يلوكها آكلها ثم يقذف بها غير آبه لما فعل لكنها تظل قائمة لا تزحزح عن الأرض التي عرفت وأحبت مع ظنها بقرب خطوات الإنطفاء منها0
كنواة تمر 000 مجها
فمه الجهول
وأنا المسافر لا حقائب لا وداع
قيد الافول
وهنا تبدا رحلة الإنعكاف الى الذات أي العودة الى منبع الأطياف والأحلام لقولبة الذي نعرف ولا نعرف فإذا بها تكتشف ان الربيع لا يأتي من الخارج بل هو كامن هنا فينا في هذه الأرض التي نعيش حيث يتشكل الوجود هنا لا في بلاد لا نعرف ولا ندري0
سافرت نحو سريرتي
فإذا الربيع
أُكذوبة الغرباء
تحفل بالخداع
لكن السعي الى المستغرب لم يتأت عبثا او رغبة فيه لولا الهمجية التي تغلغلت في النفوس فجففت سواقي الفراتين وأيبست سعفاته وأقامت الموت في جوانبه وحوافيه دونما أي التفات الى الموتى الذين يتساقطون مثل " خلال الطوش " وما يعقب ذلك من أيامى ومن يتامى ومن ثكالى فالموت في ازدياد والجوعى في ازدياد وكأن سواقي الفراتين لا تشبع ولا تغني من جوع 0
وإذا الرعاع
شنوا بها حربا على حرب
وموتا فوق موت
ليضاعفوا عدد اليتامى
والأيامى
والجياع
ولا تنسى الشاعرة أن تشير الى النهازين والى الذين يتقنون لعبة القرود فكلهم في ساحاتنا يرقصون ولكن أي رقص هذا الذي يرقصونه انه رقص الأغبياء الذين لا يفقهون الفعل الذي يفعلون وإنما هم اليها يسعون لان فيها الجمار والخبز ولأن فيها الرغد الذي لا تزغب فيها الحواصل و البطون دونما التفات منهم الى الطريقة أو السبيل 0
تعثو بها الحرباء والرعناء
في رقص غبي
أيٌّ تفوز بها
وتلبس تاجها المصنوع من طلح
ومن جمارها المسكي من
نارنجها المشحون فخرا
من مائها والخبز من
فوح الفطائر في المساء
وعلى الفراتين تنثر الشاعرة رؤاها وكذا معهما الزاب والغراف وما ذاك الا رمز واشارة الى ان العراق واحد كلي لايصيبه انفطار او تمزق وابناؤه ينجذبون اليه لانه لهم جميعا دون ان يفقه الرعاع انه للجميع يسبغ عليهم خيره ويظلهم بخيمته 0
ومن الرؤى
عطفات ظل ساحر
نحو الفرات ودجلته
والزاب والغراف وال .....
سمك يطرز بالحنين
امل يقبل بالجبين
وما تلبث القصيدة الا ان تنحو نحو بغداد لان فيها الاحلام وفيها الذكريات وفيها التاريخ الذي يهمي بحضارته وفيها يتم الالتصاق بالطمي والنخيل حيث تشرق صورة بغداد كأحلى ما تكون وأجمل ما يرى لا تحجبها ستائر الزيف ولا عواء الذئاب فهي مليحة المليحات وعروس هذا الشرق 0
بغداد اغنيتي وحبي
إن زيفوا من وجهك العربي00 لا
انت المليحة في فؤادي
وعروس شرقي
00 ان الشاعرة كما بدأت قصيدتها فانها تنهيها بالتفاتها الى شاعرين رمزين هما السياب والملائكة بهدهدة لا يمكن ان تكون الا هكذا00
يابدر نم رغدا
ونازك هللي
مازلت انت أثيرة 000 فيها
وان بعد المراح
وهذه القصيدة من القصائد الي لا يعتورها غموض ولا تدخل في دياجير الأسرار ولا تحتاج معها الى من يفتح لك باب الطلسم فهي تلقي نفسها بين يدي المتلقي بسهولة ويسر مع ميل قليل الى استخدام المجاز مما اعطى القصيدة طابعا إنسيابيا لا عثرة فيه0 وأعطتنا الشاعرة فهما ان بغداد ليست اسمنتا او آجرا وليست حديدا وقيرا إنما بغداد هي الحياة التي تنمو وتترعرع في عروق الشاعرة وفي عروقنا فلا مليحة سواها ولا اغنية الا هي وما ذاك الا بسبب هذا الهوس الذي يتخطى حالة العشق الى حالة الذوبان فيه باستدامة00
*قصيدة ( أموت غريبة ) هي قصيدة للشاعرة سمية العبيدي
كانت قد نشرتها صحيفة (المشرق) على صفحتها الثقافية بتاريخ 22 / 6 / 2014 ونشرتها صحيفة المثقف في 5/9/2018
1042 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع