الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
مدينة أيتو (هيت) والقار في حضارة العراق القديم
صناعة الزوارق الكبيرة للنقل من القصب في مدينة هيت على الفرات حيث يتم وضع القير في أسفل القارب وفي الداخل لمنع تسرب المياه الى داخل القارب، اخذت الصورة من قبل الرحالة كلارك في القرن التاسع عشر حوالي عام 1888 ميلادية عند زيارته العراق، ومثل هذه الزوارق كان يسافر فيها الناس وتنقل عليها البضائع
تعتبر مادة (القار) وهي مادة بترولية من أقدم ما عرفه سكان بلاد الرافدين، وأطلق عليه (بالسومري (esir) بالأكدية هيتو أو ايتو (URUtui4) أو إتي (URUi-ti)، وأسم إتو(ittu) بمعنى (القير الغير مصفى)، وقيرو (qiru) تعني (القير الطري)، وكوبرو (kupru) يقصد به (القير الجاف)، ومن هيتو أو إيتو اخذ اسم مدينة هيت التي تشتهر بينابيع القير، وتكتب بعلامتين مسماريتين أحدهما العلامة التي تدل على البئر، والثانية العلامة التي ترمز إلى مياه العمق المقدسة أي (ابسو) كما جاء في اسطورة الخليقة البابلية، وأطلق على مدينة هيت الجغرافي بطليموس أسم (دياكيرا) (Dicira)، كذلك أشار لها المؤرخ الروماني (أميانوس مرسيلينوس) بنفس الاسم عندما تحدث عن أخبار حملة الامبراطور الروماني (جوليان) عام (363) م على بلاد الرافدين وكان في وقتها يقود حملة كبيرة برية ونهرية متخذا طريق الفرات الأوسط نزولا إلى مدينة المدائن (سلمان باك) (طيسفون القديمة)، ولعل اسم (دياكيرا) هي صيغة مشتقة من اللفظة الآرامية أو العربية (دقيرا) أي (ذات القير)، كما أشارت المصادر الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) حول هيت باسم (ايس)، وفي كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس في القرن الخامس ق.م وردت المدينة باسم (ايس) (Is) أو(اد) أو (ايوبوليس) (Aipolis) واصفا منابع القير بانها مسرب صغير يجري إلى الفرات في نقطة تقع عندها مدينة بالاسم نفسه، وعلى مسيرة ثمانية أيام من بابل حيث توجد كتل القار بغزارة عظيمة في النهر) هذا يدل على أهمية هيت كمصدر للقير، ويستمر هيرودوتس في حديثه بان القير مصدر للأعمال العمرانية التي أقامها الملك نبوخذنصر الثاني في بابل عندما شيد سور مدينة بابل فقال: (شيد السور باستعمال القير الساخن اللاصق في كل مكان، ويتوسط طبقة حصران القصب في كل ثلاثين سافا من الطابوق)، وأشار المؤرخ اليوناني بان ايس (هيت) هي المركز الرئيسي لتزويد مدينة بابل بالقير، ولكن معلومات المؤرخ اليوناني محدودة حول مناطق انتاج القير في العراق القديم، فقد استعمل سكان بلاد الرافدين القار في البناء من مصادر مختلفة ففي النصوص السومرية ذكر بان هيت كانت تزود مدينة أور بالقير حيث ينقل بالسفن من هناك، بينما القير المستعمل في موقع البقاق وفي نمرود والحضر فمصدره منطقة القيارة، أما القير المستعمل في تل الصوان فمصدره كركوك، على اية حال استخدم القير بكثرة في شتى المجالات مثل علاج الامراض الجلدية، وطلاء السفن، والسلال، والأواني الفخارية، واستغلال صفة اللصق فيه فاستخدموه في لصق احجار الزينة، ولصق مقابض الآلات القاطعة، والأدوات الموسيقية، والعربات، والأسرة، والمناضد، وفي التطعيم بالعاج، ولصق الصدف، واللازورد، والعقيق الأحمر (بالسومري na4gug وبالأكدية Samtū)، واستورد سكان بلاد الرافدين أحجار العقيق من شرق إيران، وحجر اللازورد من مناجمه المعروفة في منطقة (باد اكشان) شمال أفغانستان، والأصداف من سواحل البحر المتوسط والخليج العربي، وكان القار والحاصلات الزراعية هي المواد التي كان سكان العراق القدماء يقايضون بها لشراء احتياجاتهم واهمها المعادن والاحجار الصلبة والاخشاب الجيدة، ومن المهم ان يكون هناك تخصص في السفن والنقل فلدينا رسالة شكوى قديمة حول نقل شحنة من النبيذ على متن سفينة لنقل القير (eleppu Ittû) (السفينة بالأكدية يلبو (eleppu وفي العهد البابلي الحديث سفيناتو Sapinatu كما في اللغة العربية)، ويظهر ان رائحة القار لوثت النبيذ وجعلت رائحته غير مقبولة، وطالب صاحب شحنة النبيذ التعويض.
إيتو في نصوص ملوك بلاد الرافدين
كان ملوك بلاد الرافدين يهتمون بحملاتهم العسكرية والعمرانية فذكروا مدينة هيت والقار، فمثلا سرجون الأكدي في عام (2370) ق.م شيد معبدا للإله (دﮜان) (داﮔـون المذكور في التوراة) في مدينة توتول الاسم الآخر لمدينة ايتو، وقدم القرابين بنفسه لهذا المعبد كما جاء في النص:( Sar-ru-GI LUGAL Tu-tu-liki a-na dDa-gan uš-ka-en ik-ru-ub ma-tám a-li-tám i-di-šum )، ولدينا مراسلة تعود إلى العهد البابلي القديم من ماري(Mari)، وكتبت هيت بأشكال متعددة (dÍDki) , (i-daki) , (i-ta-i(a)ki)، وطبقا لقائمة المعجم لفترة متأخرة [a] i-tú-d وهي مساوية في فترة متأخرة نسبيا مع أسم توتول [tu]-ul-tu-ul ki ، ومدينة تولتول (Taltul) أو توتول (Tuttul) كما جاء في نقوش سرجون ملك أكد، ولكن الغالب من الأسماء بعد الالف الأولى هي ايدو أو إيتو (Idu )، ولهذا لا يجب أن نكون في حيرة مع مدينة اخرى تحمل نفس الاسم توتول وتقع على رافد البليخ فتلك مدينة أخرى، أما نصوص تجلاتبليزر الاول (1115- 1077) ق.م فان أسم (ايدو) ورد في أحد القوائم الخاصة بالأقاليم التي ارسلت الجزية إلى الملك الاشوري.
في الالف الأولى ق.م ذكرت زكو (Zaqqu ) و ايدو (Idu) (urui-du) مرة أخرى من قبل ادد- نيراري الثاني (911-891) ق.م الذي زعم بانه استردها لأجل الإله آشور مما يوحي لنا بانها انفصلت عن التبعية الاشورية وعادة تحت السيادة البابلية، وأيضا جاء ذكرها في اخبار حملة توكلتي ننورتا الثاني (889-884) ق.م بانه أقام مخيم بالجهة اليسرى للفرات، بالقرب من منابع القير، أي بالجهة المقابلة لموقع مدينة (ايدو) (URU.ÍD)، ولكن الباحث (Forrer) يقترح بان (ايدو) تقع على الضفة اليسرى من النهر، عموما ذكر توكلتي ننورتا الثاني في النص: ( قرب ايتو (هيت) عيون القير ومكان صخور- ushmeta، ومن خلالها تتكلم الآلهة، أنا قضيت الليل فيها، وتقع ايتو في الجهة الاخرى من الفرات...)، من الواضح صوت خروج القير من باطن الأرض جعل الجنود الآشوريين يتصورون أنهم يسمعون اصوات الآلهة تنبعث من حجر (اشميتا) إشارة إلى خروج الغاز الطبيعي مع القير، فشعروا بالرهبة ربما هذا هو أحد الأسباب التي جعلت ملك آشور ينصب مخيمه العسكري الموقت (كرشُ) في الجهة الأخرى من الفرات.
كان موقف المدينة ايجابيا ومتميزا إلى جانب الدولة الاشورية في أواخر سنوات عمرها العظيم، فقد صدت هجوم نبوخذنصر الثاني ملك بابل على مدن زنكو (Zanqu) و ايدو (Idu)، لأنها من وجهة نظر الملك البابلي أحدى القلاع الاشورية المهمة على نهر الفرات، وبقيت المدينة في كل العصور التي تلت سقوط الدولة الاشورية يرافقها أسم القير في اشارة لوجود علاقة بين اسم هيت والكلمة الأكدية ((mûitt) القير.
وقد وصف الرحالة الاوربي بيتر (Peter) من القرن التاسع عشر الميلادي ينابيع القير بقولة: (مباشرة خلف المدينة هناك عينان يفصلهما مسافة (30) قدما، أحدهما يتدفق منه ماء ساخن واسود ممزوجا بالقار، بينما الثاني يتدفق منه القار بشكل متقطع، وفي حالة هبوب عاصفة مطرية يصبح القير مغمورا بالماء البارد … وتنتشر صخور حول مدينة هيت وهي مليئة بالقار)، ومدينة هيت الحديثة تنتج حاليا اضافة الى القير هناك الملح ومقالع الأحجار والتمور فالخير فيها لا ينضب هناك.
2188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع