الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
طبيب أطفال - الموصل
الروائح وعلاقتها بالأمراض في الطب العربي والطب الحديث
المحور الأول : حاسة الشم وعلاقة الروائح بحدوث الأمراض في الطب العربي الإسلامي
أولاً : ما جاء حول ذلك في الطب النبوي :
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي ( ص) (( فرَ من المجذوم كما تفر من الأسد )) . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، قال ، قال رسول الله (ص) (( لا يوردن ممرض على مصح ))
ويعلق إبن القيم على هذه الأحاديث فيقول (( ومقارب المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته . فالنبي لكمال شفقته على الأمة ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم )) ثم يقول (( وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه . وهذا معاين في بعض الأمراض . والرائحة أحد أسباب العدوى ))
كما وأوصى ( ص ) بتجنب الغبار فقال : (( تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة )) وللنسمة معاني ذكرها اللغويون منها الشيء الحي صغر أو كبر . ومعنى الحديث يأتي أن تجنبوا الغبار فإن بسبب وجوده في الهواء فيه كائنات حية صغيرة لا يمكن للعين أن تستبينها تسبب أضراراً لكم فمعروف أن ذرات الغبار تحمل الجراثيم مسببات الأمراض .
أما إذا أخذنا معانيها اللغوية الأخرى وهو ( الربو ) كما فسرها البعض فإن هذا الحديث يبين لنا وجهاً آخر من أنواع الخطر يجب أن نتفاداه حيث الغبار الحاوي أتربة عضوية يكون مسبباً لمجموعة من الأمراض التحسسية منها مرض الربو. والحاوي على أتربة معدنية يكون سبباً لبعض أمراض الجهاز التنفسي وأنواع التسمم بتلك المعادن لدى عمال المناجم التي يظهر في أجواءها الهواء الملوث بغبار تلك المعادن .
وبذلك يقدم لنا الرسول صلى الله عليه وسلم نصيحة لم يُلتَفت إليها الاّ قبل سنوات وبجهود مضنية من الباحثين والعلماء .
ومن الأمور التي استنها ( ص ) الاستنشاق بالماء ثلاث مرات عند كل وضوء ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر )) رواه مسلم وأحمد .
وهذا الاستنشاق وغسل الأنف المتكرر يزيل أغلب المكروبات التي تنتقل إلى الإنسان بالرذاذ عن طريق التنفس .
ثانياً : أراء الأطباء العرب عن حاسة الشم:
يقول عبد اللطيف البغدادي (( أن الحواس خمس وأنها تشترك في إدراك أعراض الأجسام ، وأن كلاً منها يختص بصنف من المدركات . . وكل واحد من الحواس له عضو خاص به هو آلة له . . حاسة الشم وهي تدرك من محسوسها الروائح المتحللة منه المنفصلة عنه المختلطة بالنسيم المستنشق الواصل إلى الدماغ ، وذلك يكون عند مباشرة حاسة الشم الهواء المتنسم الذي انفصل عن الجسم ذي الرائحة أو اختلط به شيْ من لطيفه المنفصل عنه الحامل للرائحة ))
يعلق محققا كتاب الحواس للبغدادي في الحاشية ما يلي (( الدماغ هو ما نسميه المخ ، ومعنى ما قاله عبد اللطيف هو أن الرائحة تصل إلى الدماغ مع النسيم ، فقد كان الاعتقاد أن النسيم يحمل ريحاً يعبر فتحات المصفاة الموجودة في سقف الأنف فيصل إلى الدماغ ، حيث يتحول إلى الروح الحيوي ، وأن الروائح تدخل مع النسيم على شكل جزيئات عبر ثغرات المصفاة إلى البصيلتين الشميتين اللتين كانت توصفان بأنهما مجوفتان ))
ويقول البغدادي (( حاسة الشم تدرك محسوسها بمتوسط كثير مشترك ولا تباشر الجسم ذا الرائحة بذاتها بل بوسائط ، ومن مكان بعيد ولذلك صار يشتق للروائح أسماء من الطعوم . . فيقال رائحة طيبة وكريهة وحادة وحريفة وأمثال هذا ، وإن كان للروائح من ذلك أسماء تخصها مثل المنتن ، والزفر ، والسهك ونحو ذلك ، وليست الحاسة ضرورية لكل الحيوان . . فأما الإنسان فإن حاسة الشم فيه وإن كانت ضعيفة أضعف منها في كثير من الحيوان ، إلا أنها أصدق إدراكاً وأقوى تمييزاً لفصول المشمومات ))
ويقول إبن سينا في أحوال الأنف (( مجرياه ينفذان إلى المصفاة الموضوعة تحت الجسمين الشبيهين بحلمتي الثدي والحجاب الدماغي هناك أيضاً يثقب بإزاء ثقبة من المصفات لينفذ فيها الريح ، وكذلك تتصفى الفضول في تلك الثقب ومن طريقها ينال الدماغ والزائدتان الناتئتان من الرائحة بنشق الهواء ))
وقال أيضاً (( وأما كيفية الشم . . أما أن الرائحة يكون في الهواء انفعال منه أو تادية او بسبب بخارى يتحلل . . . وليقبل الطبيب أن الشم قد يكون في الأصل باستحالة ما في الهواء على السبيل التادية ثم يعينه سطوع البخار من ذي الرائحة ))
ثالثاً : معرفة الأطباء العرب بأمراض الحساسية : كان ابن ماسويه أول من ذكر حدوث الحكة نتيجة أنواع الأكل كالسمك ومشتقات الحليب . وكان الرازي أول من وصف حمى القش
( Hay Fever , Allergic Rhnitis ) في رسالة كتبها عن الزكام الذي يظهر في الربيع عندما تتفتح الأزهار حيث أن أحد مرضاه كان مصاباً بهذا المرض وبذلك يكون أول من إبتدع مفهوم الحساسية من شم روائح الأزهار والأعشاب كسبب للمرض .
رابعاً : الرائحة سبب لعدوى الأمراض في الطب العربي الإسلامي :
مسألة كون الرائحة كسبب لإنتقال الأمراض جاءت لدى أغلب الأطباء العرب والمسلمين ، وقد ذكرنا فيما سبق آراء إبن القيم حول ذلك ، أكتفي هنا بذكر قول للرازي حول ذلك ، إذ يقول عن الأمراض المعدية عن طريق الريح (( ومما يعدي الجذام والجرب والحمى الوبائية ( التيفوئيد ) والسل … إذا جلس مع أصحابها في البيوت الضيقة وعلى الريح . والرمد ربما أعدى . . . والقروح الكثيرة الرديئة ربما أعدت ، بالجملة كل علة لها نتن وريح فليتباعد عن صاحبها )) .
المحور الثاني : المفهوم الشعبي لعلاقة الروائح بالأمراض
نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين ولا زالت بعض شرائح مجتمعنا تتعامل مع أطفالهم بعقلية قرون التخلف ، ويمعن في تثبيت تلك الأفكار أُناس منتفعون مشعوذون ، ومن هذه الأفكار التي تعتقد بها بعض الأمهات مسألة ( الريحة ) .فإذا ما أُصيب الطفل بالإسهال أو القيء فسببه الريحة ! وإذا أصيب بالحمى أو السعال فالمتهم الريحة ! !
وقد يكون شم الأم للريحة هو سبب مرض الطفل لأنه يرضع منها فترى - بعض الأمهات من الأرياف - لتلافي ذلك يقمن بسد أنوفهن بخرق صغيرة عند دخولهن المستشفى أو عيادة الطبيب .
والريحة في نظر المؤمنات بها متعددة الأنواع منها طيبة ، أو كريهة ، أو ريح نفاس ، أفكار وكلمات ما أنزل الله بها من سلطان ولا ذكرها عالم أو طبيب منذ عهد أبقراط حتى يومنا . ومن أين جاءت ؟ لا أدري .
وأتساءل ترى هل يخلو بيت من رائحة سواءٌ أكانت طيبة أو كريهة، إذاً لماذا لا يتأثر بها كل الأطفال ويتأثر بها البعض فقط. وريح النفاس إن كانت ذات ضرر لماذا دائماً تبنى في العالم قاطبة أجنحة وردهات الأطفال ملاصقة لردهات الولادة ، ألا يخشون على الأطفال من ذلك ؟
أعود لأقول بأن هذه الأفكار البالية يقوم بها ويروج لها أُناس يبغون من وراء ذلك الربح . وطريقتهم في علاج آثار الريحة تتلخص بفرض حمية قاسية على الأم المرضع ( تضر بها وبالطفل ) ، وسقي الطفل ما يسمونه ( السقوة ) ، والذي هو عبارة عن خليط من مساحيق بعض الأعشاب أو تلطيخ رأسه وجسمه بها . وزيادة في التفنن أخذ البعض من ممارسي هذه المهنة خلط تلك المساحيق بمساحيق بعض المضادات الحيوية التي توقف الإسهال ، وبذلك أخذوا يمعنون في تثبيت هذه الخرافات حتى في نفوس بعض المثقفين من الآباء والأمهات . وإذا نجحت حيلهم مع البعض فإن التأخر في أخذ الطفل للمستشفى أو الطبيب يؤدي في أغلب الأحيان إلى اختلاطات وعواقب وخيمة لدى الطفل كالجفاف وارتفاع في درجة الحرارة وبالتالي حدوث اختلاجات عصبية أو لا سامح الله الوفاة .
لذا أُؤكد هنا بأنه لابد من الوقوف بصرامة في وجه مثل هذه المعتقدات الخاطئة وأن يفهم الآباء والأمهات بأن للأمراض أسباباً ثابتة علمياً ، يشفى بعضها بعد إكمال دورة المرض من دون علاج ، وللبعض الآخر علاجات طبية معلومة ، ولا داعي لسلوك هذه الأساليب التي لا يقبلها عاقل ولا صاحب فكر عصري .
المحور الثالث : حاسة الشم وعلاقة الرائحة بحدوث الأمراض في الطب الحديث
أولاً : الإصابة بالأمراض نتيجة شم واستنشاق الهواء الملوث : إن استنشاق الهواء النقي لا يحدث أي ضرر واضح في جسم الإنسان وخاصة على المجاري التنفسية . إلا أن الهواء النقي قد يتلوث ، و قد بدأت مشكلة تلوث الهواء تظهر بشكل فعلي بعد الحرب العالمية الثانية وظهور البترول وما تلاها من ثورة صناعية, فقد انتشرت المصانع المختلفة في كل مكان كما انتشرت السيارات وآليات النقل مما أدى إلى ارتفاع حاد في نسبة الملوثات الهوائية وذرات الغبار في الجو ، كما أن الهواء النقي قد يتلوث نتيجة البراكين واشتعال الغابات أو بسبب وجود مواد مشعة كالتي تنتج عن التجارب النووية ، إضافة لملوثات الهواء من البيوت ودخان السكاير .
والمخاطر الصحية للهواء الملوث كثيرة منها ، ازدياد الإصابة بأمراض الرئة والحساسية والجلدية ، وازدياد عدد الوفيات في المناطق السكنية ذات الأجواء الملوثة خاصة كبار السن وضعاف البنية نتيجة تعرضهم لإلتهابات القصبات المزمن والربو وسرطان الرئة .
ثانياً : العدوى بالأمراض المعدية عن طريق الشم والاستنشاق : من المعروف بأنه هناك كثير من الأمراض المعدية تنتقل بواسطة شم واستنشاق الأصحاء الرذاذ المتطاير( الحاوي على عوامل ومسببات تلك الأمراض من المكروبات والفيروسات والفطريات ) من فم وأنف المرضى
( أثناء السعال أو العطاس ) .
ثالثاً : الإصابة بأمراض الحساسية نتيجة شم واستنشاق الروائح : من المعروف طبياً أيضاً أن الحساسية ليست مرضاً في حد ذاتها ـ كما يعتقد الكثيرون ـ ولكنها أسلوب دفاعي للجسم ضد الأجسام الغريبة التي تقتحم أنسجة الجسم المختلفة وتؤدي إلى حدوث مجموعة من «الأعراض المرضية».. وقد يكون الاقتحام أو الهجوم عن طريق الأغشية المخاطية للأنف أو عن طريق الأغشية المخاطية المبطنة للشعب الهوائية ، ففي الوقت الذي نحن جميعاً نتعرض للأتربة والدخان ولا يحدث لنا شيء والحمدلله، إلا أن بعض الأشخاص عند تعرضهم للأتربة أو الدخان أو روائح بعض الأعشاب والنباتات في الربيع يصابون بـ «حساسية الأنف» ، وآخرون يصابون بضيق شديد في التنفس وهو ما نطلق عليه «حساسية الصدر» أو الربو الشعبي.
رابعاً : تأثير الروائح على الإنسان في اليقضة وأثناء النوم :
تحتوي بعض العطور على مواد كيميائية سامة وضارة ومشتقات بترولية وهذه الانواع الرديئة قد تسبب للإنسان أمراضاً مثل : ضيق التنفس ،الصداع ، والحساسية ،الطفح الجلدي ، الأكزيما ، ضعف التركيز ، الغثيان ، التهاب الجيوب الأنفية ، كما قد تؤثر على الكبد والكلى، أو تتلف أنسجة الرئتين وتؤثر على الدماغ.
وهناك دراسات تقول على أن للعطور أثناء النوم تأثيرا على الأحلام إما بالسلب أو الإيجاب. فإذا كانت الرائحة سيئة يزداد احتمال رؤية الكوابيس ، لذلك ينصح الأطباء بأن تكون الغرفة ذات تهوية جيدة أثناء فترات النوم. وأن تتوفر أيضا على روائح تساعد على رؤية أحلام سعيدة، مثل عطر البرتقال.
المصادر :
- الجوزية ، شمس الدين محمد بن أبي كر إبن قيم : الطب النبوي ، مكتبة الشرق الجديد – بغداد 1957 ، ص 117 .
- جاء في لسان العرب المحيط لابن منظور ( ج 3 ص 692 ) : (( والنسم = جمع نسمة وهو النفس والربو )) ويقول (( النسمة ههنا – يقصد الحديث – الربو )) .
- الحاج قاسم ، محمود : الطب الوقائي النبوي ، دار النفائس 2001 – بيروت ، ص 42 .
- الحاج قاسم ( المصدر نفسه ) ص 33 .
- البغدادي ، عبد اللطيف : مقالتان في الحواس ، تحقيق د. بول غلينجي ود. سعيد عبدة ، سلسلة التراث العربي – الكويت ، 1972 ، ص 80-81 .
- االبغدادي ( لمصدر نفسه ) حاشية ص 81 .
- البغدادي ( المصدر نفسه ) ص 82- 83 .
- ابن سينا : الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن علي : القانون في الطب ( طبعة بالأوفسيت – مكتبة المثنى / بغداد ) ، ج2 ص 161
- الحاج قاسم ، محمود : الطب عند العرب تاريخ ومساهمات ، الدار السعودية للنشر والتوزيع – جدة ، الطبعة الأولى 1987 ، ص 213
- الرازي ، أبو بكر محمد بن زكريا : المنصوري في الطب ، تحقيق د.حازم البكري الصديقي ، معهد المخطوطا ت العربية – الكويت 1987 ، ص 225
901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع