د.ضرغام الدباغ
عبد الرحمن الداخل - صقر قريش
المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 185
التاريخ : 2019
عبد الرحمن الداخل
ــ مقدمة
حين بدا أن الملك ماض لبني العباس، بعد قضاءهم على عهد بني أمية، كان العباسيون وأنصارهم يطاردون بقايا الأميون في كل مكان ويقتلوهم حيثما يجدوهم، لكن أميراً واحداً من أمراء بني أمية كان المرض قد أقعده عن الركوب والقتال، معتكفاً في قرية على الفرات، متخفياً عن الأنظار، أفلت فيما بعد من أيدي مطارديه، والتجأ إلى شمال أفريقيا ولهم فيها أقارب وأصحاب، ومكث سنين خمسة يتجول ويتنقل محاذراً عيون بين العباس، حتى وصل إلى بلاد الأندلس وتمكن بشجاعته ودهاؤه من تأسيس دولة عربية أموية .
وفي بغداد كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي القوي من أعلام العباسيين والخليفة العباسي الثاني، استقرت دولة بني العباس في عهده، وكان ديوانه مجلس حكم وإدارة وأدب، سئل يوماً الحاضرين " أتعلمون من هو صقر قريش ؟ ".
فأجاب الحاضرون " أنت يا أمير المؤمنين "، فقال لهم لا بل هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن عبد شمس بن عبد مناف (وهنا يلتقون في الجد السادس بالنسب لآل البيت الهاشميون) بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر سادات قبيلة قريش. هو الرجل الذي مضى لوحده يطوي الحبال والوهاد وعبر البحر بمفرده حتى بلغ الأندلس وتمكن من فتح قرطبة وجعلها عاصمة لملكه وجند الأجناد وأقام ملكاً بحسن تدبيره وشدة بأسه ".
وبسب فعله هذا لقب بعبد الرحمن الداخل " صقر قريش" الذي ثبت ملك بني أمية في الأندلس فهى البلاد التى كان الجيش الإسلامي بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير قد فتحها، زمن الأمويين منذ سنة 92هـ/711م, وقد اعلن عبدالرحمن بن معاوية نفسه اميراً على الأندلس عندما فتح قرطبة عاصمة ولاية الأندلس سنة 141هـ/ 759مـ وكان عبدالرحمن الداخل قد تمكن من الهرب إلى اخواله في المغرب وعمره تسع عشر سنة، بعد خمس سنوات من التجول والتخفى عن عيون العباسيين الذين تمكنوا من القضاء على الدولة الأموية في المشرق.
كنا منذ طفولتنا قد أحببنا عبد الرحمن الداخل لأنه بطل لم يستسلم للهزيمة، فأقام خلافة عربية إسلامية في الأندلس، بطل مثله تشغف به العقول والقلوب معاً، بطولة فذة خلدها المؤرخون العرب وكتبوا عنها الكثير. ثم أن صديقي الرائع المرحوم كاظم جواد كان شغوفاً بصقر قريش، كان يحلو له أن يتحدث عن عبد الرحمن الداخل، ومن تلك كتب قصيدته الرائعة. كتب الشاعر العراقي كاظم جواد عن مأساة وبطولة عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" قصيدة بعنوان " بكت نخلات الفرات ".
يحكى أن عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" يتحدث في بلاطه بقرطبة بالاندلس :
" أنه كان وأخيه في قرية على الفرات، وجاؤا يخبرونه بقدوم جند العباسيين، فلم يكن أمامهما من مهرب إلا الفرات، فألقينا بأنفسنا في الماء نريد الشاطئ الآخر للأمان، ولما صرنا منتصف الشط، نادى علينا الجند بالأمان، وكان أخي الوليد صغيراً، وقد تعب من السباحة، فسمع الأمان، ورأيتهم يذبحونه أمامي وهو أبن ثلاثة عشر عاماً، أما أنا فلم أكن أدري إن كنت سائراً أم طائراً حتى وجدت نفسي ملكاً في الأندلس ..".
وفي هذه الصورة التراجيدية، يضع الشاعر العراقي كاظم جواد بصمته، وعن مأساة عبد الرحمن الداخل .... ينشد ...
بكت نخلات الفرات ...
وأطلقت الريح في الأفق آه ...
كيف تركت أخاك وحيداً تلاحقه
حشرجات المياه ..
أكانت حراماً عليه
عناقيد غرناطة
وأناشيد الحياة
ــ تأسيس دولة الأمويين في الأندلس
بعد نجاته من العباسيين مضى عبد الرحمن إلى شمال أفريقيا، وله فيها أخواله من البربر، ومضى يتنقل خمس سنوات متخفياً عن حاكم شمال أفريقيا عبد الرحمن بن حبيب الفهري، الذ أستغل سقوط الدولة الأموية فأعلن نفسه حاكماً على شمال أفريقيا، وكان بربر بني نفزة (أخواله) يحمونه ويقدمون له الدعم. ثم أرسل عبد الرحمن أحد مواليه إلى الأندلس ليفاتح بعض الموالين للأمويين هناك بشأن استعادة الملك، وبسبب خلافات الولاة هناك، توصل عبد الرحمن في الحصول على تأييد ودعم العديد من الولاة المحليين، فعزموا على تأييد دعوته ونصرته، وأستقل مركباً عبر به البحر إلى الأندلس فوصل إلى ميناء المنكب في ربيع الثاني 138 هـ . وكان قد بلغ الخامسة والعشرين من العمر.
ــ دخوله الأندلس
بلغ عبد الرحمن إحدى المدن القريبة من الساحل، ونال تأييد السكان فيها، وتجمع له جيش من 3 آلاف رجل، وبعد معركة قصيرة أنتصر فيها على جيش الفهري، دخل مدينة قرطبة وصلى في مسجدها، وبايعه الناس على السمع والطاعة.
ــ ترسيخ الحكم
واجه عبد الرحمن العديد من المنافسين من امراء الفهري، ونازعوه السيطرة على الأندلس، ولكن بعد عدة معارك تمكن عبد الرحمن بفضل حكمته وذكاؤه من السيطرة على الموقف وإبعاد منافسيه.
ومنذ أن تولى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ/ 755 م وتنتهي سنة 316 هـ/ 928 م وسميت "إمارة" لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.
وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة، (من سنة 138هـ / 755 م وحتى سنة 172 هـ / 788 م) كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، كان يتمكن من إنهاؤها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، وتعتبر فترة حكمه من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.
صفاته وشخصيته
كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، فتمكن بحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر، التي استخدم فيها كل الوسائل المتاحة لإقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، مكرسًا بذلك مفهوم الميكافيلية بكل معانيه فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في ذاك الوقت، إلى الخضوع والانقياد للسلطة الحاكمة في قرطبة إلا أنه رغم تلك الطباع القاسية، كان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه كما كان لين الجانب مع النصارى، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسًا يسمى "القُمص"، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور
منجزاته
كرر عبد الرحمن الداخل في الحكم الأموي بالأندلس تجربة الحكم في عاصمة الأمويين / الشام، وأتخذ ما أطلق عليه بالحاجب وهو ما يقوم مقام الوزير، وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين، وأهتم بالجيش اهتماماً ينبع من تنبؤ للمهام المستقبلية، حتى بلغ تعداده نحو 100 ألف من المتطوعين، بالإضافة إلى نحو 40 ألف من الحراس في بلاطه والخدم والحاشية والعاملين، كما قام بإنشاء عدد من الموانئ الجديدة وأقام فيها مراسي لبناء السفن: طركونة، وطرطوشة، وأشبيلية وقرطاجنة. وأقام مصانع للأسلحة من السيوف والرماح والمنجنيق، في برديل وطليطلة.
وبدراية في الاقتصاد، إنشاؤه دار لسك العملة وفي الأندلس، أقام ميزانية الدولة في ثلاثة أقسام: قسم ينفق على الجيش، وقسم على أمور الدولة، بما فذ ذلك التعمير والإنشاء، ومن ذلك أبدى اهتماماً خاصاً بإقامة الحصون والقلاع، والجسور. والقسم الثالث للتوفير كأحتياطي الدولة.
حصن المدور يقع قرب قرطبة شييده صقر قريش
الفكر السياسي والعسكري لصقر قريش
الذكاء الفطري، وتجارب السياسة والحكم مكنت عبد الرحمن الداخل من استنباط أحكام سياسية حكيمة وبعيدة النظر. فبرغم أن العباسيون كانوا يحاولون السيطرة على الأندلس وإنهاء فرع الخلافة الأموية هناك، إلا أن ذلك لم يدفع الداخل إلى تغير أولويات أعداؤه، فأعتبر أن الخطر الأول على الدولة هو من الأعداء التقليديين في الشمال (ملوك الدول الفرنسية). وأكثر من ذلك فقد أ‘تبر أن الخليفة العباسي في بغداد هو خليفة المسلمين الأكبر والشرعي، ويأمر بالدعاء له من على منابر المساجد، ولم يخلو ذلك من رفض بعض أموي الأندلس من هذه الطاعة، إلا أن عبد الرحمن الداخل أصر عليها.
وأمتاز فكره العسكري بالدهاء والذكاء قبل القوة، فعهده الذي تميز بكثرة الصراعات والنزاعات والحروب مع قوى خارجية وداخلية انتهت بسيطرته المطلقة على الأندلس، وكان يعتمد في استراتيجيته العسكرية على مبادئ هي من مبادئ الحرب العربية الإسلامية تراكمت في الفكر العسكري العربي الإسلامي، ومن أهمها :
ــ المباغتة والحرص على المبادرة.
ــ التخطيط، وذلك بالإعداد للحرب وجمع المعلومات عن قوات العدو.
ــ المبادرة، مثلت الفكرة الأساسية في مبدأه العسكري، فكان يبادر للهجوم قبل أن يتم العدو استعداده للقتال، وبذلك أيضاً يفرض توقيت المعركة ومكانها.
ــ مواجهة الخطر وقت حدوثه، وكانت له فكرة في مواجهة أعمال التمرد في إحاطتها فور حدوثها وعدم ترك الفرص للتفاعل وتتطور وتكتسب عناصر جديدة، أي مواجهة الحدث في بدايته.
ــ المباغتة، أعتمد عبد الرحمن الداخل فكرة المباغتة، والمباغتة كمبدأ مهم من مبادئ الحرب، وتعني مهاجمة العدو في وقت لا يعرفه وفي جبهة لا يتوقعها.
ــ المخادعة، كما كان يلجأ لمبدأ المخادعة وإيهام العدو عكس من يخطط، وفي ذلك يحمل العدو على الاسترخاء بدلاً من الاستعداد وتعبئة قواه.
ــ الحفاظ على الروح المعنوية، وتلك مسألة مهمة، أن يكون القتال عادلاً ومن اجل أهداف عادلة مقنعة، لكي يبذل المقاتل أفضل ما عنده، وتتماسك القوات.
ــ مبدأ الاقتصاد بالقوة وإقامة التوازن بين مراحل الحرب بما يبقي القوات في جاهزية دائمة، والاقتصاد بالقوى بعني أيضاً التوازن بين القوى في الأفراد والعتاد والمعدات في مجريات المعركة، وأن يكون القادة الميدانيون على بينة في التعامل مع أهدافهم بحسب أولويات الخطورة والمستحقات بناء على تقدير سليم للموقف العام، القائم على تقدير دقيق لقواته وقوات العدو.
وفاته
توفي عبد الرحمن الداخل في 24 ربيع الآخر عام 172 هـ (عاش تسعة وخمسون عاماً) منها تسعة عشر سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، و34 عامًا في الملك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة وبها دفن في جمادى الأولى سنة 172 هـ / أكتوبر 788م وترك من الولد أحد عشر ولدا منهم سليمان وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد الله وكليب، ومن البنات تسع. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، رغم أن أخاه سليمان كان أسن منه.
(تمثال عبد الرحمن الداخل في قرطبة)
809 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع