من ذكريات عالم البراءة والطفولة ورقة و أوراق تأبى المغادرة أو يطويها النسيان وفي محاولة لإزالة الغبار عن تلك الاورق بعدما غادرنـَا ذلك العالم والزمان دون عودة بل ودون وداع أذكر ُ:ـ
أني كنتُ كأقراني مولعاً بلعب كرة القدم في الساحات والملاعب حيث بدأ هذا الحب منذ الصغر فقد شاءت الأقدار أن يتم بناء ملعب كبير لكرة القدم على حدود منطقة الرحمانية في الكرخ حيث بستان حميد دراغ رحمه الله بواسع رحمته وهو ملعب نادي الزوراء الرياضي .
بدأنا ونحن أطفال صغار بمتابعة خطوات البناء وعلامات الدهشة والانبهار ترتسم على وجوهنا البريئة إذ كيف يتم بناء المدرجات والقاعات والسلالم وغيرها ؟ كانت أوقات ًجميلة تلك التي نقضيها بعد العودة من مدرسة اليقين الابتدائية الواقعة أمام ( مكينة عيسى ) مطحنة عيسى المعروفة ( ليعذرني أخوتي الكبار من أهل الكرخ الكرام أن أخطئت بوصف المكان ) أمامها يقع سوق الرحمانية وهناك محل أمين الحلاق وبجواره فرن ومخبز وغيرها من محلات نقطع السوق لنذهب إلى مقبرة الشيخ معروف الكرخي لنزور القبور مع أمهاتنا دون أن نفقه حقيقة الأمر لماذا كانت أمهاتنا يتمتعن بزيارة القبور ويخصصن يوم الخميس الذي عادة ما يكون يوماً للهو والمرح أو للتنزه عند بقية خلق الله لماذا عند العراقيات هو يوم البكاء والنواح على فراق الأحبة وكنا نتجول بين القبور والبخور والشموع والكعك بأيدينا نفرقها على الآخرين ونتلقى كذلك مثلها لنعود نقفز فوق هذا القبر وذاك والكبار ينهروننا قف لا تقفز لا تلعب .. هنا قبر .. ونسمع من بعيد صوت الملا يقرأ سورة يس وغيرها من آيات كريمات من كتاب الله العزيز والنسوة يجهشن بالبكاء على من فقدنا من الآباء والأمهات والراحلون الكبار وبعض الصغار يوم كانت للأموات حرمة واحترام ومعزة فليس كل يوم يموت عزيز في العائلة إلا ما شاء الله لذا كانت المنطقة كلها تسير خلف الجنازة ويتم غلق المحلات ويقف الجميع احتراما للجنازة ثم يشتركون بحملها والسير خلفها حتى مثواها الأخير.
مع افتتاح ملعب الزوراء الرياضي بدأت أتابع مباريات كرة القدم التي تجري على ساحته واحضر أيضا تدريب الفرق المشهورة مثل فريق البريد والفرقة الثالثة وآليات النجدة وغيرها وأقف خلف المرمى أجلب ُ الكرات لهؤلاء اللاعبين وذات يوم تلقيت ُ كرة ً قوية ً جداً احتضنتها فإذا بها تطرحني أرضاً من قوتها وجاء اللاعب ليساعدني ويحاول أن يوقفني على قدمي مرة أخرى.
ثم كان هناك فريق الملاكمة وهو من الفرق المتميزة أيضاً وحين أعود للبيت كنت أرى جموع من أبناء المحلة يتابعون بشغف كبير من شاشة التلفزيون الذي كنا نملكه مباراة للمصارعة الحرة بين العراقي المغترب عدنان القيسي وأبطال اللعبة من دول العالم ، وقد كان الشعب العراقي بغالبيته يتابع هذه المباريات وروح الحماسة والوطنية تبلغ أوجها ونحن نرى بطلنا العراقي يقهر كل الأبطال الذين ينازلهم وكان يـُستقبل استقبال الرؤساء في المدن التي يتجول
بها خصوصاً أن هذه المباريات جاءت بفترة مهمة من تاريخ العراق والنظام السياسي الموجود حينها ويبدو بعد هذه السنين إن هذه اللعبة قد حققت ما كان يراد منها ..........
وتمضي السنون لنغادر الكرخ إلى منطقة أخرى بدأت تكبر وتتشكل من العمال وطبقات اجتماعية متنوعة جاءوها من مناطق مختلفة وتشكلت على أثر ذلك صداقات وعلاقات جديدة ومنها صداقتي مع لاعب ماهر جداً كان أسمه قاسم قدم أهله على أذكر من الكوت وبدأنا نتدرب سوية على لعب الكرة وتعلم فنونها وكنا نلتقي عصر كل يوم في ساحة ترابية ونلعب مع مجموعة من الأصدقاء ونتبارى مع الفرق الأخرى حتى كان يوم تأخر فيه قاسم من الالتحاق
بنا في الملعب فذهبت إلى بيتهم وإذا بي أرى جموع من الرجال والنساء يتجمهرون قرب دارهم والعويل والصراخ ينطلق من بين الجدران ليشق عنان السماء ماذا حصل ؟؟؟ ماذا هناك ؟؟؟؟
أستـُشهد َ كريم أخو قاسم صديقي وكان من أوائل الشهداء في عام 1980 وكنا لا نعرف ماذا يعني أن يختفي أخ من حياتنا وعائلتنا ومحلتنا وللأبد ، دخلت البيت لأجد قاسم وهو يبكي محتضناً أبيه المريض ولا أريد أن أكتب عن حال أمه وبقية أخوته فكل عراقي يعرف كيف تتصرف نسوة العراق في مثل هكذا فاجعة ٌكبرى.
وما أن رآني قاسم حتى دنى مني والدموع تملاًُ عينيه قال أنظر كنت قد هيئت ملابس الرياضية لكي نلعب الكرة ولكن يا صديقي لن يكون هناك لعب بعد اليوم فقد أنهار عالمنا وانتهت أحلامنا واحتضنته وبكينا بكاء شباب وأجيال قد غادرها الشباب وتحطمت كل أمانيها واغتيلت كل أيامها ولياليها فلن يكون هناك بعد اليوم براءة أو طفولة أو ذكريات حلوة لن يكون هناك صباح ٌ تتفتح ُ فيه الوردُ و الأزهار إنما هناك صباحا مليئاً بالحزن والمأساة...
صباح ٌ تتطلع العيون نحو الأبواب متى تدق ُ لتفتح فتجد جنازة الأبناء ملفوفة بالإعلام.
ولتغيب ساحات اللعب ويختفي اللاعبون الشباب وتستبدل كرة القدم بالجماجم والأجساد ... سار النعش وخلفه أهل المنطقة شيباً وشباب رجالاً ونساء يتبعهن الأطفال ووجوههم خائفة وصراخهم قد ضاع بين الصراخ وهم لا يدركون ماذا يحصل، ومشينا خطوات وخطوات تتبعها خطوات نتسابق على حمل الجثمان والناس بين مصدقٍٍ ٍ وبين مصدوماً وبين ملتاعٍ تذكرَ أن
أخيه وأبنه حبيبه هناك على الجبهات ترى ماذا سيكون مصيره والحرب بدأت تهلك الحرث والنسل وتقتل ُ كل الأبرار.
النسوة يبكين بحرقة والتوجس والهلع مرتسم ٌ فوق جباههن التي غطها التراب وسخام التنورقد نثرنه على رؤوسهن ووجوههن بدل الحنة و المكياج ، ولتطلق أحداهن هلهولة للشهيد العريس على وقع أنغام موسيقى كنت قد منت نفسها أن تسمعها يوم الزفاف وبدل أن تفرش سريره بغطاءٍ أعدته مذ كان طفلاً يلعب بالتراب تضعه اليوم فوق نعشه وقد أمسى محملاً على الأكتاف ليوارى التراب.
حـُمل النعش ُ إلى النجف ومقبرة وادي السلام ليرقد الشهيد ويـُعبد الأرض ويـُحفرُ القبرُ لمئات الآلاف ِ من الشباب ِ في ارضٍ لم تزرع بالنخيل ِ والرمان بل امتلأت بزهرة ِ الأعمار ِ والأهل والأحباب في مقابر الكرخ والكيلاني وكل بقعة فراغ في القرى والقصبات ومدن اتشحت بالسواد في بلاد ٍ عـُرفت بأرض ِ السواد .
قتلوا وقد خلفوا وراءهم عائلات وأطفال صغار وأرامل ٍ ترملن وهن بعدهن صغار وفي عز الشباب تعاني الواحدة منهن الوحدة وفقد الحبيب الذي كان . بل بعضهن لم تعرفه جيداً فلم تراه إلا سبعة أيام تكرمت بها قيادته الرشيدة لينعم بأخر الأمنيات زوجة... ليتركها والدمع على خدها والخوف يتربص بين الإضلاع.
لن أتكلم عن حقوق الشهيد المادية وما خلفته من مشاكل لا حصر لها بين العائلات وما سببته من تصدعٍ بين الأهل والزوجات وما لاحق ذلك من ضياع ٍ لكثير من الحقوق الشرعية والإنسانية.
ومع تقادم الأيام والسنين بدأت تتبدل الأحوال فأمست عائلة الشهيد ( وعذراً أقولها وألف عذراً للشهداء وعائلاتهم الكريمة ) أمست تستجدي بالشوارع والطرقات والأقرباء بعدما تخلت الدولة عن واجباتها تجاههم فقد أدوا الأدوار وانتهت المسرحية ويعلو صوت المذياع( هذا أنا أمك گالت للكاع وأنت وليدي عريس وربعه يزفونه وعرسك عيدي ) فأي عيد يمر على أم قد فقدت أجمل وأرق الأبناء ... وأي عيد يمر على الأرامل وهن لا يعرفن لماذا قتل الأزواج ...وأي عيد يمر على الأيتام وهم لم يطلقوا كلمة بابا إلا على صورة معلقة على الجداروأي عيد يمر على أخت قد كـُسرَ منها الضلع ُ يوم َفقدت السند َ وحزام الظهر ورفعة الرأس.
بعد هذا السنين عرفت لماذا تبكي أمهاتنا .. أخواتنا .. طوال الوقت ويعشقنا المقابر بدل الحدائق والمتنزهات فمن فقدت ولدها .. أخيها.. زوجها.. حياتها.. لن تعرف الفرح المطلق فكل شيءٍ يذُكرها بأيام ٍ لن تعود
ولن يرجع الأحباب ...
نعم لقد ارتفع الجدار بين عالمين وأمسى فاصلاً بينهما فلن تعود أيام الطفولة والشباب والبراءة والصدق والأمن والأمان لأن عالم القتل والوحشية والدمار قد فتحت له الأبواب وباتت القبور تـُحفر ُ في البيوت والطرقات وأمسينا نسمع مجهول الهوية لا يجد من يستلم جثمانه ليدفنه وليعرف أهله مكانه ليزوره ويشعل ُ البخور..
هكذا أصبح العراقي الحر الأصيل جثة مجهولة الهوية والمصير.
أما نحن من امتلأ رأسه شيباً وحفرت بوجهه الأخاديد وأحدب الظهر وانحنى العود والجسم مـُنهك ٌنحيل فما لنا إلا الذكريات والدمع والنحيب، خصوصاً لمن لم يعد يرى وطناً ولا أهلاً ولا قبراً لحبيب ..... والسؤال يدور في وجداننا هل نموت غرباء...
ولن يكون لنا قبرٌ يـــُزار ُ ويغسل ُ بماء الورد ودعاء ُ من أفواه الأمهات.. الزوجات.. الأخوات .. في يوم خميس ٍ ... أو صباح ُعيد ٍ.. أو صلوات.. فهو قبر ٌ بلا علامات... بل كل ما يقال خطيه هنا مات عراقي ُغريب بين الغرباء...
وللحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى.
829 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع