الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
طبيب أطفال
باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
التراث والحداثة في كتاباتي عن طب الأطفال -القسم الأول
فوائد الكتابات العلمية والطبية التراثية وتحقيق النصوص العلمية
ويمكن حصر ذلك فيما يلي :
1- الفائدة المعنوية والنفسية :من الأمور المتفق عليها أن نهضة أية أمة تتجلى – في ما تتجلى فيه من مظاهر – في عنايتها بتراثها ، وحرصها على جمعه ، وإحيائه ، ونشره ، فهو شاهد ناطق على ما حققته عبر العصور من ازدهار وتقدم ، وهو الرباط الثقافي الذي يصل حاضرها بماضيها ، وهو مرآة الأمة التي تعكس مظاهر وجودها ، وحضارتها ، وتطورها منذ نشأتها المغرقة في القدم حتى العصر الحاضر )) .
وقد أدركت أمم كثيرة أن تراثها هو عنوان أصالتها ودليل مجدها وواجهة تاريخها وبه يستطيع الخلف أن يقتفي آثار السلف ، وإن بعث الثقافة العلمية من أهم العوامل التي ترتكز عليها النهضات وإن الأمة التي تبغي مجداً عليها الاهتمام بماضيها وربطه بحاضرها وتعريف الأجيال الجديدة بجهود أسلافهم ومآثرهم في ميادين العلوم وما كان لها من أثر في تقدم الحضارة .
وأعجب العجب أن بعضاً منّا يجحد كل ميراث الماضي ففينا متأثرون بمفهوم خاطئ للعصرية ، ويشكك أو يتنكر الكثير من الأطباء والعلماء وبعض المفكرين المعاصرين في أهمية البحث والتنقيب في بطون المخطوطات وكشف محتوياتها معللين ذلك بأن العلم قد تجاوزها .
يعلل الدكتور توفيق الطويل ذلك فيقول : (( أما تنكر العرب للتراث العربي فمرده إلى أسباب ينفردون بها . منها شعور الجيل المعاصر بالضيق للتدهور الذي أصاب العرب في الآونة الأخيرة من تاريخهم ، فداخله الشعور بمقت التفاخر بمجد الآباء والأجداد ، ومنها افتتان الكثيرين منّا بالمدنية الغربية مع جهل بماضي تراثهم ، أو مجرد إلمام بقشوره ، ومنها أن ما نشر من هذا التراث لا يزال بكراً لم تتناوله دراسات علمية مفصلة )) .
ونحن نضيف القول أن في هذا الكثير من التنكر للأصالة ومجافاة التراث حيث أن استقراء الماضي يشكل الركيزة القومية والوطنية والنفسية لانطلاقة معاصرة ، وهكذا فعلت الأمم والحضارات السابقة والمعاصرة .فنرى الآن أمريكا وروسيا وأوربا ترجع إلى دراسة واستقصاء التراث العلمي منه وغير العلمي وتتفاخر بمآثر تراثية وبما هو ليس بعمق تراثنا ومستواه الذي يحاول أن يتنكر له البعض منّا .
2 - الفائدة التوثيقية والحفاظ على الكتب :
يتوخى القائمون على تحقيق النصوص العلمية ( الطبية منها وغير الطبية ) التوثيق الدقيق للمعلومات والاكتشافات التي قام بها العلماء أو الأطباء العرب والمسلمون ونقلها بأمانة إلى هذا الجيل والأجيال القادمة حتى إذا وجدوا فيها ما لا يمكن تصديقه أو فهمه من المعلومات . وفي مثل هذه الحالات المطلوب من المحقق ليس الرفض والاستنكار ، ولكن عليه أن يفهم ما يستطيع فهمه وليدع ما دون ذلك للعلم والعلماء في المستقبل أن يكتشفوا الحقيقة بالتجربة والبرهان لا بالحكم الشخصي .
والإسراع في تحقيق وطبع النص العلمي المخطوط ( الوحيد ) مسألة ملحة لأنه لو ضاع المخطوط القديم أو أصيب بالبلى أو التلف لا نجد نسخاً أخرى منه وأمام هذا الوضع لا يمكن ضمان سلامة الكتاب إلاّ بتحقيقه ونشره .
3 - الـفـائـدة التـاريخـية :
الماضي وحده هو الذي يسمح لنا أن نرى الاختلافات والتطورات النامية لخلايا العلم لأن هناك امتداداً ونماء للماضي في الحاضر من دون انقطاع وبما أن هذه الكتب تعكس المفهوم العام للعلوم في تلك المرحلة التاريخية في البلاد العربية ( بل في العالم أجمع ) لذا فإن معرفة ما تحويه عظيمة الفائدة بالنسبة لتاريخ العلوم خاصة إذا علمنا أن ما حوته تلك الكتب من العلوم والمعارف بقيت سائدة في أوربا على مدى قرون عديدة والتطور الذي نجده اليوم في العلوم لم يحصل إلاّ في القرون الثلاثة الأخيرة .
وكما يقول الدكتور محمد عمارة : (( إن عملية التحقيق والنشر للمعالم الرئيسية للتراث العربي الإسلامي تتيح للذين يتتبعون حركة الفكر الإنساني أن يضعوا أيديهم على الحلقة التي وصل بها العرب تراث اليونان بنهضة أوربا في عصرها الحديث ، فطوال ما يزيد على ستة قرون كانت الحضارة العربية الإسلامية هي المنارة الوحيدة الهادية في محيط هذا الكوكب ، ولولاها لما وصلت هذه الشعلة المضيئة إلى أوربا . لقد أخذ اليونان عن قدماء المصريين وبلاد ما بين النهرين وأخذ العرب عن اليونان وغيرهم من الفرس والهنود ثم أخذت أوربا من العرب ، ثم أخذنا نحن من الأوربيين …. )) .
لذا (( فإن إحياء التراث العربي – وتحقيق المخطوط العلمي جزء منه – والوعي به يؤكدان حقيقة ذلك القانون قانون التأثير والتأثر والتفاعل بين الحضارات والثقافات )) .
4 - الـفائـدة العلمية والطبيـة :
(( إن العلم جهد موصول يحمله الخلف عن السلف . كل جيل ينظر في ما ورثه عن الأجيال السابقة فيستحسن منه ما هو حسن مفيد ، ويوضح ما هو غامض ، ويفسر ما هو في حاجة إلى تفسير ، ويأخذ بما هو صالح ، وبذلك يزكو العلم وتتسع آفاقه وتتحسن مناهجه ، ويتاح لرجاله من تعدد المصادر وتنوع الموارد ما يمدهم بوسائل الإنماء والتهذيب والإضافة والحذف في اتجاه تطور العلوم وتقدمها وفقاً لما يتطلبه كل عضو ولما يتطلع إليه أبناؤه .
ومن هنا كانت كتب التراث ذات أهمية كبيرة في ربط ملفات الأجيال المتعاقبة ووصل أسباب التقارب العلمي والتفاهم الفكري بين أبناء البشرية جمعاء )) .
هذا عن العلوم بشكل عام أما بالنسبة للفائدة الطبية فنحن نقول:
إن القراءة المتأنية المنصفة للنصوص الطبية المحققة تبين أنها تحوي بعض النماذج من الأدوية النافعة في علاج العلل التي وصفت من أجلها . كما أن الواقع العلمي شاهد على أنه بين الحين والحين نسمع باكتشاف فائدة بعض أساليب المعالجة أو الأدوية التي استعملها الأطباء العرب والمسلمون ونحن بأحيائنا لهذا التراث الطبي نحفز الباحثين للقيام بإجراء تجاربهم حول العلاجات التي استعملوها وإثبات فاعلية بعض منها علمياً في معالجة بعض الأمراض التي مازلنا عاجزين عن معالجتها .
أما إذا وجدنا أحيانا في بعض هذه النصوص أموراً غريبة في العلاج لا يقرها العقل والعلم فإن ذلك لا يعد سبباً إلى رفض كل ما في هذه الكتب ، بل أن في نشرها وإخراجها إلى النور من جديد واستقراءها علمياً ومنهجياً خدمة للعلم وفائدة في المباحث الطبية .
--------------
١-النص ، الدكتور . محمد إحسان : وجهة نظر ( تحقيق التراث ونشره ) – مجلة معهد المخطوطات العربية – المجلد السادس والعشرون الجزء الثاني ، 1982 ص 826 .
٢-الطويل ، الدكتور توفيق : في تراثنا العربي الإسلامي – سلسلة عالم المعرفة(17) – الكويت ، 1985 ص63.
٣- عمارة ، الدكتور محمد : نظرة جديدة إلى التراث – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1974 ص 63 .
٤- الخطابي ، محمد العربي : فهارس الخزانة العامة – الرباط 1982 – المقدمة .
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع