د. زكي الجابر
أَيَّةُ أدوارٍ للاتّصالِ الوَسائِطيِّ في التربيةِ على حقوقِ الإنسان؟
إعداد: د. حياة جاسم محمد
القسم الأول
تَنطلِقُ أهميَّةُ مُقارَبَةِ دَورِ الاتّصالِ الوسائِطيِّ في التربيةِ على حقوقِ الإنسانِ من الأهميَّةِ التي تمثِّلُها المادةُ 19 من الإعلانِ العالَميِّ لِحقوقِ الإنسانِ (كانون الأول 1948)، إِذْ بِنَصِّها على أَنَّ لِكلِّ شخصٍ حَقُّ التَمتُّعِ بِحُريّةِ الرأيِ والتعبيرِ تكونُ قد حدَّدتِ المُبرِّرَ الأساسيَّ لِوُجودِ وَسائطِ الاتّصالِ، كما وَضعتِ العلامةَ الكُبرَى على طريقِ ممارسةِ المِهنةِ الإعلاميّة. وإذا لم نَكنْ على خَطأٍ فإنَّ المُبرِّرَ الأَساسَ لِوجودِ هذه الوسائطِ هو كَونُها المَجالَ لِحريّة ِالرأيِ والتعبيرِ لِكُلِّ شخصٍ، وأنّها، انطلاقاً من مبدأِ الحريّةِ، مُلزَمةٌ بأن تُهيِّئَ وتُيَسِّرَ الوصولَ لهذا المَجالِ دُونَ اعتبارٍ للحدود. تقولُ تلك المادة: ’’لِكُلِّ شخصٍ حقُّ التمتُّعِ بحُريَّةِ الرَأيِ والتعبيرِ، ويَشمِلُ هذا الحَقُّ حُريَّتَه في اعتِناقِ الآراءِ دونَ مُضايَقةٍ وفي التِماسِ الأنباءِ والأفكارِ وتَلَقِّيها ونَقلِها إلى الآخَرينَ بأيّةِ وسيلةٍ ودُونَما اعتبارٍ للحدود‘‘.
وفي المَواثيقِ الدُوَليَّةِ لِحقوقِ الإنسانِ أكثرُ من نَصٍّ يؤكّدُ هذا الحقَّ وما يَتبعُه من التزامٍ، ومن الأمثلةِ على ذلكَ ما أوردَتْه المادة 19 من العَهدِ الدُوليِّ الخاصِّ بالحقوقِ المدنيّةِ والسياسيَّةِ (كانون الأول 1966)، وما جاءتْ به الفقرةُ 5 من إعلانِ طهران الذي أصدَرَهُ المؤتمرُ الدُوليُّ لحقوقِ الإنسانِ في طهران (أيار 1968) والفقرةُ 8 من المادّةِ 5 من الاتفاقيّةِ الدُوليّةِ للقضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ العنصريِّ (كانون الأول 1965).
وفي عامِ 1969 طرح جان دارسي (Jean D’Arcy)(1) مُصطلحَ ’’حقِّ الاتصالِ‘‘ بديلاً عن ’’الحقِّ في حريّةِ التعبيرِ والرأيِ‘‘، وقال إنَّ الإعلانَ العالميَّ لِحقوقِ الإنسانِ سيتضمَّنُ في يومٍ آتٍ حقَّ الإنسانِ في الاتّصالِ، وما حريّةُ الفكرِ وحريّةُ التعبيرِ وحريّةُ الإعلامِ، وأخيراً حريّةُ الاتّصالِ، إلا حلقاتٍ مُتتابِعةً قد تكونُ ناجمةً عن التَطوُّرِ التكنولوجيِّ إلّا أَنّها تجسِّدُ في الوقتِ ذاتِه آلافاً من مُحاولاتٍ للفردِ وللمجتمعِ في السَعيِ إلى اتصالٍ أحسن.
ويُرجِعُ الداعونَ إلى تبنِّي حقِّ الاتصالِ إلى قَرارٍ ذي طابَعٍ شُموليٍّ اتخذتْهُ الجمعيةُ العامّةُ للأممِ المتّحدةِ في عام 1946، أي قَبلَ عامَينِ من اعتمادِها الإِعلانَ العالَميَّ لحقوقِ الإنسان. يقولُ ذلك القرارُ الذي يحملُ رقم 59: ’’حريةُ الإعلامِ حقٌّ إنسانيٌّ أساسيٌّ ومِحَكٌّ لِكلِّ الحريّاتِ التي كرَّستْ لها الأممُ المتحدّة‘‘. وقد حدَّدَ تقريرٌ وضعتْهُ هيئاتٌ رسميّةٌ وغيرُ رسميّةٍ في عامِ 1971 في كندا العناصرَ الأساسيَّةَ لِحَقِّ الاتصالِ في ’’الحَقُّ في أن تَسمعَ وتُسمَعَ وأن تُعلِمَ وتَعلَم‘‘. وذهب القانونيُّ الأرجنتينيُّ آلدو آرماندو كوكا (Aldo Armando Cocca)(2) في تحديدِهِ لِعناصرِ ذلك الحقِّ قائلاً ’’الحقُّ في أن تَرَى، والحقُّ في أن تُرَى، والحقُّ في أن تُعبِّرَ عن نفسِكَ كتابةً أو طِباعةً، والحقُّ في أن تُعَبِّرَ عن نفسِكَ في قالَبٍ فنّيٍّ، والحقُّ في أن تَختار‘‘. وقد عُرِّفَ الحقُّ الأخيرُ بأنّهُ الحقُّ في عَدَمِ الاتّصالِ لأسبابٍ قد تتّصِلُ بالخُصوصيَّةِ أو افتقادِ الوسائلِ المُناسبة.
تحليل الإشكالية
إذا ما كان اَلحقُّ في التَمَتُّعِ بحُريّةِ الرأيِ والتعبيرِ، أو حريّةِ الاتصالِ باعتبارِها مُصطَلحاً أكثرَ قَبولاً، والوصولِ إلى أجهزةِ الاتصالِ يُشكِّلانِ المُبرِّرَ الأساسيَّ لوجودِ وسائطِ الاتّصالِ بِمَعناها ’’الجَماهيريِّ‘‘ فإنّنا لا نستطيعُ إنكارَ ضَبابيَّةِ وجودِ هذا المُبرِّرِ في ما نَقرأُ ونَسمعُ ونُشاهدُ من المُمارساتِ الإعلاميَّة. وقد لا يكونُ مُتَطرِّفاً ذلك الاجتهادُ الذي لم يَعُدْ يرَى في الوضعيّةِ القائمةِ لِوسائطِ الاتّصالِ ذلك المجالَ الفسيحَ للوفاءِ بهذا الحقِّ وذلك الوصولِ.
ولعلَّ من أَهمِّ ما يَسنِدُ هذا الاجتهادَ هو الاعتقادُ بأنَّ هناكَ شِبهَ غِيابٍ للحوارِ في وسائِطِ الاتّصالِ ’’الجماهيريِّ‘‘، الحِوارِ الذي يألَفُه الناسُ في مُحادثاتِهم وجهاً لِوَجه. ومع غيابِ الحِوارِ يَغيبُ الوَعيُ النَقديُّ مِمّا يؤدّي إلى السُخطِ الاجتماعيِّ، كما يقودُ إلى اغترابِ الأفرادِ عن اتخاذِ قراراتِهم. وإذا ما كانَ لِلحوارِ ضرورةُ وجودٍ إنسانيٍّ فإنَّ هذا الوُجودَ لن يتحقَّقَ ويتطوَّرَ إلّا من خلالِ حوارِ الكلمةِ الصادقةِ والفِكرِ المُتبادَل.
لقد سبق لپاولو فرير (Paulo Friere)(3)، المُرَبِّي البرازيلي، أن تَحدَّثَ عن ’’تَعليمِ المَقهورينَ‘‘، ورأَى أنماطاً من هذا التعليمِ تَتَجَسَّدُ في أَنَّ المُعلِّمَ يتحدَّثُ بينما يُصغي الطَلبةُ في خضوعٍ، و المُعلِّمُ هو موضوعُ الفِعلِ التعليميِّ وما الطلبةُ إلا مُجرَّدَ أشياء. إن هذه الصورةَ مُطابِقةٌ لِفِعْلِ الاتّصال، وبالذاتِ الوَسائِطيِّ منه، حيثُ يكونُ الإعلاميُّ هو ’’المُلقِّنُ‘‘ و ’’المُفَكِّرُ‘‘ والجُمهورُ هو ذلك المُتلقِّي السلْبِيُّ الراضِخُ لِرَغباتِ الإعلاميّ.
إن وسائط الاتصال، مهما قيل عن استقلاليَّتِها، فهي في واقع أمرها تعكس آيديولوجيّةَ المُمَوِّلِ المُتَكفِّلِ بالإنفاق. وثَمَّةَ أَربعةُ نماذِجَ يقعُ في إطارِها هذا المُموِّلُ: النموذجُ الرسميُّ الذي تَخضَعُ فيه الأجهزةُ الإِعلاميّةُ للدولة، والنموذجُ التجاريُّ الذي تَعكسُ فيه تلك الأجهزةُ آيديولوجيّةَ المُعلِنِ، ونموذجُ المَصلحةِ الذي تَعكسُ فيه الأجهزةُ آيديولوجيَّةَ التكتُّلِ السياسيِّ أو الحزبيِّ أو المُمَوِّلِ، والنَموذجُ غيرُ الرسميِّ الذي يَعكسُ أهدافَ الأفرادِ الذين يَرغبونَ في الترويجِ لآرائِهم.
وفي المنظومة الآيديولوجيّةِ تتجسَّدُ النظرةُ إلى حقوقِ الإنسانِ كما تتجسَّدُ كَيفيّةُ تَعامُلِ هذه الأجهزةِ مع تعليمِ حقوقِ الإنسانِ، سواءٌ أكان هذا التعليمُ غيرَ نظاميٍّ يشملُ الأنشِطةَ التربويَّةَ المُمَنهَجَةَ والمُنَظَّمَةَ خارجَ نظامِ التعليمِ المدرسيِّ النظاميِّ وبِصورتِها المُستقلَّةِ أو في نطاقِ أَنشِطَةٍ أخرى أم كانَ تعليماً نظاميّاً هَرَمِيّاً عَبْرَ مَراحلَ زمنيةٍ مُتدرِّجَةٍ من الرَوضةِ إلى الجامعة، كما تتجسَّدُ كذلك في تَفاعُلِ تلك الأجهزةِ مع التَعليمِ اللانظاميِّ الذي تَندَرِجُ تحتَ مِظلَّتِهِ الأنماطُ الأخرى من التعليم. ويُمكنُ تعليلُ تأطيرِ الآيديولوجيّةِ للنظرةِ إلى حقوقِ الإنسانِ وتعليمِها بالرجوعِ إلى ما تَعنيه الآيديولوجيّة، فهي، كما يراها ريموند وليامز (Raymond Williams)(4)، نِظامٌ عُرْفِيٌّ إلى حدٍّ ما مُتَّصِلِ الحَلقاتِ مَعانِيَ وقِيَماً ومُعتقداتٍ بحيثُ يغدو مُستَطاعاً إجمالُها بأنها نظرةٌ للعالَمِ أو وجهةُ نَظَرٍ طَبَقيّة. وهي بذلك تتحكَّمُ في إدراكِنا ليسَ للعالَمِ من حولِنا بل لأنفُسِنا ولِكلِّ ما نَراهُ طبيعيّاً وبديهياً. ولقد ذهب گـرامشي (Gramsci)(5) إلى حَدِّ مَنْحِ الآيديولوجيةِ استقلاليَّةً أكبرَ، واعتبَرَها قوَّةً مُوحِّدَةً تتمثَّلُ فيها الإحالَةُ على الوسائِلِ التي من خِلالِها يحافظُ النظامُ على هَيمَنَتِه، وتَخدمُ المؤسَّساتُ الإعلاميّةُ وظيفةَ الهَيمنةِ هذه عن طريقِ الإنتاجِ المُستَمِرِّ لآيديولوجيّةٍ مُتماثِلةٍ تُساعدُ على إعادةِ البناءِ الاجتماعيِّ ومَنحِهِ شرعيَّةَ البقاء.
وإذا سلَّمْنا بذلك يَنفتِحُ المجالُ في إطارِ تَبَنِّي الآيديولوجيّةِ السائِدة للمُتاجَرَةِ بحقوقِ الإنسانِ، ويتحوَّلُ الجَزّارُ إلى ضحيّةٍ، وتَتداخَلُ مُتَلابِسةً الإنسانيةُ والاضطهادُ، وتَجعلُ ’’النظريّةُ الديمقراطيّةُ‘‘ من الجُمهورِ قَطيعاً حائِراً، على حدِّ تعبيرِ والتر لپمان (Walter Lippman)(6)، تَعنيهِ الفُرجةُ والمُشاهدةُ أكثرَ مِمّا تَعنيهِ المُشاركةُ وما يترتَّبُ على هذه المشاركةِ من مسؤوليّات.
ومن هذا المُنطلقِ يُمكنُ أنْ نَرَى الاختلافَ البَيِّنَ في تَطبيقاتِ حقوقِ الإنسانِ وفي تفسيرِ هذا الاختلافِ، وهكذا نرَى ضحايا ذَوِي قيمةٍ من البشرِ الأبيضِ الأنگلوسكسوني وضَحايا غَيرَ ذَويِ قِيمةٍ من صُفرٍ وحُمرٍ وسُودٍ، من صوماليّينَ وفلسطينيّين وڤييتناميّينَ، ونرَى أنَّ هناكَ ’’نحنُ‘‘ بِما تحمِلُ هذه ’’النَحنُ‘‘ من ِميزاتِ التَعالي ذكاءً ولَوناً ودَمَاً، وهناك ’’هُم‘‘ بما تَحملُ هذه ’’الهُمْ‘‘ من انحطاطٍ وتَخلُّفٍ وبَلادةٍ، وهناك ’’هُنودٌ حُمرٌ‘‘ لا حَقَّ لهم في الأرضِ والحياةِ و’’بِيضٌ‘‘ لهم حَقُّ القَتلِ وسَلبِ الأرضِ، وهناك ’’المرأةُ‘‘ رَهينةُ البيتِ، المُسَلِّيةُ الطَيِّعَةُ التي هي دُونَ الآخَرِ ’’الرجلِ‘‘ القادرِ على المُنافسةِ والإِنجازِ الاقتصاديِّ بما يتمتَّعُ به من قُدراتٍ ذِهنيّةٍ وجسديّة.
إنَّ الاتصالَ الوسائِطِيَّ لا يستطيعُ الخَلاصَ من سَيطرةِ الآيديولوجيّة بعد أن توسَّعَ حَجمُ المؤَسَّسات المالكةِ، حكوميّةً وغيرَ حكوميّةٍ، وترسَّخَتْ قوّةُ الإعلانِ، وتوطَّدَ الاعتمادُ على المصادرِ الرسميّةِ في استقاءِ الأنباءِ، وجَنَحَتْ القُوَى المتعدِّدَةُ إلى التَماثُلِ والانصهارِ في قُطبِيَّةٍ مُوحَّدَةٍ، وتعدَّدتْ أساليبُ العقابِ التي يُمكنُ أن تتعرَّضَ إليها المُؤَسَّسةُ الإعلاميَّةُ في حالةِ تَجاوُزِها المألوفَ من العُرفِ السياسيِّ والاجتماعيِّ والثقافِيّ.
وفي ظِلِّ ذلكَ، أصبحتْ وسائِطُ التواصُلِ بأجمَعِها تتبنَّى حريّةَ التعبيرِ، ولكنّها الحريَّةُ التي تتبنّاها الدولةُ، ويَختلفُ مَعناها من دولةٍ إلى أُخرَى. فقد تكونُ بِمعنَى حريّةِ انتقالِ البضاعةِ، أو ما ’’يَنسجِمُ‘‘ مع خططِ التنميةِ، أو ما يَهزِمُ العَدُوَّ، أو أنّها مُقتصِرةٌ على ’’الطَبيعةِ‘‘ في نِضالِها ضِدَّ الرأسماليّةِ والاحتكارات، وتَتفاعَلُ مع هذه المعاني ’’القوَّةُ‘‘ التي تَجدُ ما يُلائِمُها من معنَى الحريّةِ ليُصبِحَ وسيلتَها لاكتسابِ الشرعيّةِ ومُمارسةِ ’’السُلطة‘‘. ولقد سَبقَ أن قِيل: لولا قَبضَةُ ’’هِملر‘‘ Himmler القويّةُ لَسَقطتْ سريعاً سيطرةُ گوبلز Goebbels على عمليَّةِ تكوينِ الرأيِ العام في ألمانيا النازيّة.
1- جان دارسي (Jean D’Arcy)، فرنسي (1913-1983). مدير برامج وصديق لوزير الثقافة الفرنسي المعروف آندريه مالرو (André Malraux) اليساري التوجُّه. (ويكيپيديا)
2- آلدو آرماندو كوكا (Aldo Armando Cocca)، أرجنتيني (1924- ). دبلوماسي، سفير، أستاذ قانون، ممثّل الأرجنتين لدى الأمم المتحدة، لجنة استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية. درّس في جامعات كثيرة عبر العالم، وحصل على جوائز عالمية كثيرة. (پرابوك)
3- پاولو فرير (Paulo Friere)، برازيلي (1921-1997). مُعلِّم ومُنظِّر في مجال التعليم، أشهر مؤلفاته: ’’التعليم ممارسة للحريّة‘‘ (1967)، ثم كتابه الأشهر ’’تعليم المقهورين‘‘ (1968). (ويكيپيديا)
4- ريموند وليامز (Raymond Williams)، المملكة المتحدة (1921-1988). فيلسوف وروائي وكاتب وأستاذ جامعة وعالم اجتماع وناقد أدبي. (ويكيپيديا)
5- گـرامشي (Gramsci)، إيطالي (1891-1937). فيلسوف وواحد من أهم المفكّرين الماركسيّين، له أكثر من ثلاثين مؤلَّفاً. (ويكيپيديا)
6- والتر لپمان (Walter Lippman)، الولايات المتحدة (1889-1974). كاتب ومراسل ومعلق سياسي مشهور، يعتبر من أوائل من أدخل مفهوم الحرب الباردة. (ويكيپيديا)
*************
يُنشر القسم الثاني من الدراسة قريباً.
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘، المغرب، 18-4-2000.
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع