الــدكـتور محمود الحاج قاسم محمد
باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
طـبـيـب أطـفــــال -الموصل
دراسة مقارنة بين المترجمين العرب واللاتين
مما لاشك فيه أن لأي نقل أو ترجمة ( للعلوم وغيرها ) من لغة إلى أخرى سيئات وسلبيات إلى جانب الحسنات لأن تلك العلوم المنقولة لا تصل إلى اللغة المترجمة إليها كما يضعها أصحابها كاملة غير منقوصة ، نتيجة لـتأثر المترجمين ببعض العوامل أو الضغوط العقائدية واللغوية والأخلاقية . إلاّ أن المتتبع لحركة الترجمة يجد تفاوتاً بيناً بين تأثير تلك الضغوط في عصور الترجمة المختلفة عبر مراحل انتقال الحضارات وإذا ما قارنا بين الترجمات العربية للمؤلفات اليونانية وبين الترجمات اللاتينية للمؤلفات العربية نجد فرقاً شاسعاً في تأثير تلك الضغوط على الترجمات بين الاثنين ، نستعرض فيما يلي أوجه التباين هذه من خلال هذه العوامل الأساسية :
أولاً – العـوامـل الديـنيـة أو العـقـائـديـة :
لقد تأثر المترجمون من اليونانية إلى العربية ( سواء المسلمين منهم أو غير المسلمين ) بمذاهبهم الدينية فكانت تعوز البعض منهم الأمانة في النقل إذا كان الموضوع المنقول يتعارض مع عقيدة المترجم . أما في المسائل الطبية والعلمية التي لا تمس العقيدة فقد جاءت الترجمات خالية من أي عيب أو تحريف .
بينما نجد (( المترجمين المسيحيين المتعصبين لشريعتهم الدينية ، ومن يخاف من سخط الكنيسة على من يخرج عن طاعتها وفتاويها ، أسقط من ترجمته الكتاب العربي بعض متونه أو كامل باب من أبوابه التي لا تتفق والشريعة النصرانية ، وهذا ما حصل في كتاب القانون لابن سينا (حيث أسقط جيرارد الكريموني منه باب طرق منع الحبل وإسقاط الأجنة إرضاءً لرجال الدين))
ويقول الأستاذ فؤاد سيزكين : (( إن عملية الأخذ والتمثيل قد تمت لدى اللاتين على غير الصورة التي تمت بها عند العرب ، ذلك أن المسلمين اهتدوا إليها بوساطة الذين اعتنقوا الدين الإسلامي ، وبواسطة مواطنيهم أصحاب المعارف الأجنبية ، أما عند اللاتين فكان على صورة أخرى … لقد كانوا – أعني اللاتين – مضطرين إلى أخذ المعارف ، وإلى أخذ أنظمة المؤسسات المختلفة ، وإلى أخذ أساليب الجامعات وبرامجها من الأعداء السياسيين والدينيين . لقد كانوا يشعرون بشعور المعادة والبغضاء تجاه من يأخذون عنهم ، وانعكس ذلك على عملية الأخذ بصورة عقد نفسية وطبيعي بعد هذا أن يفقدوا عنصري الوضوح والصراحة ، وهما العنصران الأصليان في عملية أخذ المسلمين عن الآخرين )) .
إن تأثير الكنيسة لم يقتصر على عيوب التحريف والنقيصة في الترجمة من العربية إلى اللاتينية فحسب وإنما كان وراء تأخر النمو الفكري لدى الأوربيين عدة قرون على الرغم من وصول نفائس ونضائر العلم العربي بشكل عام والطبي بكل خاص نتيجة ترجمات المؤلفات العربية منذ أواخر القرن العاشر الميلادي إلى أوربا .
تعلل ذلك المستشرقة الألمانية سيغريد هونكة فتقول : (( والسبب في تأخر هذا النمو يعود في حقيقة الأمر إلى الروح المسيطر آنذاك ، وإلى النظرة السائدة للكون والبشر … فكل تفكير خلاق كان يقف حاجزاً أمام طريقة التفكير القاسية التي كانت الكنيسة تدعو لها وتعلم الجيل الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … لقد كان رجال العلم الأوربيون ومعلميه وأساطينه يتبعون ، بصورة اسمية أو علمية ، رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ، ما عدا جماعة ساليرنو وجماعة نابلي ، وذلك عكس الأطباء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في الحياة ، غير مقيدين إلاّ بقيود الحقيقة والعلم )) .
ثـانـياً – العـوامـل الأخـلاقـيـة :
ويمكن إدراج هذه العوامل ضمن بندين مهمين هما :
1 - أخلاقيات نقد الأسلاف :
يقول الأستاذ فؤاد سيزكين عن ذلك : (( أما عند المسلمين فقد هيأت قضية المعارف الأجنبية منذ بداية الأمر – ودون أي اضطراب معنوي ، أو عقد نفسية ، أو حرج ما – موقفاً واضحاً من أسلافهم ، وتبدو قيمة هذا الموقف العظيم إذا قارناه بموقف اللاتين من أساتذتهم العرب .
وبهذه الظاهرة التي نستطيع أن نسميها بعنصر ( الوضوح ) الذي دخل في تاريخ العلوم يمكننا أن نتحدث عن أثر مهم من آثارها ، وهو أسلوب نقد العلماء العرب للأسلاف بوجه عام )) .
(( إن المبادئ المعتمدة على الفهم الواضح والسليم لدى العلماء المسلمين للدافع العلمي عند أسلافهم تقوم على عدد من الأسس ، منها أن الخلف مدين للسلف دون أن ينتقص من قدرهم وقوعهم في بعض الزلات أو الهفوات ، وأنه ليس ثمة ما يمنع من الاستدراك على الأسلاف شريطة ألاّ ينطوي ذلك على الإسراف في التجريح والتضليل .
وفي اعتقاد العلماء المسلمين أنه ما من عالم مهما بلغ شأنه معصوم من الخطأ ، منزه من الزلل. هذه المبادئ أرست لديهم الأسس الأخلاقية للنقد ، وأدت بهم إلى جعل النقد عندهم مفيداً مثمراً ، غير أن كثيراً من الباحثين غفل عن هذه الحقيقة ، وأدى سوء فهمه لهذا الواقع إلى اتهام العالم الإسلامي بضعف الروح الانتقادية ووصفهم بالتبعية للقدماء )) .
كما وأنه كان نتيجة التزام المترجمين العرب بالأسس الأخلاقية السليمة للنقد استخلاص المؤلفين منهم المهم من الكتابات اليونانية ووضعها في قالب واضح تاركين كل ما كان لا لزوم له للاستدلال على ذلك (( تكفي المقابلة بين كتابات جالينوس وكتابات ابن سينا . فالأول مبهم والثاني في غاية الوضوح ، والترتيب واضح في الثاني ومفقود في الأول )) .
2 – صـفـة الانتحال وعـدم الأمانة في النقل :
(( اتخذت عملية أخذ اللاتين من علوم المسلمين صفة الانتحال ، ولقد بين هذا عدد من العلماء المتخصصين في بحوث كثيرة ، إذ أظهروا كيف انتحل علماء لاتين لأنفسهم بحوثاً أخذوها من كتب العلماء العرب والمسلمين ، أو انتحلوا كتباً ترجموها إلى لغتهم ، زاعمين أنها من إبداعهم وتأليفهم ، كما أنهم نقلوا كتباً عربية أخرى ، ثم زعموا أنها لمشاهير من الإغريق مثل أرسطو طاليس وجالينوس وروفس وسواهم )) .
كما وأن كثيراً من التراجمة نسوا أو تناسوا أن يذكروا اسم المؤلف الأصلي أو حرفوا اسمه في اللاتينية حتى صار يصعب معرفة اسمه الأصلي .
(( وقد يدور في الخاطر سؤال : كيف أمكن أن يغفل المؤرخون عن ذكر اسم أثر العرب في إحياء المرحلة العربية عدداً من القرون ؟ ويبدو لنا الجواب واضحاً في فهم أبعاد روح المعاداة التي سادت في الغرب ضد المسلمين وعلومهم .
وربما تمتد هذه الظاهرة إلى عهد روجر باكون ( 1210 – 1290 م ) الذي اقتبس جميع ما نسب إليه من نتائج علمية من الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية .
ولقد ظهر رايموندس لولوس Raymundus Lulus الذي توفي سنة 1315 م بعد أن بذل حياته وجده في مقاومة كل شيء عربي ، وألف عدداً كثيراً من كتب الكيمياء ، ثبت أخيراً أن معظم مؤلفاته عربية . وكذلك لا ننسى ما كان ينادي به الكثيرون من إنقاذ العلوم من نير العرب )) .
ومن الأمثلة على انتحال الكتب والأفكار الطبية العربية (( كتاب ابن النفيس المشهور الذي انتحله مايكل سرفيت Servet لكن تيار المعاداة هو الذي انتصر وساد ، وظل مستمراً إلى القرن السادس عشر للميلاد في ألمانيا وفرنسة وإيطاليا . ومن الزعماء البارزين في هذا التيار لينهارت فوكس Leonhart Fuchs من جامعة توبنكن . ومن الذين يكافحون العرب ، وينتحلون كتبهم باراسيلسوس Paracelsus الشهير )) .
ومن الأمثلة الأخرى على انتحال الكتب الطبية العربية ونسبتها إلى أنفسهم التماساً بذلك الشهرة إلى أنفسهم ، ما قام به قسطنطين الإفريقي عندما قام ( بالتعاون مع يوحنا فلافيوس ) بترجمة كتاب كامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس المجوّسي ، وكتاب العشر مقالات في العين لحنين بن إسحاق العبادي ونشرهما باسمه لا باسم مؤلفيهما الحقيقيين . على أن كتاب المجوّسي ترجم مرة أخرى إلى اللاتينية بعد أربعين سنة باسم مؤلفه الحقيقي ، بقلم اصطيفان البيزي
ثـالـثـاً – العـوامـل الفكريـة واللغـويـة :
مما لاشك فيه بأن لهذه العوامل تأثيراً جوهرياً على عملية الترجمة ودرجة جودتها . ويمكن تلمس ذلك التأثير من خلال :
أ – الاسـتـعـداد الفـكري :
يؤكد الدكتور محمد كامل حسين على : (( أن الأمم تفيد من نقل العلوم بقدر ما يسمح به نموها العقلي ونضج التفكير عندها ولم يكن نمو التفكير العلمي بالغاً في الأمم اللاتينية )) . فقد كان العلم اللاتيني في أوربا لحظة وصول العرب المسلمين إليها قد أصابه البوار والركود العلمي ، فكان وصول العرب المسلمين بمثابة عاصفة هزت البُنى الثابتة الراقدة ، وبعث الحياة في ذلك السبات وأحدثت تغيراً نوعياً في اتجاهات الفكر الأوربي ومدت أمامه آفاقاً جديدة على طريق التطور والإبداع . وإن كانت آثار هذا كله لم تظهر إلاّ بعد عدة قرون ، فإن ذلك راجع إلى الحالة الدنيا ، الفكرية والاجتماعية ، التي كان يعيشها هذا المجتمع قبل مقدم المسلمين .بينما نجد العكس تماماً لدى العرب والمسلمين ، فقد كان لهم قبل اطلاعهم على ثقافات الأمم الأخرى علوم خاصة بهم كاللغة والنحو والعروض والفقه وأصول التشريع وعلوم التفسير والحديث ، وقد بلغوا شوطاً كبيراً ووضعوا فيها قواعد مستقرة وشروطاً مفصلة في وقت مبكر وهذا يعني بأن الحضارة العربية لم تكن أرضاً جرداء حتى جاءها العلم اليوناني كما يدعي البعض ، وإنما استعداد العرب الفكري والعلمي جعلهم أهلاً لتقبل وتمثيل العلوم الأخرى كالفلسفة والكيمياء والرياضيات والطب … الخ ، في وقت يعتبر قياسياً في حساب ازدهار الحضارات .
ب – أساليـب التـرجمـة :
كان لأساليب الترجمة عند المترجمين العرب ركائز ومقومات جعلت الترجمات متصفة بصدق النقل وصحة التعبير وحسن التبويب وإيضاح القصد . فقد (( كان النقلة والمترجمين في العصر العباسي الأول – عصر النقل والترجمة – يجيدون اللغة العربية كما يجيدون بجانبها اللغات التي يترجمون عنها وكانوا يعتمدون على الحفظ والحافظة في استخدام الرصيد اللفظي من اللغة الأجنبية التي ينقلون عنها )) . ( أما في تعريب المصطلحات الأعجمية ، فلم يكونوا بحاجة إلى حفظ ولا حافظة وإنما كانوا يأخذون اللفظة الأجنبية ويعربونها على بنية اللسان العربي )) .
(( وكان المترجم يتصرف في اختيار اللفظ المترجم وفقاً لفهمه وذوقه وقدرته على إدراك المعنى المراد ، ومقدرته في اللغة العربية ذاتها )) .
ويمكن تـقسـيـم أسـالـيـب الترجمة إلـى :
(( 1 – الترجمة الحرفية : وهي الطريقة التي تقوم – كما يفهم من اسمها – على ترجمة النص الأصلي بصورة حرفية ، وبمعنى أدق كلمة كلمة ، ولا يخفى على أحد ما لهذه الطريقة من محاذير عديدة أهمها ، تضييع جوهر معنى ذلك الكتاب المراد نقله … إضافة إلى ما يرافق ذلك من انعدام أي ترابط للجمل بعضها بالبعض الآخر ، أو عدم وجود المرادف للكلمة الأصلية المراد ترجمها إلى العربية ، الأمر الذي يحتم على المترجم في هذه الحالة أن يضع الكلمة الأجنبية كما هي ، مما سبب في مجيء الكثير من المصطلحات غير العربية والتي بقيت قيد الاستعمال حتى وقتنا الحاضر ، مثل كلمات الفلسفة ، الموسيقى ، الإسطرلاب … الخ )) .
وبخصوص هذا الأسلوب في النقل يذكر الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا : (( أما الترجمة الحرفية فقد كانت شائعة بين المترجمين السريان عندما كانوا يترجمون من لغة اليونان ، وبين المترجمين اليهود واللاتين في طليطلة عندما كانوا ينقلون من العربية إلى العبرية واللاتينية بعد سقوط طليطلة . إن هذا النوع من الترجمة الحرفية ، كان أسلوباً مألوفاً عند العرب ، ولكن منذ عهد حنين بن إسحاق في القرن التاسع الميلادي أصبحت مهمة المترجم – نظرياً وعملياً – نقل المعنى الصحيح نقلاً دقيقاً مضبوطاً)) .
2 – التـرجمـة بالـمعـنـى :إن جوهر هذه الطريقة – وكما يدل عليها اسمها أيضاً – يعتمد على المعنى الشامل لكل جملة في أي كتاب يراد ترجمته ، ومن ربط المعنى الكلي للجمل بعضها مع البعض الآخر ، حسب هذا الأسلوب ، يتكون مضمون الكتاب المترجم … )) .
(( والواقع أن هذا الأسلوب هو أقرب إلى المنطق والفهم من الأسلوب السابق . ويعتبر حنين بن إسحاق العبادي ( 164 – 260 هـ / 809 – 873 م ) من أشهر النقلة الذين اتبعوا هذه الطريقة في ترجماتهم )) .
3 – طريقـة التـلخيـص والاختـصار :(( وتكمن أهمية هذه الطريقة :
1. أنها دلالة واضحة على قوة الناقل في لغة ذلك الكتاب …
2. أنها تعبر أصدق تعبير على ثقافة الناقل في كل مجال يطرقه حسب هذا الأسلوب …
إن إجادة لغة ذلك الأسلوب المراد تلخيصه ، والإلمام التام بمادته هما من أهم مقومات هذه الطريقة . ومن مشاهير النقلة الذين عملوا بهذا الأسلوب نذكر على سبيل المثال عبد الله بن المقفع ، ويعقوب بن إسحاق الكندي ، ويحيى بن عدي )) .
4 – الترجمة من لغة إلى لغة عن طريق لغة أخرى :هذا الأسلوب قام به التراجمة السريان
(( وأعني به أسلوب الترجمة من اليونانية إلى العربية عن طريق السريانية … وهذا ما طبقه حنين بن إسحاق ومدرسته في الترجمة . إذ نرى أن حنيناً كان يترجم من اليونانية إلى السريانية ، ليتولى بعد ذلك إسحاق بن حنين وحبيش الأعسم ، تتمة الترجمة إلى العربية من اللغة السريانية ، علماً بأن حنيناً كان يتقن العربية إتقاناً كاملاً كإتقانه للغات التي يترجم منها … )) .
(( فإنني أرى أن وراء هذه الطريقة أسباباً أدت إلى ذلك أهمها :
1 . رغبة حنين في نشر لغتهم السريانية على نطاق واسع ، حيث يضطر الشخص الذي يرغب في الإطلاع على علوم ومعارف اليونان إلى أن يتعلم اللغة السريانية .
2 . العمل على إغناء التراث السرياني بعلوم ومعارف التراث اليوناني .
3 . رغبة حنين بن إسحاق في إشراك ابنه إسحاق بن حنين وابن أخته حبيش الأعسم في ترجماته هنا ، الأمر الذي يوسع من دائرة النقلة السريان في ترجماتهم للتراث اليوناني .
4 . إن حنين بن إسحاق كان يتقن اليونانية إتقاناً عظيماً وإلى الدرجة التي لا ينافسه فيها أحد … لذلك فضلوا جميعاً على أن يتولى حنين تنفيذ المرحلة الأولى في الترجمة من اليونانية إلى السريانية – لغتهم الأصلية – لينفذوا هم بعد ذلك المرحلة الثانية والأخيرة في الترجمة من السريانية إلى العربية )) .
(( والترجمات مهما بذل فيها من حذق وعناية وعلم ودراية لا تكون كالأصل وبخاصة الترجمات السريانية . فقد تعود أصحابها التصرف بالأصل وإضافة شروح وآراء أخرى إليها قد تخالف آراء المؤلفين ، نسبت إلى أصحاب تلك المؤلفات عمداً أو سهواً .
لذلك لم يكن غريباً أن تتعرض النقول الأولى لسيل من الحملات أملتها النظرة الأولى العجلى ، ولكن هذه النقول لم تكن نهائية . وليس أدل على ذلك من إعادة ترجمة الكتاب الواحد مرات متعددة عن مصادر مختلفة ومقابلة الترجمات ...لقد كانت هذه الطريقة من الأساليب المتبعة بين العلماء للوصول إلى النص الأصلي مما يؤذن بالرغبة الأكيدة في تحري الدقة والحرص على الأمانة العلمية ، كما نفعل في هذه الأيام ، وهذه الطريقة العلمية السليمة بدت تباشرها في القرن الثالث للهجرة ، وكانوا يشترطون لصحة النقل إلى جانب معارضة النسخ وتصحيحها بعضها ببعض ، فهم اللغة المنقول منها والمنقول إليها . ولا يقتصر الأمر على ذلك بل كانوا يشترطون أيضاً فهم الموضوع وتصوره كتصور قائله والإحاطة به إحاطة تامة )) .
وعن أوجه المقارنة بين أساليب الترجمة من اليونانية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية يقول الدكتور الجليلي (( إن هناك اختلافاً كبيراً بين الترجمة من اليونانية والترجمة من العربية ، فالترجمة من العربية كانت حية ، فأهلها موجودون ولغتهم سائدة ومعارفهم تتقدم وتنتشر …)).
(( وأما مستوى الترجمة إلى اللاتينية فيبدو أنها كانت على أنواع فبعضها حرفي أبقى الكلمات العربية في مواطن كثيرة ، وبعضها كانت لغته اللاتينية جيدة )) .
بينما يقول الدكتور أمين أسعد خير الدين عن ذلك (( إن بين ما ترجم العرب من اليونانية إلى العربية وبين ما ترجم الإفرنج من العربية إلى اللاتينية ، نجد البون الشاسع بين أمانة أولئك وصدق ترجماتهم وبين تقصير هؤلاء وعدم أمانتهم فالمترجمون من العربية إلى اللاتينية لم يكونوا عادة من العلماء وكان فهمهم للغة العربية ضيقاً ، بل كان بعضهم لا يعرف العربية مطلقاً واكتفى بالنقل عن ترجمة عبرانية سقيمة أو عن اللغات الدارجة ، كما أن نزاهتهم كانت موضع الريبة الشديدة )) .وفي موضع آخر يقول :
لقد (( اتصفت الترجمات العربية بصدق النقل وصحة التعبير عربوا من المؤلفات اليونانية وأضافوا إليها حسن التبويب وإيضاح القصد . بينما فعل الأوربيون بترجماتهم من العربية إلى اللاتينية عكس ذلك تماماً فقد قصروا في الترجمة ولم يحسنوا نقل العلوم العربية إلى اللاتينية ومع ذلك فقد كان لما نظموه أثر كبير في نهضة أوربا العلمية ودفع كتاب الغرب في القرون الوسطى إلى البحث عن الأصول اليونانية نفسها .وقد تركت اللغة العربية أثرها في اللغات الأوربية كما تدل على ذلك بقايا الاصطلاحات العربية في علوم الغرب حتى يومنا هذا كالكحول والشراب والجلاب والقلي والعطر وكثير من الأسماء الفلكية)) .
وعن الموضوع نفسه يقول الدكتور محمد كامل حسين (( وأما الخلط فكان أوضح ما يكون في المؤلفات اللاتينية . كان من المترجمين من لا يعرف العربية فكانت الكتب تترجم من العربية إلى العبرية ومنها إلى لاتينية ركيكة . وهذه التراجم المزدوجة كانت مصدر أخطاء عديدة … وآخرون كتبوا كتباً ضعيفة كلها أخطاء وكانوا ينسبونها إلى مشاهير العلماء العرب يبغون لها بذلك رواجاً . وكان أكثر المترجمين لا علم لهم بالطب وأوقعهم ذلك الجهل في أخطاء )) .
وأخيراً نذكر وجهة نظر الدكتور كمال السامرائي حول أوجه المقارنة فيقول (( أما في حالة الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية فيحدث أن يكون الكتاب العربي منقولاً عن اليونانية ، فإذا ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية فإنه يمر بمرحلتين من النقل وفي ذلك الكثير من الاحتمال أن لا تطابق الترجمة الأخيرة مضامين الكتاب الأصل أو تكون على الأقل مرتبكة وكثيرة الأخطاء .
هذا بالإضافة إلى أن المترجمين من اللاتينية لا يحسنون هذه اللغة أو لا يحسنون العربية ، فتكون نقولهم تبعاً لذلك مشوشة وركيكة ، وهذا ما حدث في ترجمة كتاب كامل الصناعة الطبية للمجوّسي وحتى في كتاب القانون لابن سينا .
وفضلاً عن كل ما تقدم أن أكثر المترجمات إلى اللاتينية كانت باللغة البروفانسية ، وهي لاتينية مطورة ممجوجة وعاجزة عن التعبير بالمفاهيم العلمية ، وخصوصاً المصطلحات الطبية وأسماء الأدوية ، فكان من نتيجة ذلك كثير من الأغلاط التي مست جوهر المادة الطبية المترجمة إلى اللاتينية )) .
----------
المصادر:
السامرائي ، د . كمال : الطب العربي في أوربا اللاتينية ، معالم تصلح للمناقشة ( مقال ) ، كتاب دراسة في فضل العرب في الطب على الغرب ، ص 88 .
- سيزكين ، د . فؤاد : محاضرات في تاريخ العلوم ، ص 21 .
- هونكة ، سيغريد : شمس العرب تسطع على الغرب ، نقله للعربية فاروق بيضون وكمال الدسوقي ص306.
- سيزكين : د . فؤاد ك المصدر السابق ، ص 17 – 18 .
- خير الله ، د . أمين أسعد : الطب العربي ، ص 48 .
- سيزكين ، د . فؤاد : المصدر السابق ، ص 21 .
- سيزكين ، د . فؤاد : المصدر السابق ، ص 22 .
- حسين ، د . محمد كامل : في الطب والأقرباذين ، ص 289 .
- الجميلي ، د . رشيد : حركة الترجمة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة ، ص 27 – 28 .
- الجميلي : المصدر السابق ، ص 28 .
- مرحبا ، د . محمد عبد الرحمن : من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية ، ص 320 .
- الجميلي ، د . رشيد : المصدر السابق ، ص 40 .
- الجميلي ، د . رشيد : المصدر السابق ، ص 42 .
- الجميلي ، د . رشيد : المصدر السابق ، ص 43 .
- الجميلي ، د . رشيد : المصدر السابق ، ص 47 – 48 .
- الجليلي ، د . محمود : تأثير الطب العربي في الطب الأوربي ، ص 196 ، 199 .
- خير الله ، د . أمين أسعد : الطب العربي ، ص 49 ، ص 206 .
- حسين ، محمد كامل : في الطب والأقرباذين ، ص 264 .
- السامرائي ، د . كمال : المقال السابق ، ص 88 .
961 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع