قاسم محمد داود
بعد ١٦عام من "الديمقراطية"
تُعبر الديمقراطية عن وجودها عبر دولة النظام والدستور، دولة التنوع بين المؤسسات والوظائف التي تؤديها في المجتمع، وهي أيضاً تعكس ثقافة وحضارة شعب العراق، وإن أحد محددات ازدهار المؤسسات الديمقراطية هو المضمون الفكري والثقافي للمجتمع الديمقراطي، فبدون وجود ثقافة التعددية السياسية واحترام الخصوصية والتنافس وضمان تطبيق الدستور في فصل الدين عن السياسة لن يزدهر النظام السياسي والاقتصادي في العراق.
كما هو معلوم ان الديمقراطية هي أحد أنظمة الحكم القائمة، الذي يكون فيه الحكم او التشريع او سلطة إصدار القوانين من حق الشعب او الناس، او الأمة (التي كان ظهور مفهومها لاحقاً لمفهوم الشعب). وباختصار فإن الديمقراطية تعني أن يكون الحكم للشعب (حكم الشعب للشعب) وهي أهم خاصية تميز الديمقراطية عن غيرها من أنظمة الحكم. ولكي يتحقق ذلك تجرى الانتخابات لمليء المقاعد في البرلمان (ممثل السلطة التشريعية) الذي يختار (السلطة التنفيذية) أي الحكومة. لكن الديمقراطية ليست الانتخابات فقط وإنما تهدف الى:
. تحقيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة
. تحقيق الأمن الشخصي والاجتماعي والاقتصادي
. ترسيخ قيم الصدق والأمانة والتعايش السلمي
. مشاركة الشعب في اتخاذ القرار
. احترام المال العام والمحافظة عليه
. الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية
. محاربة الشطط في استعمال السلطة
في العراق وبعد 2003 وصفَ النظام الذي أقامته سلطة الاحتلال الأمريكي/ البريطاني بأنه نظام ديمقراطي برلماني ولا يزال هذا قائماً حتى اليوم وقد مضى على وجوده 16 عام. فهل حقق هذا النظام وبعد سلسلة من الانتخابات ما تهدف اليه الديمقراطية؟ ان المتتبع لنسب المشاركة في الانتخابات العراقية منذ اول انتخابات أجريت في 30 كانون الثاني 2005 يجد ان نسبة المشاركين كانت 76% في تلك الانتخابات، إلا ان هذه النسبة بدأت بالانحدار حتى وصلت الى 19،32% في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في 12 مايس 2018 أي ان ما يقارب 80% من الذين يحق لهم التصويت لم يشتركوا في الانتخابات بمعنى رفض العملية الانتخابية وبالتالي فقدان شرعيتها وشرعية نتائجها وما يترتب عليها من إجراءات. وهذا ناتج عن شعور عام بعدم جدوى الانتخابات وبالتالي عدم جدوى الديمقراطية إذا كانت محصلتها أحزاب وقيادات جعلت من الديمقراطية انتخابات وصناديق اقتراع فقط، وليست منظومة مؤسساتية تعتمد الانتخابات كمدخل لمنح الشرعية للنظام السياسي، ومن ثم توثق العلاقة بين المواطن والمؤسسات السياسية. كما ان غياب المنجز السياسي والاقتصادي وعدم قدرة النظام السياسي على تحقيق التنمية في كافة المجالات عزز من هذا الشعور لدى المواطن وصار التساؤل بشأن جدوى الديمقراطية منطقياً جداً. لابل أصيب بالإحباط واليأس وصار يحن للنظام الدكتاتوري. أن عدم وجود قيادات حقيقية تؤمن بالنظام الديمقراطي وبالممارسات والسلوكيات الديمقراطية لا يساعد على قيام ديمقراطية حقيقية، فالقيادات والأحزاب العراقية لا تزال تدور في دائرة ما اصطلحوا عليه بـ "نظام المحاصصة". والمشكلة أن هذا النظام الذي هو نتاج لهذه الأحزاب مرفوض ومنتقد في العلن ومعتمد في توزيع مغانم السلطة في الواقع. ان منطق الغنيمة مع الدولة يتجلى بكل وضوح في النظام الانتخابي المعمول به، وفي توزيع الوزارات والمناصب العليا في مؤسسات الدولة وفي الهيئات "المستقلة" على مرشحي الأحزاب حتى وأن فشلوا بالفوز بمقاعد في مجلس النواب، وبهذا يكون مبدأ المساواة والعدالة الذي تحققه الديمقراطية قد انتهك عبر تحويل مؤسسات الدولة بعنوان التوافقية إلى إقطاعيات طائفية وحزبية وعائلية.
ان فشل الديمقراطية بنسختها العراقية يتضح في انهيار البنية الاقتصادية وأتساع حجم الفساد المالي مما أدى الى اتساع ظاهرة البطالة التي ارتفعت الى 31% وارتفاع مستوى الفقر الى 35% كما وصل عدد الاميين 7 ملايين نسمة نتيجة لتخلف قطاع التربية والتعليم. لقد فشلت الديمقراطية في نسختها العراقية في ترسيخ قيم الصدق والأمانة والتعايش السلمي في بلد عانى من الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، فقد نمت قيم ومفاهيم جديدة حتى صار الكسب غير المشروع شطارة، وانتشرت ظاهرة الرشى، وتنامت ظاهرة الاختلاس والتجاوز على المال العام وتزوير الشهادات الدراسية لغرض الحصول على المناصب والمخصصات المالية والترشيح للانتخابات، ففي العام 2009 كشفت هيئة النزاهة 300 شهادة مزورة لمرشحين في انتخابات مجالس المحافظات 2009 و 500 شهادة مزورة لمرشحين للانتخابات النيابية لسنة 2010 ومثلها للانتخابات النيابية في 2014 وكشفت عن 10000 شهادة مزورة صادرة من كليات أهلية وحكومية . ان غياب الوعي الجماهيري والجهل قاد أكثرية الناخبين الى منح أصواتهم الانتخابية على أساس الطائفة او القبيلة او المنطقة من دون اعتبار الكفاءة والنزاهة مما أدى الى صعود طبقة سياسية لا خبرة لها في السياسة متخذة من عضوية البرلمان طريقاً للكسب المادي والوجاهة الاجتماعية. وفي ظل الديمقراطية أحتل العراق طليعة الدول في الفساد المالي وهدر المال العام والثراء غير المشروع، إذ تفيد التقارير أنه، ومنذ عام 2003، خسرت البلاد جراء عمليات الفساد نحو 450 مليار دولار. ولكي يتضح مدى نجاح الديمقراطية العراقية في إيجاد قضاء يعول عليه نورد التقرير الخاص بحقوق الانسان الذي تصدره بعثة الأمم المتحدة في العراق بشكل دوري، جاء في التقرير:" لا يزال مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الانسان يشعر بالقلق لعدم وجود التزام ثابت بمعايير الإجراءات الأصولية ومعايير المحاكمة العادلة " وجاء في موضوع آخر:" يبقى امتثال القضاء بالإجراءات الأصولية الدولية والدستورية ومعايير المحاكمة العادلة تكتنفه المشاكل.. ونادراً ما يتحقق القضاة في الادعاءات بأن الاعترافات كانت قد انتزعت بالقوة أو من خلال التعذيب وإساءة المعاملة، مفضلين الاعتراف بها كدليل، ويأخذون بها لإدانة المتهمين". وفي ظل النسخة العراقية من الديمقراطية فشلت المؤسسات المعنية بالتحقيق ومتابعة ملفات الفساد، والتي أصبحت عاجزة عن القيام بوظائفها لأنها لا تمتلك الصلاحيات الكافية ولا تمتلك القدرة على ملاحقة الفاسدين، بالإضافة إلى تسييس ملفات الفساد بهدف التسقيط السياسي. لقد ولدت الديمقراطية في العراق بعد 2003 استناداً الى دستور 2005 واليوم وبعد مرور ما يقارب 14 سنة على نفاذ هذا الدستور وهي فترة كافية لتبيان مدى صلاحيته لتنظيم سلطات الدولة المختلفة وقدرته على تسيير مرافق الدولة وانكشاف اغلب عيوبه خلال هذه الفترة، لقد صيغ هذا الدستور في ظروف غير طبيعية، لأن الإطاحة بالنظام السابق لم يتم بأيدي عراقية والقوات الأجنبية التي قامت بهذه المهمة تحولت من قوات محررة الى قوات محتلة لا تختلف تصرفاتها عن تصرفات أي قوة استعمارية في التاريخ لذلك فأن العملية الديمقراطية التي اضطرت سلطة الاحتلال اطلاقها في العراق فيما بعد تحمل بصمات غير عراقية يشك في صدق نواياها وأهدافها، لقد تضمن الدستور مجموعة من المضامين المتناقضة مع مبادئ الدولة المدنية الديمقراطية، التي دفعت إلى انعدام التوافق والانقسام بين أطراف العملية السياسية بدلاً من المساعدة في حل العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية في العراق، وأسهمت العديد من الفقرات في خلق وإثارة مشكلات خطيرة. كما ان الدستور كتب حسب مزاج عنصري وطائفي من قبل كتل سياسية متناحرة كان هدفها الحصول على أكبر حصة سلطوية ومناصب حكومية ورفض في أكثر من ثلاث محافظات عراقية تضم أكثر من ثلث سكان العراق لذلك أحتوى على الكثير من الأخطاء والمواد المتناقضة فكانت الديمقراطية التي بنيت على أساسه مشوهة ولم تفي بما كان يؤمل منها.
1144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع