عوني القلمجي
العراق الصفحة الثانية من ملحمة الانتفاضة
يوما بعد اخر تغوص السلطة في وحل الخيانة الوطنية، فبدلا من تقديم استقالتها والمثول امام القضاء بتهمة القتل العمد، او على الاقل الاستجابة لمطالب المنتفضين المشروعة، راحت تواصل الليل بالنهار لمنع انطلاقة الانتفاضة بعد عدة ايام، وتحديدا في الخامس والعشرين من هذا الشهر. حيث قامت اجهزتها الامنية ومليشياتها المسلحة، بحملة مداهمات لمناطق الشعلة والشعب والسعدون والكرادة والكرامة والعبيدي والمشتل، واعتقال المئات من الشباب المنتفض، بما فيهم عدد من الجرحى الذين ظهروا في وسائل الإعلام، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة الذين نددوا بالتدخلات الإيرانية السافرة. لكن فعلتها المشينة هذه لم تجد نفعا مع شباب قرروا التضحية بحياتهم من اجل الوطن، ليس هذا فحسب، وانما زادت هذه الاجراءات القمعية حدة الاستياء الشعبي في عموم المدن العراقية، وعلى وجه الخصوص، المدن المنتفضة. الامر الذي ادى الى اعلان شيوخ عشائر الديوانية وربيعة والنجف مساندتهم للانتفاضة في يومها الموعود. وهذا بدوره سيؤدي الى التحاق الناس بالانتفاضة افواجا افواجا.
اما تشكيل القوة التي سماها عادل عبد المهدي رئيس سلطة الاحتلال، "بقوة حفظ القانون لحماية المتظاهرين" فقد ردت عليه اللجان التنسيقية بجلاء ووضوح. حيث ذكرت في بيان لها وبالحرف الواحد" : "إن القوة التي أعلنت حكومة عبد المهدي تشكيلها لضمان تأمين التظاهرات ما هي إلا قوات جديدة، مهمتها قمع المتظاهرين واعتقالهم من مساكنهم خوفا من تظاهرات مقررة في الخامس والعشرين من أكتوبر الجاري". وذكر البيان ايضا إن حكومة عبد المهدي لا تعرف طريقا للإصلاح أو محاربة الفاسدين، وإنها لازالت تعتمد القمع كأسلوب أمني لحل الأوضاع المتدهورة، وذلك بتشكيل قوة عسكرية جديدة باسم “قوة حفظ القانون” بقيادة عبد الكريم خلف وبالتعاون مع قيادات في الحشد والاستخبارات الحكومية"
ولكن هذا ليس كل شيء، فمحاولة عبد المهدي، التي تنطوي على قدر كبير من الخداع والتضليل، حول عزم السلطة على الاستجابة لمطالب المنتفضين. وتشكيل لجان تحقيقية لمحاسبة الفاسدين وقتل المتظاهرين خلال اسبوعين، قوبلت من قبل المنتفضين بالاستهجان والازدراء، حيث قال احد ابناء الانتفاضة بعفوية شديدة، لماذا لم تجر محاسبة هؤلاء قبل الانتفاضة؟ هل هي خدعة جديدة ام ان هؤلاء الحرامية هم احرار خارج الحدود. ثم لماذا يشكل عبد المهدي محكمة خاصة لمحاكمة هؤلاء ولديه محاكم قادرة على معالجة اية جريمة مهما كان نوعها؟ الا يعني ذلك تقديم مسرحية جديدة للهروب من المسؤولية؟ كما قوبلت بالاستهجان والازدراء، تلك الحملات الاعلامية للسلطة واقلامها الماجورة، التي حاولت تقزيم الانتفاضة وبشرت بهزيمتها كما فعلت مع الانتفاضات السابقة، على الرغم من ان هذه الحملات الدنيئة، قد ساهم في الترويج لها بعض السياسيين والكتاب والمثقفين المحسوبين على المعسكر الوطني، تحت ذرائع ومبررات وافكار قديمة وجامدة، او استخدام مصطلحات اصبحت ممجوجة، مثل : يا جماعة فلنكن واقعين لا خياليين وحالمين او السؤال المستهلك والذي يراد منه تكريس ثقافة العجز الا وهو ما البديل؟ الى اخر هذه الترهات.
واهم من يعتقد ان الانتفاضة غير قادرة على مواجهة السلطة ومحاولاتها البائسة، فالانتفاضات الشعبية هي في عمومها تعبير عن قوانين اجتماعية تسري على جميع المجتمعات البشرية، اي انها ليست ابتكارا عراقيا، وانما حفل بها تاريخ الشعوب المضطهدة التي قررت التحرر من انظمتها المشبوهة والعيش بحرية. وهي في نفس الوقت تحظى بأهمية خاصة في العلاقات الدولية، باعتبارها عملا وطنيا ذا قيمة إنسانية وموضع اهتمام لكل الشعوب وفي كل الأزمنة والظروف. ولا يغير من هذه الحقيقة التقليل من شان هذه الانتفاضة كونها عفوية وغير منظمة ولا تتوفر على برنامج سياسي وقيادة تدير شؤونها. وحتى اذا افترضنا صحة هذه الادعاءات ، فان التاريخ قدم لنا نماذج عديدة لانتفاضات عفوية، تحولت مع تطور الصراع مع اعدائها الى انتفاضة منظمة وافرزت قيادات كفوءة وحددت شعاراتها السياسية واختارت الية مناسبة لادارة الانتفاضة، وثمة انتفاضات حققت مطالبها كاملة غير منقوصة واخرى حققت خطوات مهمة على الطريق مثل تونس والسودان والجزائر. فالانتفاضات الشعبية من هذا الوزن، سواء كانت عفوية او منظمة، ليست تظاهرة سلمية للدفاع عن حقوق الانسان او الحيوان، او الحفاظ على البيئة، تبدا وتنتهي في وقت محدد سلفا، وانما هي فعل ثوري وكفاحي قد يمتد الى وقت طويل، لا بل هي حرب وطنية كبيره ضد قوى غاشمة او حكومة عميلة او دكتاتورية، لا تتردد في الدفاع عن مصالحها باستخدام القوة بكل اشكالها العنيفة، ومعركة وطنية كهذه لابد وان تواجه مثل هذه العقبات واحيانا ترافقها اخفاقات او تراجعات او حتى هزيمة هنا واخرى هناك. وهذا ينطبق على انتفاضتنا العملاقة، فهي لم تندلع صدفة او كرد فعل، وانما مثلت تتويجا للعديد من الانتفاضات التي سبقتها. وكان اساس قيامها المحنة التي يعيشها شعبنا طيلة سنين الاحتلال العجاف. حيث فقد المواطن جميع الخدمات المتصلة بابسط مقومات الحياة، واتسعت قاعدة الفقر بين الناس وازداد حجم البطالة واهدار الكرامة وفساد السلطة، والاعتقالات والسجون وممارسة التعذيب ضد جميع المواطنين، في حين لم تظهر في الافق رياح اي تغيير يرتجى منه خيرا حتى عبر الوسائل القانونية التي اقرها دستورهم الملغوم، لا في المدى المنظور ولا في المدى البعيد.
باختصار شديد، فعلى الرغم من كل العقبات التي تعترض طريق الانتصار، وعلى الرغم من المؤمرات المحلية والاقليمية وقوى الاحتلال ضد الانتفاضة، وتحديدا امريكا وايران، فان انتفاضتنا العملاقة تمتلك الكثير من عناصر القوة التي اساسها شباب العراق ونساؤه والتاييد الشعبي لها، اضافة الى ان السلطة قد وفرت لها كل شروط الانتصار، جراء سقوطها السياسي والاخلاقي، واصرارها على مواصلة العبث بشؤون البلاد والعباد، وعدم الكف عن ارتكاب الجرائم والسرقات. اضافة الى اصرارها على رفض اي إصلاح يمس ولو شعرة من راسها، او يهدد مكسبا من مكاسبها، او يهز ركنا من اركانها. الامر الذي يدفع كل المظلومين الى الانضواء تحت لواء الانتفاضة. وتقديم الدعم والاسناد لها. والاهم من ذلك كله فان هذه الانتفاضة قد مثلت عموم الشعب العراقي، وهذا ما يفسر عجز اي حزب او جهة مهما بلغت من قوة او علا شانها، سواء من داخل العملية السياسية او خارجها، بركوب موجتها او الترويج لاجندتها او عقيدتها او برنامجها السياسي او الديني. في حين شارك في الانتفاضة جميع المنتمين للاحزاب الوطنية المعادية للاحتلال وعمليته السياسية الطائفية المقيتة وفق رؤيا مشتركة اساسها اسقاط الحكومة وعمليتها السياسية ودستورها المفبرك، واقامة حكومة وطنية كفوءة تاخذ على عاتقها طرد بقايا الاحتلال وتصفية النفوذ الفارسي في العراق والعمل على اجراء انتخابات حرة ونزيهة تقرر شكل النظام الذي يختاره الشعب العراقي. ومن دون ذلك فان اي طرف يريد فرض نفسه وعقيدته وقوانينه يعد خيانة وطنية بامتياز. فما تخضب تراب العراق بدم شهدائنا الا من اجل وطن يعيش فيه كل مكوناته وقومياته واديانه ومذاهبىه بحرية وامان ويمارس الجميع حريته دون الاعتداء على حرية الاخرين.
المعركة اذن شرسة، ومداها قد يطول وقد ترتفع اعداد الضحايا اكثر فاكثر، لكن المؤشرات تنبئ بانتصار الانتفاضة طال الزمن ام قصر، استمرت او تراجعت، فهي تدار من قبل قيادة ميدانية اكتسبت خبراتها واستمدت تجربتها من الانتفاضات السابقة من جهة، واهتدت بتجارب الانتفاضات الشعبية لشعوب المعمورة من جهة اخرى. والاهم من ذلك كله، فان ابناء الانتفاضة هم فتية امنوا بربهم واحبوا وطنهم وشعبهم ولديهم الارادة والصمود والتضحية بحياتهم ، على عكس الطرف الاخر، حيث السلطة القائمة باتت ضعيفة ومهلهلة وتعيش حالة من الخوف والرعب جراء شبح الانتفاضة الذي لم يزل يؤرقها ويقض مضاجع قوى الاحتلال خاصة امريكا وايران ومن ورائهما الكيان الصهيوني. اما رئيسها عادل عبد المهدي فهو كما يقول العراقيون لا يحل ولا يربط.
من الاهمية بمكان، وفي ظل اللحظة العراقية بالغة الدقة، التاكيد على ان الانتفاضة الوطنية الكبرى لن تقبل المساومة مع عملاء الاحتلال وترفض الخلط المتعمد للمفاهيم السياسية التي يجري ترويجها بين المنتفضين. ونقصد هنا الخلط بين ما يسمح به المفهوم السياسي للمساومة ، في ظل بلد مستقر وامن ومستقل وذي سيادة كاملة وخال من العملاء والانفصاليين والطائفيين، من قبيل التعامل بين الاطراف المختلفة في الرأي والعقيدة والاسلوب، او العمل المشترك فيما بينها، او عقد تحالفات او مساومات الخ، وبين المفهوم الوطني في ظل بلد محتل وتعقيدات طائفية وعرقية وساحة تعج بالخونة والعملاء، اضافة الى الانتهازيين والوصوليين وتجار الحروب. هنا لا يجوز اطلاقا سلوك ذات النهج وفق المفهوم السياسي العام. وانما يتطلب ذلك التمسك بالثوابت الوطنية وعدم المساس بها او المساومة بشأنها، من قبيل رفض الصيغ السياسية والمبادرات الكاذبة ومحاربتها والعمل على اسقاطها بكل الوسائل والسبل. بل ورفض اقامة اية علاقة او اتصال مع اصحابها او حتى القبول بالجلوس معهم.
ان كاتب هذه السطور ليس وحده الذي يتطلع الى اليوم الذي يتحقق فيه هذا الامل، وعودة العراق محررا ومستقلا وموحدا وواعدا، وانما يتطلع اليه شعب العراق، بل ويتطلع اليه كل العرب، لما للعراق من موقع ومكانة في قلوبهم وعقولهم ووجدانهم. وحدهم العملاء والطائفيون والعنصريون ومساحو بساطيل المحتل ضد هذه الامال المشروعة.
لا ولم ولن يغمض العراقيون اعينهم الا على العراق الذي نعرف والعراق الذي نحب.
عوني القلمجي
19/10/2019
3089 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع