بسام شكري
اقفال السحر والنذور الشرقية تتحول الى رمز لتوثيق الحب في أوروبا
ما ان تمشي على جسر القطارات الحديدي الكبير الذي تمر عليه خطوط السكة الحديد في مدينة كولون في شمال غرب المانيا والذي يقع على نهر الراين العظيم والذي يمر فوقه يوميا اكثر من 3600 قطار بالاتجاهين حتى ترى منظرا غريبا وقد تحول سياج الجسر الى لوحة فنية مليئة بمختلف انواع والوان واشكال واحجام الاقفال واختفت معالم سياج الجسر وتحول الى معرض ضخم من الاقفال حتى وصل عدد الاقفال لغاية كتابة هذا المقال اكثر من 2 مليون قفل بمختلف الألوان والاحجام , لقد بدا العشاق في مدينة كولون وضواحيها بعملية وضع الاقفال على الجسر وكتابة اسمائهم على الاقفال ورمي مفاتيح الاقفال في النهر وقد شاهد الناس تلك الظاهرة لأول مرة في سنة 2008 وذلك تقليدا لما حصل في ايطاليا وبعدها في فرنسا التي سبقت كولون بعدة سنوات وانتشرت الاقفال في بعض جسور مدينة باريس حتى اصبحت تهدد سلامتها من ثقلها واصبحت مياه الانهار ملوثة نتيجة لرمي المفاتيح فيها حيث تم احصاء اكثر من 700 الف قفل يتم وضعه شهريا من قبل السكان المحليين ومن قبل السائحين واصبحت غايات استعمالها متعددة فمنهم من استعملها كرابط للحب الازلي والبعض الاخر لتوثيق الحب وبعد ازواج استعملوها في ذكرى زواجهم كنوع من ادامة العلاقة الروحية بين الزوجين , لكن من اين جاءت فكرة الاقفال ؟ ولماذا يتم رمي المفاتيح في النهر؟ وماذا يحدث لو ان كمية المفاتيح قد زادت واغلقت مجرى النهر؟ او قد قامت بالتأثير على حركة المواصلات اللاسلكية والالكترونية نتيجة تراكمها واحتكاكها مع بعض في مكان واحد؟ وماذا يحدث لو آثر ثقل الاقفال على قوة الجسر وانهار الجسر فهل ستقوم بلدية كولون بإزالة تلك الاقفال مثلما قامت بلديات متعددة في مدينة باريس بإزالة الاقفال عن الجسور خوفا من انهيارها.
من اين جاء تقليد الاقفال؟ لقد انتقل تقليد الاقفال من الشرق وتحديدا من بلاد ما بين النهرين حيث الحضارة العريقة التي تصل الى سبعة الاف عام وقد نقلها المهاجرين الى اوروبا مع الكثير من الجوانب الاخرى فقام الاوربيين باستعمالها بأسلوبهم الخاص، فماذا يعني روحيا وماديا استعمال الاقفال؟
ان تقليد الاقفال هو تقليد شرقي قديم امتد من العصر البابلي المتقدم وقد تطور من اداة لقفل الابواب الى اداة لها قوة سحرية مضافة لإغلاق ابواب المعابد وقد تكور القفل الذي بدأ على شكل حبال تغلق الأبواب الى اقفال من الخشب والمعادن يتم تركيبها بشكل هندسي لتغلق الأبواب ثم تطور استعمالها فبدا الانسان يضع الاشكال والرموز على الاقفال المعدنية والخشبية ثم تطور السحر فاصبح الانسان يتمتم بكلمات وهو يضع تلك الاقفال ويغلق الأبواب بالحبال والاربطة وقد ذكر الله ذلك في القران الكريم في سورة الفلق (والنفاثات في العقد) والتي تعني نوع من السحر كان يمارس في الجاهلية قبل الإسلام حيث تقوم الساحرة بعمل عقد في قطع من القماش او الحبال وتنفث فيها أي ترسل قوة سحرية مع انفاسها داخل تلك العقد ويبقى السحر مستمر مازالت العقدة على حالها.
ما هي فلسفة القفل في السحر وما هي استعمالات الاقفال؟
كما هو معلوم فان الانسان عندما يعجز عن تفسير الظواهر الغريبة عنه او تفسير مصدرها فانه يوعز اليها بالسحر ويعتقد بان مصدرها هو السحر لكن العلم الحديث قد فسر ظواهر كثيرة كانتقال الطاقة الكهربائية للكائنات الحية من مكان الى اخر او انتقال الفيض الكهرومغناطيسي بنفس الاسلوب لإحداث تغييرات مختلفة على المواد. وقد استعمل الانسان الشرقي الاقفال لثلاث حالات مختلفة تقع في مفهوم السحر حسب الاعتقاد البدائي وهي:
اولا - الربط : في العصور الماضية ولغاية السبعينات من القرن الماضي خصوصا في العراق ومصر كان يستعمل اسلوب الربط عندما يتزوج الرجل امرأة عذراء وخوفا عليها في بعض الحالات من الصدمة النفسية نتيجة للمعاشرة الزوجية للمرة الاولى حيث تقوم ام العروس بربط الرجل ومنعه من القيام بواجباته الزوجية ( المعاشرة الجنسية ) الى ان تتعود الزوجة على الزوج وعلى الجو الجديد الذي انتقلت اليه فتخبر امها بان الامور تسير بخير فتقوم الام بفك الربط على ان لا يزيد عدد ايام الربط عن اربعين يوما وتقوم الام او الشخص الذي عمل الربط بفتح القفل وألقاء القفل والمفتاح في مجرى النهر وقد يقوم بعملية الربط شخص غريب بهدف الانتقام من احد الزوجين وبهذه الحالة لا يتم فك الربط بالطريقة التقليدية التي ذكرناها واذا ما استمر الربط فان عجز الرجل الجنسي سوف يستمر ويسبب مشاكل والام نفسية للزوجين .
ان الشخص الذي يقوم بعملية الربط يقوم بترديد بعض الكلمات يعقبها فترة صمت تصل الى خمسة دقائق ويقوم بوضع القفل في أي مكان يختاره على ان يكون مغلق على حديد ويحتفظ بالمفتاح لدية على ان لا يرى المفتاح شخص اخر غيره وهذا النوع من الربط منتشر في وسط وجنوب العراق وعربستان الايرانية وكافة انحاء مصر والسودان حيث مجرى نهر النيل واجزاء من بادية الشام وبعض اجزاء من سلطنة عمان وهناك كتب متعددة كانت تباع في الاسواق لغاية السبعينات من القرن الماضي تساعد الناس على فك الربط.
ثانيا – النذور : اما توثيق النذور باستعمال القفل فأنها من العادات الوثنية القديمة والتي مازالت سائدة الى يومنا في معظم دول الشرق فان من يريد ان ينذر شيئا او يطلب شيئا من الله فانه يذهب الى قبر احد الاولياء والصالحين ويقرا سورة من القران الكريم او يقرا دعاء معينا ثم يطلب ما يريد ويقول على سبيل المثال لو ان الله سيحقق لي طلبي فاني انذر بان اعطي للفقراء مبلغا معينا من المال او اذبح خروفا اقوم بتوزيعه على الفقراء لوجه الله او ان اصوم او ان اقوم بتنظيف المسجد او الكنيسة او المعبد بنفسي او... او ... الى اخرها من الامور ويقوم بوضع القفل في شباك الضريح ويقفله ويحتفظ بالمفتاح الى ان يتحقق نذره ( طلبه ) وعندما يتحقق ما كان قد طلبه فيقوم بإيفاء نذره ويقوم بزيارة الضريح وفتح القفل واخذه معه ويمكنه استعمال القفل في الاعمال اليومية لكن لا يجوز استعماله في النذور مرة ثانية .
ثالثا السحر: يستعمل القفل لسحر الاشخاص ايضا بان يجعلهم في شعور دائم بالخوف او اشبه بالسجن بان يتم التركيز بالتفكير او بالنظر على الشخص المطلوب او على قطعة من ملابسه او حاجاته التي سبق واستعملها ثم يتم اغلاق القفل ودفن المفتاح في مكان يصعب الوصول اليه او وضع المفتاح في سائل قذر او في خل قديم ومع استمرار الوقت يشعر الشخص كانه في سجن وهذه كلها اعتقادات اشبه بالخرافات يمارسها الناس في اوقات الشدة عندما يعجزون عن استعمال الوسائل التقليدية في حل مشكلاتهم اليومية .اما ابطال السحر الخاص بالأقفال فله طرق متعددة وقد رأيت بعيني حالة واحدة من تلك الحالات حيث كان هناك درويش يعيش في مقبرة الشيخ عمر السهروردي في بغداد الواقعة قرب مقام المتصوف الكبير الشيخ عبدالقادر الكيلاني وكانت تلك المنطقة تعج بالدراويش والفقراء وكان ذلك الدرويش نادرا ما يتكلم لأنه كان يصوم عن الكلام اغلب ايام الاسبوع وعند زيارة عمتي للمقبرة في يوم من ايام الشتاء كنت معها وانا صبي لا يتجاوز عمري التسع سنوات وراينا ذلك الدرويش والناس تتجمع حوله وقد اعطته واحدة من النساء قفل مغلق وطلبت منه ان يفتح القفل ويبطل السحر الذي فيه ويقوم بأرسال السحر الى الساحر الذي عمله فوضع القفل على صخرة في الارض ودار حول نفسه 3 مرات من اليمين لليسار ونظر الى القفل بهدوء وصمت عن مسافة اكثر من ثلاثة امتار فمرت دقائق ثقيلة وساد صمت غريب المكان فانفتح القفل بدون ان يلمسه الدرويش وهاج الناس وركض بعضهم خارج المقبرة من الخوف وسقط بعضهم على الارض من الضحك وخرجنا نحن من المقبرة ونحن خائفين لا نعرف تفسيرا لما حدث وعمتي توصيني بان لا اخبر اهلي بما رأيت.
في النهاية أحب ان ابشر الأحبة والعشاق في مدينة كولون بان اقفالهم في خير لان الاصل في عمل الاقفال هو النية في العمل فمن كانت نيته توثيق الحب او ابقاءه مدى الحياة فان ذلك سيتحقق مادام القفل قد تم وضعه على الجسر. التفسير العلمي لعلاقة الماء الجاري في النهر بالأقفال التي وضعها العشاق على الجسر هو استمرار انتقال الطاقة الايجابية من مجرى النهر الى كل الاقفال الموجودة على سياج الجسر في اعلى النهر. لكن هل ستنتقل تلك الطاقة الايجابية ايضا الى العشاق؟ نترك الجواب للقراء الذي وضعوا اقفال على الجسر ونسألهم هل تغيرت حياتهم وشعروا بقوة الطاقة الايجابية بعد وضعهم للأقفال ام لا؟
سوف تنتقل ثقافات كثيرة من الشرق الى الغرب مع انتقال المهاجرين وسوف يستعملها الغرب حسب فهمه وحاجته لها وسوف تتحول الكثير من تلك الثقافات والمعتقدات والفنون الى اتجاهات مختلفة كما حصل مع انتقال ثقافة الاقفال وسوف تنتقل الاطعمة المختلفة والملابس ايضا مما يثري في الثقافة الانسانية ويوحد حب الحياة بين الناس. ومثلما انتقلت الكليجة (نوع من البسكويت العراقي المعمول) من العراق الى هولندا مع المهاجرين العراقيين قبل عشرين سنة واصبحت اكله عالمية وماركة تجارية فان اطعمة كثيرة وتقاليد سوف ينقلها السوريين والعراقيين وغيرهم من المهاجرين الى اوروبا.
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1669 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع