عوني القلمجي
الانتفاضة العراقية مقدمة واعدة للانتفاضة الكبرى
لليوم الثالث على التوالي، تواصل الانتفاضة العراقية العملاقة كفاحها السلمي من اجل نيل حقوق العراقيين المشروعة، او جزء منها كتوفير الماء والكهرباء والدواء. وعلى خلاف الانتفاضات السابقة، فان حكومة عادل عبد المهدي ومليشياتها لم تتمكن من قمع هذه الانتفاضة خلال ساعات او خلال يوم او يومين، رغم سقوط مئات الجرحى والقتلى من ابنائها الاشاوس، جراء استخدام الاطلاقات الحية وخراطيم الماء الحار والقنابل المسيلة للدموع. وكذلك لم تنفع الوسائل القديمة من تشويه صورة الانتفاضة عبر التشكيك في هويتها الوطنية مره، وتنفيذهم اجندات اقليمية ودفع البلاد الى حرب اهلية مره ثانية، ووصف ابنائها بالمخربين والمندسين مرة ثالثة. حيث سقطت جميعها دفعة واحدة جراء اشتراك معظم المدن الجنوبية فيها. بل على العكس من ذلك تماما، فكلما ازداد حجم استخدام القوة وحملات التشويه والتشكيك، كلما ازدادت قوة الانتفاضة وفاعليتها والتحاق الناس بها افواجا افواجا وفي معظم المدن العراقية.
لقد تميزت هذه الانتفاضة عن سابقاتها في العديد من الامورالعملاقة، فهي قد اعلنت عن نفسها وعن يوم انطلاقتها وحددت اماكنها ونوع شعاراتها سواء الخدمية منها او السياسية قبل اكثر من شهر عبر منصات التواصل الاجتماعي. وهي قد بدات بقوة وانتشر لهيبها بسرعة البرق الى المحافظات الاخرى وخاصة الجنوبية منها، وان عماد هذه الانتفاضة هم في الغالب من الشباب ناهيك عن مشاركة النساء فيها لاول مرة، حيث لعبن دورا كبير في مساعدة ابناء الانتفاضة الاشاوس، ناهيك عن حسن تنظيمها ودقة ادائها. كما انها ولدت حالة من الرعب لاعداء العراق في الداخل والخارج، فالنسبة للحكومة ومليشياتها المسلحة فقد وجدت فيها بداية جدية لاسقاطهم دفعة واحدة، اما امريكا العدو المحتل الاول، فانه وجد في هذه الانتفاضة العملاقة ردا صريحا وواضحا على رفض العراقيين الاستسلام للامر الواقع المرير والاصرار على القتال المستمر بكل الوسائل لانتزاع اخر حق من حقوق العراق واهله. في حين كان الاكثر خيبة بين الخائبين ايران التي ظنت بانها روضت الشعب العراقي باتجاه تاييدها والركض وراء مخططاتها. حيث حرق المتظاهرون علمها ورفعوا شعارهم المعروف ايران بره بره وبغداد تبقى حرة.
بالمقابل فان هذه الانتفاضة قد سارت في ظل قيادة او لجان تنسيقية ذات خبرة ومهارة عالية من جهة، وعدم انتمائها الى اية جهة سياسية من جهة اخرى، حيث كان شعارها العراق ثم العراق ثم العراق. فقد تحصنت تماما ضد ركوب موجتها من قبل اي طرف في العملية السياسية، وخاصة التيار الصدري الذي اختص بسرقة الانتفاضات كلما وصلت الى تحقيق اهدافها. والاهم من ذلك فهذه القيادة قد اعدت العدة لاي حالة طواريء قد تحدث، ولذلك كان نقل القتلى والجرحى وتوزيع المياه ومضادات القنابل المسيلة للدموع يسير بانتظام شديد. اما شعارتها فقد حصرت في شعارات خدمية وسياسية تقطع الطريق على الحكومة من استغلالها بطريقة تخدم مصالحها. اما تعاملها مع الجيش والاجهزة الامنية فكان متناسقا بحيث كسبت عطفهم وود الكثير منهم.
الاهم من ذلك فان قيادة الانتفاضة قد ادركت، على ما يبدو، بان المراهنة على تحقيق مطالبهم المشروعة او جزء منها عبر الطرق السلمية مراهنة فاشلة، الامر الذي سيدفعها هذه المرة الى اعادة حساباتها وتقييم مواقفها وتصحيح الية عملها ووسائل نضالها. وبالتالي فاذا كان هناك ما يعيق الانتفاضات السابقة في السير على الطريق الصحيح، فانها قد زالت الان الى حد كبير. بل لا اجازف اذا قلت بان المنتفضين اصبحوا مستعدين، اذا لم يكن الان فغدا، لاستخدام حقهم المشروع في مواجهة القوة بالقوة، بعد عجزهم عن نيل حقوقهم بالطرق السلمية. خاصة وان الالتزام الحديدي بالنهج السلمي للانتفاضة لتحقيق الاصلاح لم ينتج طيلة السنين الماضية سوى الخيبة تلو الاخرى.
ولكن هذا ليس كل شيء ، فالانتقال من مرحلة نضال معينة الى مرحلة ارقى، لا يقتصر على مثل هذه التوجهات الصحيحة رغم اهميتها، وانما يحتاج الى عمل دؤوب من اجل ترسيخ هذه القناعات لدى الناس من جهة، والاستعداد لاحباط اية محاولة مضللة للالتفاف عليها من جهة اخرى. مثل اجبار عادل عبد المهدي على الاستقالة وتشكيل حكومة من وجوه جديدة او محاسبة عدد قليل من القتلة او الحرامية او الاعلان عن قيام بعض الاصلاحات الترقيعية. بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فان انجاز مهمة من هذا الوزن الثقيل، لن يكون سهلا انجازه من قبل قيادة الانتفاضة لوحدها، وانما يتطلب منا جميعا كقوى واحزاب وطنية، وشخصيات سياسية، وكتاب ومثقفين وشعراء وفنانين تقديم كل انواع الدعم والاسناد وما ملكت ايدينا من وسائل نافعة. والا يكون مثلنا كمثل اليهود الذين قالو لموسى، اذهب انت وربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون.
ما يكدر هذه الصورة المشرقة دخول بعض ممن يحسبون انفسهم زورا وبهتانا ضمن المعسكر المعادي للاحتلال وعمليته السياسية الطائفية المقيتة، تحت مسميات رنانة، مثل محلل استراتيجي او صاحب مركز دراسات او خبير سياسي او مفكر مقاوم، وهم في حقيقة الامر مجموعة من الانتهازين والوصوليين والمنتفعين ببقاء الحال كما هو عليه. ومهمة هؤلاء زرع المخاوف بين الناس وتحذيرهم من النتائج السلبية لمثل هذه الانتفاضات، ويضربون الامثال بما حدث في سوريا او ليبيا او اليمن، متناسين بان الانتفاضات تقاس بمشروعيتها وليس بنتائجها غير المتوقعة. او يعمدون الى الخلط بين السبب والنتيجة. حيث لا امل في انتزاع الحقوق المشروعة كنتيجة قبل القضاء على اسبابها. حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان نتيجة للاحتلال وتنصيب حكومات عميلة تخدم مشاريعه، واذا لم يتم القضاء على حكومة الاحتلال ومن ثم طرد المحتل بكل جنسياته، فانه لا يمكن انهاء معاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. واذا حدث تغيير فانه لن يتعدى بعض الاصلاحات الترقيعية، والتي هي اشبه بالمسكنات التي تخفف عن المريض الامه ولا تقضي عليها.
هذه الانتفاضة التي شملت معظم مدن العراق ومشاركة النساء فيها لاول مرة، هي تتويج لتاريخ العراق الكفاحي ودرس يعشي بصر الذين شبه لهم بان العراقيين قد استسلموا للامر الواقع. فها هم ابناء العراق يواجهون النار والحديد لحكومة عادل عبد المهدي، بمزيد من الشجاعة والصمود.. وبالتالي فمن حق كاتب هذه السطور التفاؤل باقتراب موعد الانتفاضة الكبرى، كون مثل هذا التفاؤل لا يدخل في باب الوهم والخيال وانما يدخل في باب الحقائق العنيدة. خاصة وان لشعبنا تاريخ طويل ومشرف في هذا المجال. فهو الذي قام بالعديد من الانتفاضات التي سجلها التاريخ العراقي باحرف من نور مثل ثورة الشعب العراقي الباسلة ضد الاستعمار البريطاني وضد حكوماته العميلة، بدا بثورة العشرين المجيدة ومرورا بثورة 1941 وانتهاء بالانتفاضات التي حدثت في عام 1948 52 و56 والتي توجت بثورة 14 تموز الخالدة، وكان اخرها اندلاع المقاومة العراقية ضد المحتل الامريكي وتلقينه دروسا قاسية في عدد من المدن العراقية، والتي كان ابرزها تلك المعارك التي خاضتها المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة الباسلة.
نعم قد تتمكن قوة الحديد والنار قلب هذه المعادلة واجبار الانتفاضة على التراجع، لكنها لن تتمكن من اخماد نيرانها للابد، فهي ستلد انتفاضة اخرى اقوى واشد ضراورة منها. والتاريخ قدم لنا حقيقة ثابتة ان النصر في النهاية حليف الشعوب قطعا.
عوني القلمجي
4/10/2019
752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع