مهند العزاوي*
الحوكمة والفساد في التاريخ
كانت شريعة حمورابي اول حزمة قوانين مسجلة في التاريخ ، وقد صدرت تلك القوانين عام 1790 ق.م في العراق حاليا ومنطقة ما بين النهرين تاريخيا، وتلك القوانين مقسمة الى 282 ، وهذه القوانين حُفرت على عمود بطول سبعة أقدام ونصف من "الديوريت"[1] بطول 2.25 متر و موجودة بمتحف اللوفر في "باريس" وتشمل القوانين حقوق الملكية والسلوك الإجرامي، والعقاب والعبودية والطلاق، كما اشتملت على عقوبات قاسية لكلّ من يخالفها، وساهمت هذه القوانين في تحديد شكل الحياة البابلية عهد حمورابي، وكما يبدوا انها عقيدة "الحكم الرشيد" الذي ينتهج الحوكمة في إدارة الدولة ، وتتعلق تلك القوانين بإدارة المجتمعات والدولة والحياة ، وعملت على تحقيق المسائلة والعدالة وتعويض المتضررين ، وتحدد واجبات الافراد و حقوقهم في المجتمع ، وكان مبدا الشفافية واضح فيها وتنشر للعلن لكي يفقه الناس الحقوق .
اذ تؤكد الوقائع التاريخية ان العراق حاليا وبلاد ما بين النهرين تاريخيا ، كان اول من سن القوانين وعمل بها ، وشرع للعالم السياق القانوني وإدارة الدول والمجتمعات ، وشكل التحديدات القانونية للسلوك البشري الذي قد يستغل السلطة الممنوحة له او يمنح نفسه سلطة فوق القانون، ويعاقبه على ذلك السلوك ، وعندما نقارن خصائص الحوكمة مع التشريعات والقوانين التي صدرت قبل الميلاد وفي عهد الحضارات ما بين النهرين كنموذج ، نجد انها تجسد قيم الحوكمة وخصائها ، وسنجد ان الحوكمة ليس وليدة عصرنا هذا بل انها سلوك إدارة رشيد عبر التاريخ ، واستطاع نظام الحوكمة ان يؤسس الامبراطوريات والحضارات المؤثرة ، وجميع كتب التاريخ تخبرنا عن نوعين من السياسات الحاكمة الأول: الحكم الرشيد والدولة الناجحة - إذ يؤسس لنظام الدولة وحوكمة عملها وترسيخ قيم العدالة والشفافية والمسائلة مما يؤسس لدول كبيرة وامبراطوريات فاعلة ومؤثرة ، والثاني: ظاهرة الدول الفاشلة الفاسدة - وتبرز بعد تراجع دور الحوكمة وبروز ظاهرة الفساد والظلم مما يؤثر سلبا على أداء الدولة ومؤسساتها مما يقود الى فناء الدولة واندثارها.
ويخبرنا التاريخ ان سبب انهيار كل الحضارات والامبراطوريات ، هو تراجع دور الحوكمة وبروز طبقة الفاسدين والمفسدين ، الذين يستغلون السلطة لأجل منافعهم الشخصية ، وهذا يؤجج السخط من ظلم الطبقة الإدارية الحاكمة ويقود الى فقدان الانتماء وضعف منظومة القيم الشخصية والمجتمعية، وبالتالي تفقد الدولة السيطرة على النظام الحوكمي الفاعل لصالح الفاسدين ، لاسيما ان الفساد” اصبح كلمة ذات حضور واضح في مختلف النقاشات السياسية والاقتصادية المعاصرة، لا سيما في مجتمعاتنا العربية التي تعد واحدة من أكثر مناطق العالم معاناة من استشراء الفساد باختلاف صوره وأنواعه.
ونقاشات اليوم تتحدث عن نزاهة الماضي ، حيث كان المسؤولين والناس أكثر إخلاصا ونزاهة وأقل فسادا، والفساد ليس بالأمر الجديد، والدليل على ذلك ما يقدمه كتاب[2] “ محاربة الفساد عبر التاريخ – من العصور القديمة إلى العصر الحديث” وهو من مطبوعات جامعة أكسفورد، ونُشر عام 2018، وقد ناقش فترة العصور القديمة الممتدة من العهود الإغريقية القياسية إلى العهد الروماني، ودور الفساد في انهيار الجمهورية الرومانية .
ويستعرض فترة العصور الوسطى الممتدة لخمسة قرون في أوروبا والشرق الأوسط ، حيث ظهرت بعض الإجراءات لمحاربة الفساد، كاستخدام العرائض والرد عليها وإعفاء الموظفين ومدققي الحسابات من وظائفهم، وبقيت إجراءات مكافحة الفساد ومحاسبة المسئولين ثابتة في ظل حكم العباسيين والبويضيين والسلجوقيين بين القرنين التاسع والحادي عشر.
ووجدت فجوة ما بين إجراءات محاربة الفساد (الحوكمة في ذلك الوقت) وتطبيقها، أي بين منع الفساد ومعاقبته ، وناقش الكتاب تاريخ الحديث والمعاصر الفساد ومحاربته في المجتمعات الأوروبية الحديثة ، ومن القضايا التي تناقشها فصول هذا القسم قضية لوكهيد وقضية فْلِكّْ وفساد الدولة في الجمهورية الألمانية الديمقراطية السابقة، ويشير إلى أنه مع توسع الاقتصاد العالمي بشكل كبير خلال القرن العشرين، ازدادت مستويات الفساد أيضا، وبات من الصعب تقدير حجم ومدى الفساد على مستوى العالم لأن هذه الأنشطة تتم سرا، واوضح أن البنك الدولي يقدّر أن الرشوة الدولية تتجاوز 1.5 تريليون دولار سنويا، أو 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأكثر بعشر مرات من إجمالي أموال المساعدات العالمية، وهنالك تقديرات أخرى تقدّر وصول الفساد إلى 2-5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وفي ختام الكتاب اشار إلى أن الفساد أصبح أسلوبا للعيش في العديد من البلدان، ففي عام 2011، أفادت منظمة الشفافية الدولية أن ثلثي مواطني بنجلادش وأكثر من نصف الهنود دفعوا رشوة خلال الأشهر الاثني عشر السابقة ، وفي عام 2017 أفاد التقرير أيضاَ أن شخصا من كل أربعة أشخاص على مستوى العالم دفع رشاوى خلال الاثني عشر شهرا الماضية للوصول إلى خدمة عامة، وأن ما يقرب من 57% من الأشخاص في جميع أنحاء العالم شعروا بأن حكوماتهم كانت تعمل بشكل سيء لمكافحة الفساد، بينما اعتقد 30% فقط أن حكوماتهم تعمل بشكل جيد في مكافحة الفساد.
وليس بعيدا عن محور الكتاب ، فان الفساد في دول الشرق الأوسط بلغ مستويات عالية، وبرز من خلال اتساع ظاهرة الاقتصاد الأسود وتبييض الأموال ، وتعاظم نفوذ عصابات الجريمة المنظمة التي أضحت تفوق قدراتها قدرات الدول ، فضلا عن بروز ظاهرة الشركات الحاكمة التي تفوق ميزانياتها ميزانيات دول ، ولم تعد حوكمة الشركات تكفي لمحاربة الفساد بل يتطلب تفعيل حوكمة المؤسسات لإيقاف منظومة الفساد العالمي واذرعها الفاعلة .
وهناك كتب أخرى تتحدث عن الفساد والتحايل والتلاعب والاختلاس ، وسوء استخدام السلطة وفشل نظام المتابعة من التأثير على ظواهر الفساد، ومن خلال استعراض التاريخ يبرز لنا ان الفساد والافساد والتحايل وسوء استخدام السلطة، ظواهر مرافقة للعمل المؤسساتي عبر التاريخ ، اذ ان الحوكمة ليست وليدة عالمنا المعاصر كما يتصور البعض بل هي نظام قيادة معترف به تاريخيا ، وقد استخدمت لتعالج الفساد وسوء استخدام السلطة ، وسلوكيات الشريحة الفاسدة ضمن كيان الدولة ومؤسساتها، وقد شكلت مرتكزات الحوكمة ومواردها التشريعية والقانونية ، واليات تطبيقها ، المسار المضاد للمنظومة الفساد وسوء استخدام السلطة ، لاسيما ان عالمنا المعاصر يعاني من تغول الفساد ، وانتشار منظومات الافساد ، باستخدام وسائل غير شرعية الغرض منها التحايل على القانون، والحصول على مكاسب غير مستحقة، وبالرغم من وجود منظومات الرقابة والمتابعة والمراقبة، الا ان الفساد ينفذ الى المؤسسات في ظل غياب الرصد والتقييم .
*مختص بالشؤون الاستراتيجية
مقتطفات من كتاب حوكمة المؤسسات قيد الإنجاز
الأحد، 01 أيلول، 2019
[1] . الديوريت، Diorite ، هو أحد الصخور النارية الانبثاقية الوسيطة، لونه يتراوح من الرمادي إلى الرمادي الداكن. ويتكون أساساً من فلسبار الپلاجيوكليز (نمطياً أندسين)، بيوتيت، هورنبلند، و/أو پيروكسين. وقد يتضمن كميات قليلة من كوارتز، microcline واوليڤين. الزركون، أپاتيت، سفين، ماگنتيت، إلمنيت والكبريتيدات تتواجد كمعادن ثانوية.[1] ويمكن أيضاً أيكون لونه أسود أو رمادي مزرق، وكثيراً ما يكون له صبة مخضرّة.انظر https://www.marefa.org/ديوريت
[2] . رونالد كروزي، وأندريه فيتوريا، وغي غيلتنر) «محاربة الفساد عبر التاريخ - من العصور القديمة إلى العصر الحديث، 2018 ) Anti-corruption in History, From Antiquity to the Modern Era. Oxford university press 2018. 454pp. Ronald Kroeze (Editor), Andre Vitoria (Editor), Guy Geltner (Editor)
1055 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع