أ.د. ضياء نافع
غوركي ولينين
هذا موضوع مثير للقارئ العربي , اذ انه يقترب من عالم السياسة ويسير على حافة حدوده (الملغومة دائما !) , بل ان بعض القراء العرب ربما يعتقدون انه موضوع سياسي بحت حول تاريخ الحركة الاشتراكية ومسيرتها بالذات, اذ انه يرتبط ب ( قائد الثورة الاشتراكية في روسيا والعالم ايضا - لينين ) و ( قائد الواقعية الاشتراكية في الادب الروسي والادب العالمي ايضا - غوركي ) . لكن هذا الموضوع لا يرتبط بعالم السياسة مباشرة رغم كل هذا التقارب فعلا, بل يتحدث عن جزء غير واضح المعالم للقارئ العربي ( و ربما يمكن القول شبه مجهول تقريبا) من تاريخ العلاقة الفكرية المعقدة والمتشابكة بين أديب روسي كبير برز في بداية القرن العشرين هو مكسيم غوركي وبين شخص لم يكن مشهورا جدا في تلك الفترة هو لينين , ولكنه سيكون قائدا لثورة اكتوبر 1917 الاشتراكية الروسية , والتي أدّت به الى ان يصبح - بعد نجاح تلك الثورة - واحدا من أشهر رجالات القرن العشرين ( وهو كذلك ولحد الان ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ) ليس فقط في روسيا , بل في العالم أجمع .
كلاهما , غوركي ولينين ولدا في روسيا (غوركي العام 1868 ولينين العام 1870, اي انهما متقاربان جدا من حيث العمر ), و لكنهما تعارفا والتقيا خارج روسيا ,لانهما تركا وطنهما المشترك لاسباب سياسية , اذ اصبح لينين قائدا لحزب مضاد للقيصرية الروسية ويسعى لاسقاطها , واصبح غوركي اديبا كبيرا ومعارضا للنظام ايضا , و يؤيد اهداف ذلك الحزب (الذي يقوده لينين) بكل قواه الفكرية والمادية. تعمّقت علاقتهما خارج روسيا ( كل من موقعه ) وخصوصا في ايطاليا ( كان غوركي يسكن هناك , وزاره لينين وبقي بضيافته فترة ), واستمرت العلاقة بينهما ايضا في روسيا عندما انتصرت ثورة اكتوبر 1917 , وهناك الكثير جدا من المصادر الروسية , التي تتحدث عن تفصيلات تلك العلاقات المتبادلة بينهما , وانتهت طبعا بوفاة لينين العام 1924 , عندما طلب غوركي ان يضعوا اكليلا من الورود باسمه ويكتبون عليه – ( وداعا يا صديقي ). وكتب غوركي بعد وفاة لينين مقالة كبيرة وطويلة عنه , وهي واقعيا صورة قلمية فنية ووثائقية رائعة , وتم نشرها في كتيب خاص في الاتحاد السوفيتي آنذاك , وصدرت بلغات عديدة , منها لغتنا العربية , بل ويقال في بعض المصادر الروسية , ان ستالين كان يطمح ويتمنى ان يكتب عنه غوركي شيئا مماثلا , ولكن غوركي لم يكتب ذلك . لم يتناول غوركي في كتابه عن لينين كل ما حدث بينهما , بما فيها خلافاته معه طبعا , والتي حدثت اثناء تلك المسيرة الطويلة معا ( وهو أمر طبيعي ), ونحاول في هذه المقالة ان نشيرالى بعض تلك الخلافات بشكل وجيز وضمن نقاط , اذ انها تكاد ان تكون شبه مجهولة تقريبا في المصادر العربية عموما.
الخلاف الاول ظهر عندما نشر غوركي كتابه الشهير ( الاعتراف), والذي صدر العام 1908 , عندما كان في كابري بايطاليا . لقد حاول غوركي في روايته القصيرة تلك ان يعكس طروحاته الفلسفية بشأن توحيد الافكار الدينية للشعب الروسي مع الاهداف الثورية ( التي كان يؤمن بها غوركي ), وهي وجهة نظر غير جديدة في الفكر الروسي اصلا , ولكنها كانت جديدة بالنسبة لغوركي ومسيرته الابداعيه ( وهو مؤلف رواية الام !) . لقد أكّد غوركي هناك , ان القيم الاخلاقية والروحية اكثر أهمية لنجاح الثورة من العناصر الاقتصادية والسياسية . وقف لينين ضد هذه الطروحات الفكرية الجديدة لغوركي بشكل مباشر وحاد جدا, وانتقده بشدة وعلنية , بل واعتبرها غير صحيحة تماما , ولكن غوركي أصرّ على موقفه الفكري هذا. ان هذا الخلاف العلني بينهما هو واقعيا يجسّد عدم توافق السياسي المحترف لينين مع الكاتب والمفكر غوركي , وهو عدم توافق دائم بين السياسيين من جهة , وبين الكتّاب والادباء والفنانين بشكل عام من جهة اخرى , اذ ان المبدع يعبّر عن افكاره بحرية مطلقة دون الأخذ بنظر الاعتبار متطلبات السياسيين واهدافهم المحددة ضمن مسيرة صارمة وشعارات حزبية مرسومة , وهي ظاهرة عامة ( اي التناقض بين السياسيين والمبدعيين ), و غالبا ما نجدها في مسيرة الحياة وفي كل المجتمعات , بما فيها طبعا مجتمعاتنا العربية.
الخلاف الثاني بين غوركي ولينين حدث بعد فترة قصيرة جدا من انتصار ثورة اكتوبر 1917 , اذ كان غوركي يصدر جريدة اسمها – ( الحياة الجديدة ) , وقد هاجم غوركي في جريدته تلك الخروقات التي حدثت في الايام الاولى للثورة , وكتب يقول , ان ( ... لينين وتروتسكي قد تسمموا بالسم العفن للسلطة ...وانعكس ذلك في علاقة العار تجاه حرية الكلمة , والحرية الشخصية وضد مجمل الحقوق , التي ناضلوا من اجل انتصارها ....) , بل وقارن لينين حتى بالقيصر وتصرفاته تجاه حرية الفكر واضطهاده لها . وكل هذه الخلافات انعكست في كتاب أصدره غوركي بعنوان – ( افكار في غير أوانها ) , والذي اعيد طبعه فقط بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , ولا يسمح المجال للتوقف عنده تفصيلا , ولكن من الضروري الاشارة هنا , ان غوركي قد تراجع عن تلك الافكار بعد محاولة اغتيال لينين , واعتذر له عندما زاره بعد المحاولة تلك , ولكن مع هذا , فقد ارتأت السلطة ان يسافر غوركي الى اوربا( للعلاج!) , ( وبعكسه سنرحّلك ..), كما قال له لينين مازحا...
1059 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع