الصراع الدائر بين الفكر الشمولي و ثقافة الديمقراطية في العراق الفدرالي
الفيلسوفة و المنظرة السياسية الألمانية هانا آرندت (1906 - 1975)، التي ساجلت الثورة والشمولية الكليانية بعمق متفرد في كتابيها "في الثورة" و"أصول التوتاليتارية" تقول بأن "الأفعال السياسية الحق لا تحتاج إلى تبرير، أما العنف فيوجب في أغلب الأحيان التبرير" و تضيف بأنه "لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الذي هو السلطة، وأنه يتعين علينا، لكي نفهم العنف على حقيقته أن نتفحص جذوره وطبيعته."
إذ من المعلوم بأن الحقيقة لا يمكن أن تكون أحادية. فهي الشيء الذي لا يكف عن التعدد والتنوع والإختلاف عن نفسه باختلاف الصور والنماذج والأنماط والمناهج أو اللغات و الإستعارات أو المعالجات و القراءات أو التوظيفات والإستثمارات أو الخطط والإستراتيجيات. فالحقيقة ليست سوی الإعتراف بحق الآخر و إقرار متبادل بالحقوق، مادام ليس ىإمكان الواحد أن يعمم رأيه علی الكل.
فما نلمسه اليوم في العراق هو قوة الدعاية السياسية للدولة الشمولية والتي تكمن في قدرتها الهائلة على قطع الصلة بين الجماهير والعالم الواقعي عبر إقامة عوالم متوهمة متسقة العناصر تنسجم مع عقائد الحزب النابعة من النظرة الأحادية. و هكذا تستمر الإنهيارات والكوارث و الفظائع و الإنتهاكات و تتجلی موجات العنف، التي هي دوماً وليدة التراكمات اللامعقولة التي تخفيها و تتركها تلك النظرة وراءها و تتسر علیها و تنتج الإنسانية بعدها هذه العنصرية التي تكتب و ترفع شعاراً في العقول والخطابات أو في المؤسسات و الأنظمة والتشكيلات، لتنجب كل هذا الحمق والجنون، وكل هذه الأخطاء و الخيبات و كل هذه الهوامش والفواحش.
علی السياسي أي كان مذهبه الفكري و مشربه الإيديولوجي الإعتراف بتساوي البشر رغم اختلافهم و السعي لإيجاد لغة جديدة للسياسة كعلاقة بين نظراء، بدلاً من العلاقة بين فاعل ومفعول به. فكل تغييب للاختلاف والتمايز يقود في النهاية إلى تفقير السياسة وانحدارها. السياسة إذن واحدة من المجالات الهامة للوجود الإنساني، من خلاله وفيه يمكن للواحد أن يعطي معنى لغربته الوجودية وغربة الآخرين الذين يشتركون معه فيها، بما يعني أنها مسؤولية بشكل أساسي.
و الإنسانية عرفت في عصور غابرة و في عصر الثورات الليبرالية أوضاع سليمة و هادئة نسبياً و شاهدت بروز المعنی الحقيقي للسياسة الكامن في التحاور والتواصل والتداول بعيداً عن الجواهر الأثيرية السلبية للحكومات الإستبدادية أو الطغيانية. الذي نراه هو أن الذهنية الشمولية تستخدم الحجج والمبادئ المؤسسة على الأيديولوجيا مكان الوقائع الحقيقية وهنا يسود منطق العبث على منطق العقل السليم و يحل الواقع المزيف الموهوم و المركب صنعياً مكان الواقع الفعلي القائم. وتسعى الشمولية من حيث المبدأ في تجفيف هذا الكم الهائل من الوقائع لكي تقضي على إمكانية الاتفاق بشأنها. كانت أنظمة التسلط والاستبداد تمعن على مر التاريخ في تفكيك البنى والروابط المجتمعية وتسعی في تدمير جميع الفئات الاجتماعية، ولا سيما المنتجة منها، لمصلحة أوليغارشية عسكرية تستأثر بقوة عمل الجميع.
"دولة القانون" برئيسه و هو رئيس مجلس للوزراء و قائد عام للقوات المسلحة و المسؤول الوحيد عن الأمن في العراق، بعد أن أخضع جميع المؤسسات العسكرية والأمينة والاستخباراتية مباشرة لسلطته، تسعی الی الإعتدال السياسي كوسيلة لمسح فروقات المجتمع العراقي وإذابة "الأمة العراقية" في بوتقة فكرية واحدة، أي إذابة الأفراد والمؤسسات والجماعات في كل اجتماعي واحد حيث الشعب والدولة والمجتمع المتجانس و هذا يعني بأن توجهات حزب الدعوة المقولبة في "دولة القانون" ستكون لها كلمة الفصل في التوجه العام للدولة والمجتمع.
الكوردستانيون قرروا المشاركة الفاعلة في النظام العراقي الجديد كطرف اساسي متساو في العملية السياسية. أما العداء لكوردستان و تجربته و إيجاد العدو الوهمي على حساب اشتراطات التنمية ودفع عجلة الاقتصاد نحو الأمام هو إنتاج لحالة سياسية لها مسبباتها و هو ما يراهن عليه المنطق الشمولي ليفتح جبهات سياسية أخری على طريقة التدخل السيادي للدول إقليمية بهدف تجييش الحالة السياسية، وبالتالي تراجع أي استحقاقات في الداخل.
وللأسف تفسر الديمقراطية من قبل الحزب الشمولي كأداة سحرية للدمج بين إرادة الشعب والحزب، كما أن ماكنة الإعلام واستغلال وسائل الاتصال من شأنهما إحكام القبضة على مصادر التلقي لدى الناس، وبالتالي فإن من السهل تصوير المعارضين لإرادة "الأمة – الحزب الواحد" كعملاء و خونة وأعداء الحرية والديمقراطية وفكرة إنهاض العراق المركزي.
أما الحريات الديمقراطية فهي تقوم على أساس المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون و لا يمكن لها أن تكسب معناها ووظيفتها العضوية إلا عندما ينتمي المواطنون إلى جماعات تمثلهم و ما الثقافة الديمقراطية إلا حق الجميع في النقد.
نحن نری بأن التعددية السياسية ليس بأكثر أهمية من التعددية الثقافية والاجتماعية. و لمنع إعادة "الدكتاتور الفرد" عبر "الدكتاتور الحزب" يجب توسيع مجال المسائلة والنقد و سحب الثقة في إطار القانون والدستور و حفاظ التنوع الثري والهائل الذي تحظی به المجتمع العراقي علی مستوی الثقافة والفنون و رعاية المكونات الاجتماعية والإثنية المختلفة بما تحمله من ثقافات وهويات صغيرة. لا نفع في حكام بـ"الوكالة" يقومون بقراءة المشهد العراقي وفق زاوية دينية لا علاقة لها بالسياسة، الذين يرون في صورة التطورات الجارية علی ساحات المنطقة تهديد للدول إقليمية المتمددة خارج حدودها. فإستبعاد العامل السياسي بعوامل طائفية أو قومية ذات شعارات دينية هي ترجمة خاطئة و ساذجة للأحداث. أن الذين يشتغلون علی تغيير مواد الدستور و الإنقلاب علی النظام الديمقراطي الفدرالي جر العراق نحو "العباءة الخمينية" لكي لا تتأهل المجتمعات العراقية لممارسة الديمقراطية و لا تنضج بنيتها و ثقافتها.
فبدلاً عن نسج علاقات صداقة ومصالح مشتركة متوازنة تخدم قضية السلم والتعايش القومي والعملية الديموقراطية وحل الخلافات العالقة بين الإقليم الكوردستاني والحكومة الإتحادية بشكل سلمي عن طريق الحوار البناء، تسعی الأخيرة في تقليص موقع الكوردستانيين ككتلة قومية ثانية الى جانب كتلة القومية العربية و تعمل علی إفشال التجربة الديمقراطية اليانعة في الاقليم الكوردستاني الفدرالي الآمن.
لقد دخلنا في عصر كوكبي من الإعتماد المتبادل و التأثير المتبادل، و هذا يعني إن كل من يسدي نفعاً في مكان ما ينفع الناس جميعاً، وبالعكس فكل من يلحق ضررا في مکان ما يضر الناس جميعاً.
و ختاماً نقول بأن إستراتيجية الرفض والإقصاء وعدم الإعتراف بالحق الكامل للآخر المختلف و وصفه بالمبتدع الضال والكافر المرتد و الخائن العميل و النكوص الی الوراء للمماهاة المستحيلة مع أفكار عقيمة و شعارات مستهلكة و تقسيمات فقيرة تولد الحروب و الاستبداد والعماء و تزعزع الإستقرار و تضرب المصالح علی نحو يحول الحياة الی جحيم بعيد عن مفردات الإختلاف والتعارف والوسطية والتداولية.
الدكتور سامان سوراني
732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع