كاظم فنجان الحمامي
يحكى أن شاهبندر تجار البصرة القبطان (عدنان) رحل كعادته بأسطوله المؤلف من خمس سفن شراعية, فقطع البحر بالطول والعرض قاصدا مرافئ السند والهند, وكانت له علاقات وطيدة مع تجار التوابل والبهارات في إقليم البنجاب, وله حظوة كبير في بلاط المهراجا دوليب سانغ.
شاهد ذات يوم يافطة معلقة على واجهة دكان صغير كتب عليها عبارة (مستعدون لبيع الكلام), فاستوقفته العبارة, وأغرته في ولوج المكان بحثا عمن يبيعه الكلام, فوجد نفسه أمام كاهن أنهكته الفلسفة, وشغلته الحكمة بعناوينها الإنسانية المثقلة بالهموم, سأله القبطان بلغة سنسكريتية متلعثمة: ماذا تبيع يا شيخ ؟. فأجابه الكاهن من دون أن ينظر إليه: نحن نبيع الحكمة لمن يبحث عن راحة البال, فقال له القبطان عدنان: وبكم تبيعها ؟. فأجابه الكاهن: على قدر ما تمتلكه من مال يا ولدي. .
قال له القبطان عدنان: سأشتري منك بألف روبية, فقال له الكاهن: هات نقودك, وخذ هذه الرقعة المطوية المصنوعة من جلد الغزال, ستجد فيها ثلاث كلمات فقط, ولا تفتحها إلا بعد عودتك إلى ديارك. .
خرج القبطان عدنان من دكان الكاهن وبيده المطوية, وقد دفعه الفضول لمعرفة ما بداخلها من كلمات, وما أن وصل إلى سفينته حتى فتحها, ليجد فيها العبارة التالية:
((النجاة في الصدق))
جلس القبطان عدنان فوق حبال سفينته, وهمهم مع نفسه, وكأنه يقول: إنها والله حكمة ثمينة لا يخفي بريقها اسوداد الدنيا كلها, وهل هناك أبسط من قول الصدق, قلها ولا تخف. فيها تنير وتستنير, وتريح وتستريح, وتساعد وتنجو, إما إذا كذبت وبانت كذبتك بعد حين, فستحمل لقب (كاذب), ويكفيك منه مذلة, فالكاذب لص يسرق من الناس الحقيقة, ومغتصب يغتصب منهم النور, وسارق الإبرة يسرق جملا, فالنجاة في الصدق, والممات في الكذب. .
ربما كان الفيلسوف والزعيم الهندي الكبير محيي الدين أحمد بن خير الدين, الملقب (أبو الكلام آزاد) من قبيلة ذلك الكاهن الذي كان يبيع الكلام, وربما أخذ كنيته (أبو الكلام) من براعته وبلاغته في صياغة مفردات الكلام, أما كلمة (آزاد) فتعني في اللغة الأوردية (الحر). .
ترأس (أبو الكلام آزاد) حزب المؤتمر الهندي عام 1923 خلفا للقيادي (محمد علي جوهر), وعرفه الناس بحلمه ووضوحه وصدقه في كلامه, فكان من رواد التحرر, ومن قادة الحركات الوطنية, وهو أول وزير للتربية والتعليم في عموم القارة الهندية قبل انقسامها وتفككها. .
إما عندنا في العراق فالمسألة مختلفة تماماً, فقد تسطحت لغة الكلام, وتمزقت وتبددت وتلاشت في سراب الوعود الكاذبة, حتى وصف الناس السياسيين الذين يتكلمون كثيراً, ولا يكفون عن إطلاق الوعود من دون أن ينفذوا منها شيئا بأنهم من باعة الكلام, وقد توسعت استعمالات هذا الاصطلاح في السنوات الأخيرة في التشكيلات المجتمعية, التي تشيع فيها المجاملة والمماطلة والمراوغة, والنفاق والمداهنة, فيصفونهم بأنهم بياعو كلام, وهو تعبير مجازي, لكنه تحول عندنا إلى حقيقة, وظهر علينا من اتخذ من بيع الكلام مهنة يعتاش منها, فسقطت الحواجز بين الحقيقة والمجاز في أسواق المزايدات الكلامية, ولعل من ابرز صور بيع الكلام تلك العبارات, التي كانت مكتوبة على ملصقات المرشحين للانتخابات المحلية, سواءً ما كان منها ذا معنى, وما كان منها فارغاً من أي معنى. .
انتهت قبل بضعة أيام أكبر المهرجانات التسويقية لبيع الكلام بالمجان, اشتركت فيها الكيانات السياسية والمهنية والاجتماعية والعشائرية, وتضافرت معهم المكاتب الإعلامية المتخصصة بإنتاج الكلام وتسويقه على شكل شعارات ثورية رنانة, وخطابات حماسية مدوية, وملصقات ملونة براقة. .
نأمل أن يتمسك الفائزون بسفينة الصدق, التي ستكتب لهم النجاة من الهلاك, ويلتزمون كلمتهم, ويوفون وعودهم, التي قطعوها لنا, فالنجاة في الصدق, وجل ما نخشاه أن يربح تجار الكلام ونخسر نحن جولة أخرى في حلبة الوعود الكلامية المتبخرة, ولعلنا لا نضيف شيئا إذا قلنا إننا نخشى أن نقع فريسة للذين يتقنون بيع الكلام, حتى وإن كان هذا الكلام فارغاً فاقداً لمعناه, فما أحوجنا اليوم إلى زعماء بمستوى (أبو الكلام آزاد), ذلك الرجل الصادق الذي تكلم بالحق, ورفع راية التحرير والتحرر, فسجل للقارة الهندية أروع انتصاراتها الساحقة ضد الفساد والجهل والتخلف, اللهم أنصر العراق وأهله . . .
والله يستر من الجايات
804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع