هيفاء زنگنة
ذوّبوا الليل يا أهل البصرة
عاد المتظاهرون، بمدينة البصرة في جنوب العراق، إلى الشوارع من جديد في الشهر ذاته تقريباً، كما في العام الماضي، كما لو كان سكان المدينة الغنية بالنفط، يستعيدون ذكرى تظاهراتهم واعتصاماتهم، التي لم تثمر شيئا في العام الماضي. عادوا، كما في الزيارة السنوية للأماكن المقدسة، وهم يحملون المطالب ذاتها: الخدمات الأساسية، كالتزود بالكهرباء والماء، خصوصاً مع ارتفاع درجات الحرارة التي قاربت خمسين درجة مئوية، وحق العمل. وأضيف إليها، هذه الأيام، مطلب إنصاف المتضررين من احتجاجات العام الماضي، ومحاسبة المتسببين. لا تخلو المظاهرات من أصوات منفردة تطالب بوضع حد لنفوذ الميليشيات المتحكم بحياة الناس أكثر من الحكومة.
كانت تظاهرات العام الماضي قد تأججت نهاية شهر حزيران/ يونيو، وواجهتها القوات الأمنية باستخدام الذخيرة الحية، وقتل متظاهرين سلميين، بالإضافة إلى تنفيذها حملة اعتقالات تعسفية وتعذيب المعتقلين. وصل عدد ضحايا الاحتجاجات إلى 13 قتيلاً ومئات الجرحى، واكتفى خلالها ساسة الحكومة بإطلاق التصريحات الهوائية والوعود الفارغة بحل المشاكل ووضع آليات عمل، وتشكيل لجان لمتابعة عمل لجان أخرى تم تشكيلها لتهدئة الغضب سابقاً، ورسم مسار إستراتيجي للنهوض بواقع الخدمات!
أصاب الصحافيين، خلال تغطيتهم الاحتجاجات وقضايا الفساد في العام الماضي، رشاش القمع؛ إذ قامت الأجهزة الأمنية، بين 14 تموز/يوليو و6 أيلول/سبتمبر 2018، بالاعتداء على سبعة صحافيين من جميع أنحاء العراق واعتقالهم، وتم إحراق مكاتب اثنين من وسائل الإعلام المحلية. وسجل تقرير للجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، حالات مغادرة أربعة صحافيين محافظة البصرة، بعد أن قامت الميليشيات المسيطرة هناك بتهديدهم بالقتل.
بالنسبة إلى الوضع الحالي لا يبدو، حتى الآن، أن هناك اختلافاً كبيراً، سواء في سيرورة التظاهرات أو الاستجابة الحكومية؛ إذ أعلن المتظاهرون أنهم سيستمرون حتى تحقيق المطالب، ووجهوا النداء إلى مختلف شرائح المجتمع للخروج معهم، في الأيام المقبلة. بينما شرعت القوات الأمنية بإطلاق التهديدات ضدهم وضد الصحافيين في حال تغطيتهم المظاهرات. بل واستبقت الأحداث باعتقال كادر قناة السومرية المكون من مراسلة ومصور أثناء تصويرهم التظاهرات قبل أيام. ولم يتم إطلاق سراحهما إلا بعد تدخل وزير الداخلية شخصياً، مما يثير التساؤلات حول سلامة الصحافيين المستقلين في حال رفض وزير الداخلي التدخل، في بلد معروف بغياب القضاء النزيه، وعمل الصحافي في بيئة مسيّسة تعتبر وسائل الإعلام أدوات سياسية قبل أي شيء آخر. وكانت السلطات قد حذرت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وسائل الإعلام من إظهار عدم احترامها «للرموز الوطنية أو الدينية»، ما يجعل الصحافي عرضة للاعتقال والسجن حالما يكتب عن أي سياسي أو معمم «يقدم نفسه» كرمز وطني، الأمر الذي يرسخ، بقوة، مكانة النظام العراقي بين بقية الأنظمة العربية المبدعة في ابتكار أساليب تكميم أفواه أبناء الشعب عموماً والصحافيين خصوصاً. إذ ترى في الصحافي المستقل أداة تخشاها أشد الخشية إن لم تتمكن من شرائه، إما بالمال والتهديد والابتزاز والاعتداء الجسدي، أو الاختطاف والقتل.
ضمن هذا المسار، وقف قائد عمليات البصرة، قاسم نزال، أمام الكاميرات ليحذر وسائل الإعلام، قائلاً: «إن الإعلامي الذي نلزمه بتظاهرة غير مرخصة راح ايكون بالتوقيف موجود إن شاء الله»، ما معناه، باللهجة العراقية، أنه تهديد صريح للصحافيين بالاعتقال وما يترتب عليه، في حال تغطية الصحافيين للتظاهرات في محافظة البصرة، حسب مرصد الحريات الصحافية، الذي دعا «القائد العام للقوات المسلحة» إلى تبيان موقفه من التهديد، الذي يعتبر «مخالفة واضحة لبنود الدستور العراقي» الذي جاء في مادته الـ(38): «تكفل الدولة حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة، بالإضافة إلى حرية الاجتماع والتظاهر السلمي».
من الواضح أن قائد عمليات البصرة ذا الرتبة العسكرية العالية لا يعتمد في عمله أو تصريحاته على احترام الدستور، بل على ترهيب وترويع المواطنين عموماً، ومنهم الصحافيون. ولا بد أنه -إما لغبائه المنسوج بالعنجهية أو لسذاجته- لم يسمع بوجود بدائل إعلامية بإمكان المتظاهرين اللجوء إليها في حال قيامه باعتقال الصحافيين. وهي بدائل أو أساليب تكمل ما هو موجود، توصلت إليها الشعوب لمناهضة القمع السلطوي المباشر. هناك، مثلاً، «صحافة المواطن» التي باتت منذ ما يزيد على العقد منافسة للصحافة التقليدية، أو مكملة لها، لتمتع ممارسيها بميزات قد لا تتاح للصحافي المحترف، خصوصاً إذا كان الصحافي عرضة للمراقبة والتهديد والمنع من ممارسة مهنته من قبل الأجهزة القمعية، كما هو حال الصحافيين المستقلين بالعراق مثلاً.
وشرعت «صحافة المواطن» الأبواب التي كانت مقتصرة على الإعلام التقليدي في نقل الأخبار وتحليلها. أما الآن فبإمكان كل مواطن يملك كاميرا أو هاتفاً جوالاً مزودا بكاميرا، أن ينقل الخبر إما بنفسه على صفحات التواصل الاجتماعي، «فيسبوك وتويتر وإنستغرام» وغيرها، بالصور والفيديو والمدونات والرسائل السريعة الناقلة للأخبار لحظة بلحظة، أو عبر التواصل المباشر مع أجهزة الإعلام التقليدية، وتزويدها بالصور والتعليقات والتحليل، أو تنبيهها إلى ما يجري من أحداث فور حصولها، كما لو كان المواطن مراسلاً من مكان الحدث. هذه الإمكانية المتوفرة للجميع ساعدت، في السنوات الأخيرة، على تغيير ميزان القوى بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وقللت إلى حد ما من وحشية الإجراءات القمعية التي تمارسها هذه القوات، في البلدان العربية، ضد المتظاهرين سلميا. كما ساعدت على استقطاب أفراد جدد إلى الحركات الناشطة المطالبة بالتغيير السلمي لأوضاع لم يعد بالإمكان السكوت عليها.
في العام الماضي، أدركت الحكومة خطر هذا الأسلوب عليها، فعمدت إلى قطع الإنترنت لمنع انتشار الصور والفيديوهات المصورة التي جرى التقاطها، سواء من قبل المواطنين أو الصحافيين، والتي تظهر قمع السلطات للتظاهرات السلمية. وهو تعتيم متعمد منح القوات الحكومية تفويضاً بالقمع دون خشية انتشار الأخبار. إلا أن المتظاهرين يعرفون جيداً أن قطع الإنترنت لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، ما يوفر لهم سلاحاً يضاف إلى بقية مستويات مقاومة الظلم والقمع والفساد، بشرط توخي المصداقية وألا يكونوا الوجه الآخر لعملية التزوير الحكومية.
671 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع