مثنى عبيدة
بوابات السنوات العجاف / للتاريخ والعبرة ح 15
غالباً ما توصف الآمال والطموحات بأنها بوابات للمستقبل المنشود الزاخر بالرفاه والتقدم والخير القادم الذي نتيجة لما سبقه من جهد ٍ وتضحية وبذلٍ وعطاء ، ولكن ليس كل البوابات مشرعة ومفتوحة للخير والسلام فهناك بوابات ُ نخشى أن نفتحها لأنها تخفي خلفها المجهول وما يتبعه من تدعيات وأحدث ٍ كبيرة نفضل ُ عدم التصادم معها ونترك الباب مغلقاً وبما أن مسيرة الحياة لا تجري وفقاً لأمانينا فقد فـُـتحت على العراق وأهله الكرام وعلى مصراعيها بوابات السنين العجاف .
الحصار ذلك الاسم الجديد الذي بداء العراقيون يتداولون بعد أحداث عام 1990 م وكانت أمهاتنا والعجائز وكبار السن يحدثوننا عن ما سمعوه ممن سبقهم عن كل حملات الحصار الذي تعرضت له مدن العراق في العهود والقرون السابقة وكيف أضطر الناس إلى أكل الحيوانات النافقة بعدما نفذ الطعام لديهم رغم كل ما خزنوه في بيوتهم أو مخازنهم وارتفاع سعر المواد الغذائية ورخص إلانسان نفسه ، كما أستحضر العراقيون أيام التموين في الأربعينيات وكيف توزع عليهم بطاقات لكي يحصلوا على طعامهم وغيرها من قصص حقيقية واقعية ولكنها كانت كلها لا تتوقع القادم من الأيام والسنين التي فاقت سنين يوسف عليه السلام عدداً وعدة .
في تلك الأيام بدأت العائلات العراقية الكريمة أصلاً وخلقاً تتعامل بأسلوب لم تعتاده خصوصاً من تربى بعد الخمسينيات من القرن الماضي ، الدولة اتخذت أجراءتها بتنظيم الحصول على المواد الغذائية من خلال البطاقة التموينية التي وزعت على الجميع وهنا بدأت ظاهرة جديدة هي التقنين اللازم للعائلة من أجل أن تكفيها مواد الحصة التموينية لبقية أيام الشهر .
كنت ُ وقتها اجلس مع أخي سعد وأخوتي رعاهم الله في محل المواد الغذائية الذي يديرونه وكانت مهمتي تنحصر بأن تـُفرش لي سجادة على الرصيف أو الكراسي لكي أقوم بترتيب الأسماء وحسب تسلسل القادمين لتسلم موادهم التموينية وكنت أتجاذب أطراف الحديث مع أخواتي وأخوتي العراقيون ونحن نستذكر أيام خوالي كان فيها الخير وكل ما لذ من طعام ٍ وغذاءً متوفر في البيوت ونتحسر على تلك الأيام طبعاً مع ما يصاحبها من كلام ٍ مبطنٍ وعلني أحياناً عن السبب والمسبب في كل هذا العناء . وكانت أمهات البيوت تعاني الواحدة منهن أشد المعاناة حينما يباشرن بإعداد الخبز للعائلة ومعروف الخبز العراقي بنكهته المميزة وهو يخرج من فوهة التنور الحار أما الآن فقد كان الطحين الأسمر أو الأصح الأسود والذي يسيل حينما تعجنه ويقع نصفه بالتنور وكان مخلوطاً بكل ما يخطر على البال من حبوبٍ ورملٍ وحب عين الشمس ونوى التمر وحتى الزجاج الذي تستشعر وجوده وأنت تلوك الخبز في فمك وكنا نضحك أحياناً على هذا الأمر ونقول ألان في بطوننا ( قطعة أسمنت ) مع ما يصاحبها من مشاكل صحية ونظراً للحب الكبير للخبز والثريد لدى أهل العراق فقد كنتَ تلاحظ كيف أن الخبز تحول إلى قطعة سوداء تنفر منها العين والروح ( حاشا لنعمة الله ) ، ومع هذا تحرص الأمهات على الاحتفاظ بالخبز في مكان ٍ آمن من غارات الأطفال الجياع أما البيض وبقية أنواع الجبنة وأنواع الفطور العراقي فقد أصبحت في خبر وكان يتقدمها الغائب العزيز القيمر الذي أصبح تذوقه حلماً بعيد المنال عن الفقراء وغالبية أبناء العراق وكانت الأم العراقية الشريفة الصابرة تقوم بإعداد الكباب ( كباب الطاوة ) من البطاط و الباذنجان والذي بسبب كثرته واستخدامه في كل وجبة أطلق عليه العراقيون أسم ( وحش الطاوه ) وكم كان يؤلمني منظر العمال الذاهبون لإعمالهم وهو يحملون قطعة الخبز صعبة الهضم والأكل وفيها قطع الباذنجان وهو مغطاة بالدهان ويتناولونها وهي باردة في منتصف النهار بعدما مضى على إعدادها أكثر من ست ساعات ولكل منصف عليه أن يتخيل هذه الصورة .
أما اللحم والدجاج فقد أصبحت العائلة العراقية تجلبهما في المناسبات الدينية والوطنية حيث توزع الدجاجة الواحدة على جميع أفراد العائلة وتبقى الأم والأب ينظرون وأختفت الحلويات من عالم الأطفال ليحل محلها حلويات بالتمر فترى النستلة والبسكت محشوة بالتمر ولم يعد الأطفال يعرفون الموز ولا علب المشروبات الغازية وبدأت تنشر ظاهرة المعاد من البلاستك وغيرها من مواد ٍ وغيرها الكثير الكثير وهكذا سارت أيام السنين الأولى من ( الحصار الظالم المفروض على قطرنا المناضل) وهذا هو التوصيف الرسمي والإعلامي لتلك الأيام .
كانت الناس تتساءل بعدما سمعت بالإخبار عن مشروع النفط مقابل الغذاء لماذا لا تعجل حكومتنا بالموافقة عليه وتـُسهم في تخفيف أزمتنا الخانقة ؟
طبعاً بدأت تتفاقم المشاكل الاجتماعية في البيوت نتيجة عدم القدرة المادية لرب الأسرة على توفير احتياجاتها الضرورية واليومية وأنطلق الأبناء يعملون بشتى المهن لغرض جلب المال وتراجع دور الأب ليحل محله دور من بيده المال ورأينا المعلم يعمل في مهن ٍ لا تتلأئم مع وضعه التربوي ولا الصورة التي في أذهاننا عن المعلم الأنيق حيث لم يعد يكفيه راتبه وهو قرابة الدولار أو الدولارين لنفقات النقل وانتشرت ظاهرة بيع الملابس القديمة والمستخدمة والقادمة من مختلف أصقاع المعمورة ( البالات ) والتي سترت أجساد العراقيين وتحديداً الفقراء منهم وكان أصعب مشهد علي نفسي ونفس كل عراقي شريف أن نرى العراقية الشريفة والتي أعتذر منها لكتابة هذه الكلمات أرها وهي تقف لكي تشتري ملابس داخلية مستخدمة ولا تعرف من أستخدمها وهل هي حرة أم بغي في دول الغرب الذي نحاربه وهو موجود في بيوتنا بكل تجهيزاته واليوم وأنا في ديار الاغتراب أشعر بكل مشاعر الغضب والألم من جراء ذلك المشهد نعم وقفت العراقية الحرة وهي تتوسل بالبائع لكي تشتري للأطفال ملابس يفرحوا بها في يوم العيد وهم الأحرار الاصلاء الذين لا يعرفون لماذا يلبسون ملابس مستخدمة وقد تكون مقطعة ؟ ولا أدري من يجيبهم على أسئلتهم الحائرة ؟ والله لا أنسى مشهد جرت وقائعه أمامي حيث جاء فتى يتيم وأبن شهيد ليتسلم المواد التموينية وبعد أن حصل عيها سقط من يديه وفي منتصف الطريق كيس الرز وهنا جاءت أمه وهي أخت عراقية مثقفة وكانت مطمح للشباب بالزواج منها للسمعة الطيبة فهلها ولها ولشخصيتها الطيبة جاءت هذه الأرملة وشاهدت الرز على الأرض مختلطاً بالحصى والتراب فما كان منها إلا أن مسكت ابنها وانهالت عليه ضربا وهي تبكي وتصرخ فيها مفجرة ألامها وحسرتها على عمرها الضائع وخيبتها ومرارتها وكادت تفتك بالطفل في فورة غضبها لولا تدخل النسوة وأمي معه وهم يهدئون من روعها وقد سقطت مغشياً عليها من شدة انفعالها الذي جاء سقوط الرز ليُسقط صبرها ويفقدها توازنها .
شاهدت عراقيين يبيعون الأبواب والشبابيك من داخل بيوتهم لكي يوفرُ لقمة لأولادهم أو المصروف اليومي رأيتُ عراقيين أصلاء ويحملون رتباً عسكرية عاليةً أو شهادات علمية كبيرة وهم يعملون في مهن ٍ لا تتناسب أبداءً مع وضعهم الاجتماعي وكانوا يخفون وجوههم عن من يعرفهم سابقاً .
بداء الفساد الإداري المسستر يضرب أبواب الدوائر والمؤسسات الرسمية وأصبح الحصول على السكائر الأجنبية أو المحلية الفاخرة خير هدية تقدمها للموظف أو لفمة كص أو دجاجة لكي تسير معاملتك بشكل طبيعي .
في هذه الإثناء انفتحت شهية القائمين على الحكم ببناء القصور التي تسمى القصور الرئاسية وكان العراقيون يعملون فيها بأجور تكاد تسد الرمق متحملين المخاطر الكبيرة والاهانات التي تلحقهم من عناصر الأمن الذين كانوا لا يتورعون عن ضرب وإهانة أي رجل بكل قسوة ووحشية متناسين أنه عراقي مثلهم وهو أكيد أفضل منهم لأنه دافع عن العراق أرضاً وتراباً أما هم عن ماذا دافعوا ويدافعون وأذكر جارنا الذي وقع أثناء العمل من مكان ٍ مرتفعٍ وتوفي على أثره ولم يتم دفع راتب تقاعدي لعائلته لأنه كان عامل بأجور يومية ( أي بالسخرة اليومية ) التي لا تستوجب أي حقوق له ولغيره من خيرة أبناء العراق الذين اضطروا للعمل هناك لكون كل مرافق العمل قد توقفت تقريباً مما جعل الجميع يحاول الحصول على عمل في تلك الأماكن رغم علمه بكل ما ينتظره من طوابير التفتيش الصباحية والعمل الشاق والخوف والذل والمهانة أن وُجد مسترخياً من العناء والتعب أما أذا أرتكب خطيئة كبيرة ومد يده إلى أن يأكل من شجرة تفاح أو برتقالة ألتقطها من الأرض فهذا ينتظره يوماً أسودا ، كان السؤال الكبير يتم طرحه لماذا نحن محاصرون في خبزتنا ولقمتنا وهذه القصور والمزارع والترف يسود في عالم الكبار الحاكمين باسم النضال والقومية والاشتراكية ؟ أليس هم أولى الناس بضرب المثل على أمكانية تحقيق المبادئ على الأرض وهي هي الفرصة سانحة لهم لكي يبرهنوا على ذلك ؟ بعد 2003 م قالت لي عجوز مثلاً عراقياً قديماً وهي تصف ما جرى ( يا حارم عيالك مسلط الله على مالك )
نعم لم يقتنع العراقي بان نقول له بأنها قصور سيادية وهي تمثل البلد للزائر الذي لم يأتي نعم كيف يقتنع من يسكن بيوت الصفيح ولا يجد ما يأكله ولا حليباً لأطفاله كيف أقنعه ؟ ثم لماذا لم يتم توجيه تلك الطاقات والقدرات والثروات إلى بناء مساكن للفقراء والمحتاجين ؟ وكنت أسال أصدقاء لي يعملون هناك أقول بالله عليكم لو جاءكم الأمر بان تبنون مدرسة أو بيت أو أي مكان للخدمة العامة هل ستعملون بنفس الطاقة والقدرة والإبداع ؟ كانوا يقولون نعم والله نحن نتمى ذلك ولكن ؟؟؟؟؟؟؟
كنت أسمع وأشاهد أخوتي وأبناء محلتي والكثير من العراقيون يتحدثون عن الكثير مما يعتمر في صدورهم وقلوبهم وأرواحهم وهم يذرفون الدموع على العراق هذا الوطن الذي دافعوا عنه وقدموا أرواحهم لأجله .
نعم كانت سنين صعبة قاسية مرة جداً جداً على أهل العراق ونحن من ضمنهم نحن المعاقون الذين بات الحصول على ضماد طبي يتطلب إجراءات معقدة كنت قد سبقتها بتحمل أجور نقل هي فوق طاقتك لتنهي الرحلة بحصولك على بضعة قطع ٍ من القطن الطبي لا تكفيك لمدة يومين لعلاج جروحك أما الحصول على عكاز أو كرسي متحرك فالأمر أمسى صعباُ للغاية ومع سوء الأوضاع الخدمية بالمستشفيات والمراكز التاهيلية وبداية نزوح وهروب الكوادر العملية والطبية أخذ القطاع الصحي برمته بالتراجع أسوة بحال القطاع التعليمي وبقية مرافق الدولة إلا بعض مراكزها التي كانت تسير وفق ما خطط لها أو ما خطط للقائمين عليها .
لقد شعر المعاقون وقتها وكذلك كبار السن وغيرهم من الضعاف جسدياً بل وحتى الشباب منهم بأننا أمسينا عالة على ذوينا وعائلاتنا وإننا لا نستطيع أن نرهقهم بمتطلباتنا الصحية والإنسانية ويكفي أن أقول بان ظاهرة عدم الزواج للشباب والفتيات بدأت تكبر وتتسع في تلك السنين والكل يقول كيف أتزوج وراتبي لا يكفينا شخصياً وكان الله في عون الشابات المتعلمات والمثقفات اللواتي وجدن أنفسهن على هامش الحياة وأذكر وقتها انتشار ظاهرة تأجير بدلات الإعراس وهي ظاهرة غريبة جداً عن المجتمع العراقي حيث كانت أمهاتنا يذكرن أيام زواجهن وتقوم أحداهن لتخرج بدلة عرسها وتحتفظ بها لكي تسلمها إلى أبنتها أو تعمل منها بدلات لأحفادها ، كما انتشرت غرف للزواج يتم أنتاجها من صناديق الشاي وغيرها بل كان البعض يتزوج بغرفة أبيه أو أخيه ، لقد سلبت تلك السنين الفرحة وأبدلتها بالحزن المخيم على الرؤوس وافتقدنا صحتنا وزهو شبابنا بل كان العراقي يفقد أسنانه الواحد بعد الأخر لعدم تمكنه من الذهاب للطبيب الخاص ليعالج أسنانه فكان يختار الحل الأسهل أقلعها أيها الطبيب فلن يقف الأمرعليها.
كما شهدت تلك السنين بدايات الهجرة والرحيل عن الوطن وبمختلف الطرق وأذكرُ يوم رحل أصدقائي ( أزاد ، مثنى ، علي ) ذهبت لكي أودعهم وقد قلت لهم أرجوكم لا تنسوا العراق فتعجبوا من كلامي وهم الذين يريدون مغادرة هذا العراق كما أنهم يعرفون رأي بالأوضاع السائدة وقتها وأردفت حديثي فقلت لهم العراق هو الباقي بإذن الله تعالى وكل من فوقه راحلون فلا تنسوا أصلكم وفخركم العراق بسبب ما يعانيه ونعانيه لأنه الوطن الذي فيه عظام أهلنا وأصلنا وعليها نبني مستقبلنا .
مشاهد وصور كثيرة تختزنها ذاكرة كل عراقي أصيل عاش تلك الأيام السوداء وأرجوكم لا تقولوا هذا حديث سياسي أنما حديثي هذا حديث عراقي عاش أسوة بالعراقيين تلك الوقائع ولم يعد يجدي نفعاً أن نخفي رؤوسنا بالرمال ، فقد فــُتحت على العراقيين بوابات السنوات العجاف ولا يعلم إلا الله عز وجل متى ستــُغلق تلك البوابات ...
للحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى
966 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع