إبراهيم الزبيدي
يوم 06 أغسطس/ آب 2011 كتبت مقالا بعنوان: طائرات السيد المالكي المتطورة، لمقاتلة من؟ قلت فيه إنه سؤال مشروع، فهذه ألــ 36 طائرة إف 16 الأمريكية المتطورة المقاتلة (غير الدفاعية) التي بشرنا نوري المالكي بعزمه على اقتنائها، لقتال من؟ إيران، أم تركيا، أم سوريا، أم السعودية، أم الكويت، أم الأردن؟ أم هي لتحرير الجولان ومزارع شبعا وفلسطين؟؟.
وقبل الإجابة على هذا السؤال طرحت هذه الأسئلة:
هل لدينا دولة قائمة واضحة الحدود والمقاييس والسياسة والنظام، كأية دولة أخرى من دول البشر التي تحترم نفسها وشعبها؟ وهل لدينا حكومة واحدة تدرك أنها موكلة من شعبها، كل شعبها وليس بعضه، من أجل إدارة أموره لفترة محددة عابرة فتخضع لمراقبته ومساءلته في كل قراراتها وإجراءاتها؟، وهل يشارك وزراؤها في رسم شخصيتها وسياستها وأهدافها، وهم متفقون على تنفيذ برامجها وسياساتها، بحق؟ وهل لدينا جيش موحد مهني مستقل عن الأحزاب والتيارات والعشائر والمرجعيات والمليشيات، ومتفرغ لمهمته الوحيدة، ومنشغل بتدريباته في معسكراته، وجاهز للدفاع عن الوطن ساعة الضرورة؟ وهل هو قادر فعلا على أن يطلق رصاصة واحدة، إذا ما أراد أن يصد جيشا غازيا جاءنا من شرق الوطن أو من غربه أو جنوبه أو شماله؟ وهل يملك سلاحا لمهمة وطنية خطيرة من هذا النوع؟
إن المالكي لم يخطيء من البداية حين احتضن الجيش وقام بإنشاء قوات وألوية جديدة خالصة الولاء له ولحزبه ولإيران، وجهزه بأنواع الأسلحة المتطورة الأمريكية والبريطانية والألمانية، وأخيرا الروسية والصينية أيضا. فأحسن اختيار القادة الكبار من الشاطرين في نقل البنادق من كتف إلى كتف، حسب المصلحة والمنفعة، والذين تصيدهم من بقايا البعث، وبالذات من العسكريين البعثيين الذين دخلوا في خدمة صدام حسين بدافع الانتهازية الخالصة، من باب تقبيل اليد التي لا يستطيعون كسرها.
بعبارة أخرى، إن أغلب قادة الفرق والألوية والأسلحة المتخصصة، جوية وبحرية مدفعية ومشاة، من خامة عدنان الأسدي وطارق حرب ومدحت المحمود.
وجيش طائفي، بالمطلق، يرقص جنوده وضباطه (الجوبي) في ساحة العرضات، لا يمكن أن يكون جيشا مهنيا وطنيا حقيقيا لحماية العراقيين.
وبلا تردد يمكن القول إنه جيش حزب الدعوة الذي أعد لمهمة لا تختلف كثيرا عن مهمة جيش بشار الأسد. فحاكم من نوع بشار أو نوري المالكي لا يمكن أن يجنح لسلم مع مواطنيه، لأنه مسكون بسرطان العظمة ولا يحتمل أدنى معارضة.
وما حدث في الفلوجة، وما كان سيحدث في كركوك والمناطق المختلف عليها مع الكورد، مرات عديدة، هو المهمة الحقيقية التي أعد جيش المالكي من أجلها، مع سبق الإصرار والترصد.
ولكن الذي يثير الشفقة أن يخرج المعتصمون ببيان يطالب المالكي (بحقن الدماء ورفع الحصار عن المتجمهرين في ساحات الاعتصام، لأنهم يتطلعون لحقهم المشروع في حياة أفضل) ويناشد (المجتمع الدولي التدخل لنصرة شعب مظلوم يريد التخلص، بسلام، من حاكم ظالم مستبد يُحضر لمجزرة)، ويطلب من (الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي والقادة والشعوب في العالم التحرك والوقوف مع المظلومين في العراق، والضرب على يد الظالم قبل فوات الاوان، وقبل أن ينزلق العراق في الفوضى والحرب الاهلية) .
إذن فانتظروا بعثات نبيل العربي للتحقق وجمع الأدلة والبراهين، واستعدوا لمهمة إبراهيمي آخر أو كوفي عنان، وتهيأوا لمطالب المجتمع الدولي بتوحيد صفوفكم، وجهزوا ضماناتكم لعدم وقوع سلاحكم بأيدي المتطرفين من رفاقكم.
فإذا لم يكن بيان المعتصمين سياسة (الخطوة خطوة) في التصعيد لإيصال المواجهة بين سنة العراق وشيعته إلى حالة الانفجار، وإذا لم تكن هذه خطة (مقصودة) لفصل المحافظات السنية وإعلان استقلالها، فلن يكون سوى سذاجة سياسية لا تليق بأصحابها.
فالأمل بتوبة المالكي وعودته إلى روح المشاركة النزيهة العادلة أو بأمر منه يقضي بحقن دماء خصومه (الأشقياء المشاكسين) إنما هو عشم إبليس بالجنة. فثقافة الاعتذار والتراجع والاعتراف بالخطأ غير متوفرة لدى هذا النوع من البشر. فهو نشأ وترعرع على أساس أن الاعتذار خدش للرجولة وثلم للكرامة. أما الحلم بتدخل المجتمع الدولي، وبالتحديد تدخل الولايات المتحدة وأوربا وإسرائيل، لمنع اندلاع الحريق فليس أكثر من حلم عابر من أحلام العصافير.
فالذي حدث في الحويجة هو المطلوب، وهو ذاته المقرر للرمادي والموصل وسامراء وكركوك. وإذا ما حدث غير هذا فأنا لست أفهم في السياسة إلا بمقادر ما يفهم إينشتاين في طبخ تشريب اللحم العراقي.
إن المخطط والمرسوم والمطلوب من نوري المالكي، في هذه المرحلة من لعبة الأمم ودولة الولي الفقيه، أن يشعل النار في العراق، لمشاغلة تركيا والسعودية والأردن، وتخفيف حماسها وضغوطها واهتمامها بسوريا. وليس أنسب لطموحه في الهيمنة الكاملة على الوطن كله من هذا الزمن العصيب الذي تمر به المنطقة، مع انشغال الدول الفاعلة بما لا يعد ولا يحصى من الهموم. فهي، والحالة هذه، معركة المصير التي لا بد أن يخوضها. فعلى نتائجها سوف يكون أو لا يكون.
ولابد أن نعتبر بصدام. فهو لم يصبح ديكتاتورا من أول أيام دخوله القصرَ الجمهوري مساعدا لابن عمومته أحمد حسن البكر، بل بدأ مسيرته السلطوية بوداعة ورقة ونعومة، مكتفيا، في أيامه الأولى، بالتواري وراء (الأب القائد)، مُخفيا شهوته الكاسحة للتفرد بالسلطة وراء ابتسامة هادئة وروح سمحة متواضعة وشعار سلطة القانون وعطف كبير على الفقراء والبسطاء، يستقبلهم في مكتبه، ويفتح لهم هواتفه، ويأمر بتلبية مطالبهم على الفور، ويرفع عنهم ظلم رفاقه الآخرين، ويزورهم في منازلهم، يفتح ثلاجاتهم، ويأكل من زادهم، ويشرب من مائهم، على شاشات التلفزيون.
ولم تنبت أظافرُه الجارحة وأنيابُه الذابحة إلا بعد أن بسط يديه، تماما ونهائيا، على جهاز المخابرات والأمن والجيش، واستكمل فيها زراعة أتباعٍ مخلصين لحد الموت، لا للحزب، ولا للنظام، ولا للأب القائد، بل لشخصه، هو، دون سواه.
ومن المخابرات وبالمخابرات راح يمد أذرعه الطويلة ليلتهم المؤسسات المهمة والحيوية الأخرى التي تجعل من يملك زمامها ينشر عباءته على الدولة كلها، دون منازع، ويُساقط قادتها المناوئين لسلطته، بمختلف الذرائع والتهم والأساليب.
وأخيرا، حين أكمل طوقه حول رقبة الأب القائد، رماه خارج القصر الجمهوري، بغتة، ليموت بعد ذلك بقليل، مدشنا عهده المجيد بحفلة قاعة الخلد الشهيرة التي أعدم فيها جميع مناوئيه في القيادة، فأراح واستراح.
وأسالكم بالله، ألم يذكركم نوري المالكي بذلك الزمن المرير؟. صحيح أنه أصغر من صدام حسين بمقدار ما بين الأرض والسماء، خصوصا في المرجلة والمصارحة والمكاشفة، لكن أحلامه الديكتاتورية أصبحت ممكنة التحقق في وضع العراق الجديد. ولكن لأن المرجعية ومجلس عمار الحكيم وجيوش مقتدى الصدر ومحافظات السنة المشاغبة وحظوة الكورد لدى واشنطن تعيق نزعته المكبوتة نحو الاستبداد والتفرد بالقرار، فقد عمد، في هذه أيضا، إلى تقليد سلفه صدام، فتحالف مع هذا ليمحو ذاك، وصادق (س) ليبطش بـ (ص)، إلى أن وضع الدولة كلها في قبضته، ليجبر الناس أخيرا على قبول الأمر الواقع الذي لا فكاك من قبوله.
وبصفته القائد العام للقوات المسلحة أقدم على استبدال قادة في الجيش بقادة جدد عينهم بنفسه، وأخضع مراكز القيادة الإقليمية لسيطرته، وتحرك للهيمنة على أجهزة المخابرات، واستخدم، مرارا، قوات لواء بغداد التي تتلقى أوامرها مباشرة من مكتبه، ضد خصومه السياسيين.
وقد اتهمته منظمة العفو الدولية ومنظمة (هيومن رايتس ووتش) بإدارة سجون سرية كان يتعرض فيها المتهمون السنة للتعذيب. وامتدت يداه شيئا فشيئا إلى الهيئات التي يُفترض أنها مستقلة عن السلطة التنفيذية، ومن بينها هيئة النزاهة التي أنشئت للتحقيق في الفساد، وهيئة دعاوى المِلكية التي تُحكم في المنازعات على الأراضي، فطردَ مديرين عينهم البرلمان، واستبدلهم بآخرين موالين له، من دون الحصول على موافقة من أحد.
والمالكي المهيمن على المحكمة الاتحادية العليا يستخدمها ببراعة لـ (قوننة) و(شرعنة) أسلحته التي تلزمه في معاركه مع شركائه المشاكسين.
ببساطة ووضوح، إن ما حدث في الحويجة مقدمة لحوادث أخرى أدهى وأمر. وبمراجعة الدلائل والمظاهر والعوامل الظاهرة والمبطنة يمكن أن نتكهن بأن (السنة) لا يملكون القدرة على التراجع ولا التسامح وقبول الصمت الذليل. كما أن المالكي لا يستطيع أن يصبح رجل دولة بعد كل الذي حدث. ولأن العصبية الطائفية تتصاعد في النفوس في الجبهتين، ومع مهارة النافخين في نار الحقد الموقدة لن تتوقف المكاسرة عند حود الحويجة، ولن تكون النتيجة بأقل مما حدث في درعا قبل عامين، إلا إذا قلب نوري المالكي الدنيا على أهلها فأراح واستراح، ولكن هذا أيضا ليس بالأمر المتاح.
سؤال أخير هل يتعض السياسيون العراقيون بالمأزق الخانق الذي بلغه الحكم والمعارضة معا في سوريا الشقيقة، فيمنعون خراب البلاد وتذبيح العباد؟
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع