أمير الحلو
اعتراضات المراجع في الخمسينيات على الاعتقالات تجبر الحكومة على سحب الشرطة من الشوارع
النجف ملتقى تنظيمات قومية ويسارية ودينية سرية
عايشت التيار القومي في العراق لعقود عدة ولا أزال مؤمنا به، وكانت علاقتي به قد بدأت عام 1954 عندما كنت طالباً في المدرسة المتوسطة، وكان جزء من لهونا الذهاب الى مقبرة النجف حيث توجد منطقة فارغة قرب السور وأعتقد أنها توسعت أكثر، بسبب القتل والاعدام الجماعي والفردي والحروب، وكنا نلعب كرة القدم من خلال فريق من الصبيان وأسمينــــــــاه مبـــــــكراً بـــــــــاسم فريـــــــــق الوحدة العربية ، وقد لاحظنا أن لقاءات كانت تجري بالقرب منا يحضرها السادة الشيخ أحمد عبد الكريم الجزائري وأحمد الحبوبي ومحسن البهادلي وغيرهم، وكنا نذهب أحياناً للاستماع الى الحوارات التي تجري حول أوضاع الوطن وطرح شعارات قومية عربية تدعو الى الوحدة العربية، وقد استهوتنا هذه الافكار نظراً لعيشنا في بيئة عروبية وصعود نجم الثورة المصرية وقائدها جمال عبد الناصر، وقد وجدنا رعاية من القيادات القومية التي دعتنا الى الانضمام لمنظمة الشباب القومي العربي التابعة لحزب الاستقلال برئاسة الشيخ محمد مهدي كبة والمرحوم فائق السامرائي وغيرهما. وبالفعل جرى تقسيمنا الى حلقات وحُدد لنا مسؤول يجتمع بنا أسبوعياً وكان أول مسؤول لي هو السيد حسين كمونة المعلم، ولكننا كنا نجتمع أيضاً إلى الشيخ أحمد الجزائري سواء في فضاء المقبرة، أو في غرفته في مدرسة والده العالم الجليل والشاعر الشيخ عبد الكريم الجزائري، والطريف أن هذه المدرسة الدينية التي يسكنها ويدرس فيها طلبة العلوم الدينية كانت تشهد اجتماعات قوى متناقضة، فعلاوة على غرقتنا القومية كانت هناك غرفة يجتمع بها الشيوعيون كما أخبرني الاستاذ زهير الجزائري وأخرى يجتمع بها أعضاء تنظيم اسلامي يرأسه الشيخ عز الدين الجزائري، لذلك فإنها كانت مدرسة دينية يتخرج منها السياسيون بشكل غير معلن، وقد أستطعنا بفضل نشاطنا وإندفاعنا أن نزيد من عدد المنتظمين في منظمة الشباب القومي العربي، وكان المنافسون الحقيقيون لنا هم الشيوعيون الذين لهم تأريخ طويل في النجف وخرجت منها قيادات شيعية بارزة كالمرحوم حسين الشبيبي الذي أعدم مع فهد، وكذلك سلام عادل حسين الرضوي مسؤول الحزب الشيوعي في العراق والمرحوم حسن عوينه الذي أعدم عام 1963، ولم تكن هناك لجنة مركزية شيوعية تخلو من عناصر قيادية من النجف مثل المرحوم د. رحيم عجينه وحسين الرفيعي، وقد شهدت التظاهرات التي قادها الحزب ضد حكومة نور الدين محمود وكان في مقدمتها ورافع علمها الشهيد محمد موسى وحامد عجينة ولكنني أسجل و على مسؤوليتي إننا وبعد العدوان الاسرائيلي الفرنسي البريطاني على مصر عام 1956 تسلمنا زمام المبادرة فعلى الرغم من وجود تنسيق وإعلام للقوى الاخرى بنشاطنا القادم، إلاّ أننا قمنا بقيادة التظاهرات والاضرابات التي عمّت النجف، وفي احداها أطلقت الشرطة الرصاص على طلاب متوسطتي الخورنق والسدير وسقط منا طالبان هما الشهيد عبد الحسين الشيخ راضي وأحمد الدجيلي، ولكن تظاهراتنا استمرت خصوصاً في السوق الكبير والساحة القريبة من مرقد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، وكانت التعليمات تصدر لنا من القيادة المحلية فنقوم بتنظيم التظاهرات الصاخبة، وهنا أعيد الزعم بـ أننا كنا بعملية التخطيط والتنفيذ، وبعد أن اعترض رجال الدين على عمليات القتل التي تمارسها الشرطة قامت الحكومة بسحبها صباحاً وأرسلت فوجاً عسكرياً الى المدينة بقيادة عبد الوهاب الشواف ولكن المفارقة أن الشرطة السرّية كانت تظهر مساء لالقاء القبض على المشاغبين ولم يكن أمامنا سوى اللجوء الى مقبرة النجف التي لم تكن الشرطة تجرؤ على الدخول اليها ليلا، واستمرت التظاهرات التي عمّت أنحاء العراق وجرى إعدام شهيدين شيوعيين في منطقة بدرة بمحافظة الكوت.
بعد هذه الاحداث زادت سمعتنا وقدرتنا على التنظيم وضم أعضاء جدد كما كانت لدينا مكتبة باسم مكتبة الشباب القومي العربي وجرى إغلاقها لاحقاً، ولكن ما أن انتقلنا الى مرحلة الثانوية حتى توسّع تنظيمنا وأصبح أكثر انضباطاً والاجتماعات تعقد بشكل اسبوعي منتظم وندفع اشتراكاً قد لا يتجاوز العشرة فلوس أو الدرهم شهرياً، وقد تعزز النشاط بوجود الجبهة الوطنية التي ضمت حزب الاستقلال والحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي، ومعظم قيادات هذه الاحزاب من الشخصيات الوطنية المناضلة والمعروفة، ومن الجانب الآخر كانت منظمة الضباط الاحرار تعمل من جانبها لاسقاط النظام بانقلاب عسكري مع وجود بعض العلاقات لها مع قيادة الجبهة الوطنية، وقد ذكر المرحوم محمد حديد في مذكراته أنه جرى تكليفه من قبل القيادة العسكرية بالسفر الى القاهرة وإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر بوجود هذا التحرك الشعبي والعسكري لقلب النظام، ولا أدعي هنا أننا كنا نعلم بتأريخ قيام الثورة العسكرية مع توقعنا لها، ولكننا سارعنا الى الخروج بتظاهرات صاخبة حال سماعنا البيان الأول للثورة وشارك بذلك الجميع إذ لم تكن هناك شعارات وحدة أو اتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، مع قيام عبد الناصر بقطع رحلته في يوغسلافيا حيث اتصل من جـزيرة بريوني مع تيتو رئيس يوغسلافيا بالقيادة السوفييتية وطلب دعمها للثورة وعاد الى القاهرة.
لا أريد هنا تكرار قضيتين على أهميتهما وذلك لأني وغيري كتبنا عنهما بالتفصيل، الاولى بروز الصراعات بين الشيوعيين والديمقراطيين من جهة وأحزاب وتنظيمات التيار القومي العربي من جهة أخرى حول موضوع تحديد شكل العلاقة مع الجمهورية العربية المتحدة رغم أن هذا الموضوع سابق لأوانه في الوقت الذي كان فيه العراق يحتاج الى الاستقرار وتثبيت موقفه وموقعه وعلاقاته ولكن المآسي التي رافقت تلك الصراعات العبثية تجعلنا لا نغوص في تفاصيلها وتحديد المسؤولية التي أعتقد ان جميع القوى تتحملها سواء بطرحها أو بصيرورتها سبباً لصراعات وصلت الى الدرجة الدموية من خلال متاهة كانت تعيشها القوى السياسية وارتباطاتها الخارجية.
أما الموضوع الآخر فيخص الاوضاع في التيار القومي العربي، إذ كان البعثيون يمثلون قوة كبرى فيه وجرى أختيار الامين العام للحزب المرحوم فؤاد الركابي كوزير للاعمار في أول وزارة بعد ثورة 14 تموز، أما حركة القوميين العرب فقد بدأت نشاطاتها الجماهيرية بشكل واسع بعد أن قامت القيادة العليا ومركزها بيروت بدعم قيادة العراق بعناصر وشخصيات فاعلة ومهمة مثل الاساتذة هاني الهندي ونايف حواتمة وعمر فاضل، كما أن وجود الشهيد باسل الكبيسي والاستاذ سلام أحمد قد عزز التحركات نحو التوسع والامتداد، وبالفعل فقد كسبونا نحن قيادة النجف وارتبطنا بقيادة الفرات الاوسط والمسؤول د. عبد الامير الوكيل فقمنا بمد تنظيمنا ليشمل الكوفة والشامية وخان النص، ولابد لي من أن أروي حادثة طريفة وقعت لنا نتيجة ذلك، فقد كان منتسبو حركة القوميين العرب يدفعون اشتراكاً شهرياً، وكان عبد الزهرة الخافوري عضو قيادة الحركة في النجف التي كانت تتكون من عزيز الشيخ راضي وعبد الاله النصراوي وعبد الزهرة الخافوري وأمير الحلو وعبد الرزاق الحلي، وكانت منطقة خان النص التي تقع بين كربلاء والنجف ضمن مسؤولياته، وفي أحد الاجتماعات للقيادة المحلية في داره قمنا بجمع الاشتراكات فقام من مكانه وحمل قدراً مليئا باللبن وقال لقد أعطوني هذا كبدل عن الاشتراك الشهري ولا أدري طريقة التصرف به.
وقد كتبت مرة عن معنى السحق الجماهيري والمقصود به ردع الأعداء وحتى التنكيل منهم، فقد عشت هذه الحالة عندما قررنا المشاركة في فعاليات ذكرى وفاة الرسول الاعظم محمد عليه الصلاة والسلام عن طريق تسيير موكب مموه بالشعارات الدينية ولكن المحتوى سياسي، وكانت قضية الوحدة والاتحاد الفيدرالي ساخنة في الشارع، ويظهر أن البعض قد أبلغ الزوار بأن جماعة الوحدة هم من أنصار يزيد بن معاوية وأن المؤمنين هم جماعة الاتحاد الفيدرالي.
لذلك فما أن خرجنا من مكتب الاستاذ المحامي أحمد الحبوبي على شكل مجاميع تحمل اللافتات والهتافات التي تطالب بالوحدة حتى فوجئنا بعد أن سرنا بضعة أمتار أن الناس في الشارع والمقاهي والزوّار يهاجموننا ويضربوننا بما يقع تحت أيديهم ومنها قناني الببسي كولا وكراسي المقاهي وحتى ما يلبسونه في أقدامهم.. والطريف أن الشرطة قامت بحمايتنا وأبعدت الجماهير الغاضبة عنا ثم أخذتنا بسياراتها الى مقر الكمارك خارج النجف حيث بتنا هناك حتى ظهر اليوم التالي فقد تسللنا خارجاً.
في بدايات ثورة 14 تموز 1958 كان عبد السلام عارف يزور المحافظات و يصر على إلقاء الخطابات التي أصبحت مصدر تندر للناس لما فيها من سذاجة وروح التفرقة، وقد قرر يوماً أن يزور النجف ولانه يمثل الثورة وهي في أشهرها الاولى فقد خرجت كل القوى السياسية الى الميدان الكبير في النجف بانتظار إطلالته ولكنه أراد زيارة جامع الكوفة قبل ذلك، وكانت الجماهير تنتظر في باب الجامع المغلق وصوله ولكنه جاء بطائرة هليوكبتر وعندما شاهد الجموع الغفيرة طلب من الطيار أن يهبط داخل باحة الجامع، فقامت الجماهير بدفع الباب الرئيسي وكان يليها عدة درجات عالية فسقط الكثير من الناس وداس بعضهم بعضاًُ ولكن المؤلم أن البعض سقطوا قتلى بسبب حماقة ثورية.
وعندما جاء الى النجف كان الحزن يخّيم على الناس من أحداث الكوفة ولكنه أصرّ على إتحافنا بخطبة لم نفهم أولها من آخرها، ولكننا كنا نصفق ونهتف للثورة وقد قام البعض وأعتقد من الاخوة الشيوعيين بإطلاق عدد من الحمام الأبيض، ولكن أحداها أوقعها حظها العاثر بالقرب من عبد السلام الذي اعتبر ذلك موقفاً معادياً له لأنها ترمز الى السلام الذي كان أحد شعارات الشيوعيين، فقام بالامساك بها وقطع رأسها بيده ورمى بها دامية على الناس، واستمر بإلقاء خطبته العصماء التي خيّبت الكثير منس قادة الثورة وسذاجتهم. تركت النجف بعد ان انهيت دراستي الثانوية عام 1959 والتحقت بكلية التجارة والاقتصاد فرع الاقتصاد في جامعة بغداد، وكانت الصراعات انذاك على اشدها في الشارع والاعلام وكل مجالات السياسة بين التيار اليساري والقوى القومية، وظهر ذلك ايضاً في انتخابات اتحاد الطلبة اذ اسست القوى القومية ما اطلقت عليه الجبهة القومية الموحدة وضمت جميع تلك القوى، وقد ترشحت في الصف الاول مع الزميل براء نجيب الربيعي، ولكننا فشلنا وحصلت القوى اليسارية على اغلبية الاصوات في الجامعة كلها.
وكنا نبحث عن حجج ومبررات لاعلان المعارضة لحكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي انفرد بالسلطة، فعندما اصدر قراراً صحيحاً باصدار وسك العملة بطريقة موضوعية والغاء النقود المعدنية او دمجها حتى تتلاءم وعمليات التعامل معها، فبركنا بعض النكت حول هذا الاجراء، ولكن الذي فجّر الموقف هو قيام الحكومة بزيادة اسعار البنزين عشرة فلوس للتر الواحد، فوجدناها فرصة مناسبة لتجييش الشارع، وقمنا بتظاهرات صاخبة وخصوصاً في منطقة الكرخ، وعند تدخل الجيش قمنا بالتصادم معه حيث انسحب بعد ان وجدنا مسلحين وهو ولا قيادته تريد سفك الدماء من اي طرف كان، ثم هدأت المعركة وبقي السعر الجديد ليتلاءم مع كلفته الاقرب للحقيقة. ولكني قبضت ثمن ذلك في احتجازي في سجن بعقوبة وضياع سنة دراسة مني.
ولكن كما كتبت سابقاً ان العلاقة مع عبد الكريم قاسم والقوى القومية قد انقطعت تماماً وازداد العداء بعد اعدام الطبقجلي ورفعت الحاج سري ومجموعة من الضباط في معسكر ام الطبول في ايلول 1959، وبدأت مختلف الفصائل القومية اعداد خطط الاغتيال او الانقلاب، والتي تم تنفيذها ولكنها فشلت، حتى بدأ البعثيون والقوميون العرب كل على جهة في التخطيط للانقلاب العسكري على الحكم وقد ذكرت تفاصيل ذلك في حلقة سابقة، ولكن البعثيين لجأوا الى خطة تمهد لانقلابهم وتوجد الاجواء الملائمة لذلك، فقد قاموا باضراب في كليات الجامعة وشاركناهم في ذلك، ولم تستطع قوات الانضباط العسكري التي تدخلت من اجبار الطلاب على الدراسة رغم ان اليساريين كانوا مواظبين على الدوام ولكن لم تحصل مواجهات او اصطدامات كبيرة، وكان البعثيون يخططون لتصعيد الموقف اكثر، فقاموا صباح احد الايام باقتحام مبنى جامعة بغداد في الوزيرية واعتصموا فيه بقيادة السيد عادل عبد المهدي، فقامت قوات الانضباط العسكري بحصار المبنى والقاء القبض على بعض المعتصمين، ولكن الاضرابات في المدارس تتالت وخاصة في الكرادة الشرقية متوسطة الكميت ، وكعادة بعض الحكام الذين يعتمدون على القوة الظاهرة، لم يهتم قاسم بهذه الظواهر التمهيدية ولجأ الى الاساليب البوليسية المعتادة في مواجهة الاوضاع، وجرى اعتقال اعداد كبيرة من القيادات البعثية المدنية والعسكرية، ولكن الامور كانت قد وصلت الى حد التسابق الى من سيقطع الثمرة اولاً مع عجز تام عن الوقوف ضد ذلك، ولا اعتقد ان الزعيم اعطى فرصة للانقلابيين عند وصوله الى وزارة الدفاع وعدم توزيع الاسلحة على الجماهير المؤيدة له، فقد تهاوت قواه العسكرية تباعاً وخصوصاً في الدروع والطائرات، اما على الارض فقد دافع الشيوعيون بشكل بطولي عن النظام لانهم يدركون تبعات سقوطه وخصوصاً في مناطق الشواكة والكاظمية ولكن بالمقابل قام البعثيون والقوميون بالسيطرة على طرق الامدادات الى وزارة الدفاع عبر جسر الشهداء والقصف من المنطقة المجاورة لثانوية الكرخ ومستشفى الولادة على مبنى وزارة الدفاع، في حين قام المدنيون اعرف تفاصيل ذلك بالسيطرة على بعض مراكز الشرطة مثل مركز شرطة الكرخ في الشيخ معروف ومراكز الدوريين وسوق حمادة وسوق جديدوغيرها وجرى الاستيلاء على الاسلحة التي جرى توزيعها ولكنها لم يكن لها دور فعلي في المعركة المحتدمة حول وزارة الدفاع جواً وارضاً والتي انتهت الى ما هو معروف من سقوط النظام ومقتل الزعيم.
ذكريات مؤلمة عاشها جيلنا وعندما اراجع بعضها اجدها عبثية وذهب ضحايا من دون سبب يستحق ذلك، ولكن ما يؤلمني اكثر ان لا ضوء في نهاية النفق يبشر بأن العراق سيستقر ويلجأ الجميع الى الاسلوب الديمقراطي والعقلاني في ادارة العملية السياسية.
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع