د.صلاح الصالحي
مراسيم الحريم في العصر الاشوري الوسيط
صورة خيالية لنساء بلاد الرافدين قديما
هي مجموعة من اللوائح التي تتناول الأنشطة والسلوكيات الداخلية للعاملين في القصر، ولا سيما نساء القصر (الحريم) والمسؤولين الذكور الذين يتعاملون معهم، صدرت المراسيم الملكية في العصر الاشوري الوسيط (1521-911) ق.م ، وهي تخص طرق التعامل مع نساء القصر الملكي، ويمكن القول بان تلك المراسيم في الواقع تعليمات لسلوك النساء وهن داخل القصر الملكي في مدينة آشور، وبمجملها تعتبر مصدر مهم للمعلومات حول النساء بشكل عام في الشرق الأدنى القديم، ومن الصعب معرفة متى تمت صياغة هذه التعليمات التي يطلق عليها ريكسو(riksu)، لابد وانها شرعت من قبل الملوك الآشوريين المتعاقبين الذين كانوا مهتمين شخصيا بالحفاظ على النظام وحرمة (السكن الداخلي) التي تقيم فيها السيدات، ومن خلال أسلوب الكتابة يمكن ارجاعها إلى الربع الأول من القرن الحادي عشر ق.م عندما قام تجلاتبليزر الأول (Tiglath-Pileser) (1114-1076) ق.م الملك الاشوري بجمعها، ويبدو ان تلك التعليمات بدأت من عهد الملك آشور-اوبالط (Assur-uballit) (1365-1330) ق.م وأولاده من بعده، وبذلك امتدت المراسيم لتشمل تسعة حكام غطت فترة حكمهم ثلاثة قرون تقريبًا من (1363) إلى (1076) ق.م .
إن الالواح التسعة التي تضم المراسيم مجزأة كلها، وقد عثر عليهم في العاصمة آشور منها ثمانية الواح محفوظة الآن في متحف برلين، عموما هذه المراسيم تضم حوالي (23) مادة منها أربعة نصوص كاملة، لان جميع الالواح تضررت بشدة، لا سيما المراسيم الأولى فهناك تلف كبير فيها ومع هذا امكن التوصل لمعناها، ولابد ان نضع في اعتبارنا إن انتهاك المراسيم تعرض الشخص المذنب لأشد العقوبات تصل أقصاها لعقوبة الإعدام، وأقلها التشويه الجسدي، وليس هناك استثناء للمخالف سواء كانوا من ضمن المسؤولين من الذكور في البلاط أو أولئك الذين يطلق عليهم مازيز باني (mazziz pānī) بمعنى (خصي الملك) وهؤلاء صنف مقرب من الملك وحاشيته (ša rēš šarri) ، أو (طبيب الامراض الباطنية) (آسو شا بيطنُ) (asû ša bētānu) (آسو تعني ماء وطبيب بنفس الوقت وبيطنُ كما في اللغة العربية بطن) الذي يتولى رعاية الملك واسرته وهو قادر على الوصول للنساء بحكم عمله، وأيضا يعتبر مسؤولاً عن الخصيان المساعدين له في مهنته الطبية (المرسوم 8، الفقرة 5) .
لسوء الحظ، كما أشرت فقد جزء كبير من نصوص المراسيم ولا يمكننا فهمها بشكل تام، ومع هذا قدمت الباحثة (Roth) ترجمة للمراسيم الملكية، وسوف اعتمد على الترقيم الذي اعتمدتها ، فمن المعروف أن وجود الحريم حيث تكون الملكة الأم، ومعها زوجات الملك اشات شاري (aššat šarri) ، ويطلق عليهن اسم (سيدات القصر) سينشاتُ شا إيكاليم (sinnišātu ša ekallim) ، و(نساء أخريات) سينشاتُ مداتو (sinnišātu mādātu)، وتعيش معهم فتيات خادمات، وكلهن خاضعات للتعليمات والأوامر الملكية، وغالبا ما كان هذا العالم المحصور في جناح القصر في اغلب الأحيان فريسة للتوترات حتى أنه أدى إلى نزاعات ومشاجرات، واللعنات التي تفسر بانها (ذكر اسم الإله بالكفر)، والتي تنطق أثناء توبيخ شخص ما عوقب بشدة (المراسيم 10-15، الفقرات 911-912)، ويتم اجبار الشهود الذين شاهدوا مخالفة حدثت داخل القصر على إخبار الملك الاشوري (مرسوم 21 ، الفقرات 189، 192)، كما سمح ملوك آشور للخصيان بالدخول إلى سكن النساء ومع هذا لا يسمح لهم في إجراء محادثة معهن، أثناء أداء الواجب، ما لم يكن تحت إشراف رئيس القصر (المرسوم 9 ، الفقرات 906-910)، ويمكن اجراء مقابلة بين خصي القصر أو الخادم وسيدة ملكية على تكون المسافة سبعة خطوات بينهما، ويجب عليهم أن يرتدون ملابس مناسبة (المرسوم 21 ، الفقرات 191)، ان وجود علاقات خاطئة مع إحدى سيدات القصر ستؤدي إلى معاقبة الطرف المذنب ومن ساعده (المرسوم 19 ، الفقرة 989)، كذللك ممنوع على نساء القصر إعطاء أو إهداء الذهب أو الفضة أو الأحجار الكريمة للعبيد (المرسوم 5 ، الفقرات 682-683)، وسمح لزوجات الملك بمعاقبة عبيدهم، ولكن هذه الحرية يجب ان تكون تحت إشراف الملك، ولن تشمل العفو عن المذنب أو الحكم بالإعدام (المرسوم 18 ، الفقرة 928)، ولا يسمح للنساء الخادمات المتزوجات اللواتي يعملن في القصر مغادرة مبنى الحريم، ولا حتى في أيام العطل، إلا بإذن من الملك، حتى لا يصبحن الخادمات مصدر للمعلومات عن وضع النساء داخل القصر (المرسوم 3 ، الفقرة 517).
وفيما يلي بعض المراسيم التي ترجمتها الباحثة (Roth) نقتبس منها:
مرسوم 7: عندما يقترب وقت الاضاحي، لا تدخل امرأة القصر وهي حائض (بمعنى: غير محصنة) في حضور الملك.
مرسوم 19: إذا كانت امرأة القصر [و ... (رجل)] يقفان لوحدهما، وعدم وجود شخص ثالث معهم، سواء [كانوا يتصرفون] بطريقة مغازلة [أو بسلوك جدي رصين (؟)]، كلاهما يقتل.
(إذا) شخص ما يروي شهادة ضد سيدة القصر بانها وقفت مع رجل، وفشل في اثبات صحة ما يرويه سيعاقب بطرحه في فرن وهو حي، وقد ورد في التوراة هذه العقوبة التي تعرض لها دانيال في بابل (دانيال 3: 20) .
(إذا) كان إما قائد القصر في المدينة الداخلية، أو منادي القصر، أو المشرف على نقل المياه إلى سكن الحريم، أو طبيب الامراض الباطنية، أو المسؤول عن جميع القصور بكاملها يسمح بدخول اشخاص للبلاط وهو أمر غير مسموح به في القصر، واكتشف هذا في وقت لاحق، يجب عليهم بتر قدم واحدة من كل هؤلاء الموظفين.
مرسوم 21: سواء الخصي الملكي أو خدم البلاط أو المخلصين (sirku) إذا غنت امرأة القصر، أو تشاجرت مع شخص، كان يقف إلى جانبها، يجب أن يضرب (100) جلدة، وتقطع له اذن واحدة.
(إذا) كانت اكتاف امرأة القصر مكشوفة ولم تكن مغطاة (حتى) بالملابس -kindabašše (شال)، واستدعيت من قبل خادم البلاط، [وقال لها: "... تعالي] هنا، أود أن أقدم لك أمر)، ويستدير بالتحدث معها وجها لوجه، يجب أن يضرب (100) جلدة، والشخص الشاهد الذي يدينه يأخذ ثيابه، أما بالنسبة للخادم المذنب، فيربطون الخيش (sāgu) حول خصره. ومن المعروف ان الخيش يصنع من القنب وربطه بالبطن يسبب الألم خاصة عند الاكل أو النوم.
(إذا) رغب أحد خدم البلاط في التحدث مع امرأة القصر، فلا يقترب منها ويقف على مسافة سبعة خطوات.
وهكذا تخبرنا المراسيم بمعظم ما نعرفه عن نساء القصر، كما لدينا عدد قليل من الرسائل تشير عند سفر الملكة تسافر معها حاشية من مختلف النساء في ست عربات، وتجدر الإشارة إلى أنه في النصوص الفلكية، يشار إلى كوكبة من ستة نجوم باسم (نساء القصر).
هناك قصة غريبة وردت في نص مسماري لنفس الفترة، وهي كما يلي: ذات مرة، فتاة عبدة (امتو (amtu) (بالعربي أمه) تعمل تحت امرة سيدة في البلاط تدعى كورصيبتو (Kurşiptu) معنى اسمها (فراشة)، وجدت طفلاً في النهر(طفل باللغة الأكدية illidu ، يليدُ أو وليد كما في اللغة العربية) ، وأطلقت عليه اسم (القرد) باكو(pagû) :
(الفتاة العبدة التي تخدم كورصيبتو، سيدة قصر آشور- إدن (Assur-iddin) (خلف آشور- أدن اباه قيبي- آشور في منصب رب سوكالو (sukkallu rabi’u) (الوزير الأول) في عهد توكلتي ننورتا الأول، بدأ حياته المهنية في الإدارة الاشورية منذ عهد شلمانصر الأول، وكان مسؤولا عن إدارة مقاطعة خانيكالبات (ميتاني) في مدينة واشكاني، ثم انتقل في منصب اداري بمدينة دور كاتليمو (Dur Katlimmu ) في سوريا، وعثر على الواح الطين عليها اسمه وختمه، وكان لدية ثلاث أبناء بدورهم شغلوا مناصب عليا في الدولة الاشورية)، وجدت في نهرُ-اريبا (Naru-eriba)، )القرد(، ورفعته من النهر، واخذته، هو ابنها، يجب على أي شخص يريد استعادته يلجأ إلى القانون، وتقديم شكاوى ضدها، وان فشل في شكواه، يعطي ستة أبناء (بمعنى عبيد) (و) السماح له بالرحيل، بأمر من الآلهة، لا يمكن للناس أن يأخذوا (القرد) بالقوة (puāgu).
معنى عبارة نهرُ-اريبا ( Naru-eriba) (النهر أعطى طفلاً)، أعطي عبارة نهرُ-اريبا للدلالة على أنه طفل لقيط، وإعلان رسمي يثبت أن الطفل لها وسيبقى لها، ثم ذكر أربعة آلهة كشهود لهذه الوثيقة، وليس هناك معارض لأن القرار واضح، ثم أطلق اسم (القرد) على الطفل لاحقا، وهو اسم شخصي غير عادي لكنه متعارف في التقاليد العراقية القديمة حيث تطلق أسماء وضيعة لإبعاد الحسد وحتى يعيش الطفل ولا يموت، فنجد من الأسماء من هذا النوع زبالة، مطشر، جلوب، صرصر ..الخ، وهكذا القضية برمتها غريبة، العثور على طفل بالصدفة في النهر! هذا الحدث يذكرنا بقصة موسى الذي عثرت عليه ابنة الفرعون، كما يظهر في قصة سرجون الأكدي ، الذي تم انتشاله من النهر كطفل رضيع بواسطة ساقي ملك كيش أور زبابا ويدعى آكي (Aqqi) (ساقي) ، لأن والدة سرجون كانت كاهنة عظمى لا يحق لها الانجاب، وطريقة رمي الأطفال بوضعهم داخل سلال أو طوافات من الخشب أو الاغصان أو كرب النخيل لا يعني قتل الطفل كما نتصور انما إيداع الطفل عند الإله انكي (=آيا) الذي عرف عنه بانه إله المياه والانهار وهو حتما سيرعى الطفل ويسلمه لعائلة تقوم برعايته، كذلك فان الله أوحى إلى أم موسى ان ترميه في نهر النيل واوصله الله لعائلة فرعون، هذا الحدث برمي الطفل في النهر سجل مرة أخرى على نموذج ساق طفل من الصلصال يقارن بنماذج لأرجل أطفال حديثي الولادة صنعت من الصلصال أيضا، يبقى ما هو الغرض من رمي طفل حديث الولادة في النهر؟ الاحتمال الأكثر قبولا تخص النساء اللواتي حرمن من حريتهن وخضعن للعبودية أمامهن أحد الخيارين اما بيع أطفالهن فيخضع الطفل للعبودية طيلة حياته أو التخلص من الطفل بإبداعه النهر(Naru-eriba)، ووفقا لنص التبني، تم تسجيل اللقيط بالقدم التي تم قياسها وتسجيل حجمها، إن محتوى النص رائع خاصة في الإشارة إلى الآلهة الشهود، وكذلك الفكرة قد يعتبرها البعض اسطورة، ومن السهل اعتبارها وهمية، ولكن هناك وثيقة قانونية مماثلة وهي عقد بيع من العهد الاشوري الحديث لجزء من أرض قاحلة عند مدخل العالم الاسفل، ياترى ماهي الجدوى الاقتصادية من شراء أرض كهذه ؟ من الصعب إعطاء تفسير واضح لعقود قانونية تعود زمنيا إلى ثلاثة الاف عام مضت.
3003 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع