د.سعد العبيدي
أقلعت الطائرة العراقية، أو بالتسمسة الصحيحة طائرة الخطوط الجوية العراقية يوم 2 نيسان الجاري برحلتها القائمة من بغداد الى بريطانيا، حطت في مطار مالمو بالسويد بعد خمس ساعات ونصف لاغراض التفتيش الامني اللازم للدخول الى بريطانيا. كان توقيت اقلاعها ضمن الضوابط العامة للطيران، وكانت ادارة الرحلة والضيافة فيها تحسب جيدة ضمن حسابات العراق الحالية، تؤشر تطورا في الخبرة يحسب بقدر معقول.
مشكلة هذه الرحلة والقادم منها، لا تتعلق بالطيران وشروطه، وعلو التحليق، ونوع الخدمة، ومدى تيسر الصحف، وبضائع السوق الحرة، بل بتعامل الغير مع الطائرة القادمة من العراق، تعاملا يثير التحسس ذو الصلة بالمواطنة العراقية، فالطائرة التي حطت في وقتها بالمدينة السويدية مالمو، أنزلَ ركابها بينهم الطاقم وجميع الامتعة والحقائب، حشروا في قاعة، وفتشوا بشكل مهني دقيق، يثير تساؤلا في نفس العراقي: لماذا أتعامل هكذا من بين ركاب المعمورة وطائراتها التي لا تحصى؟.
إجابة وردت على لسان عراقي يبدو عليه الوقار والتحصيل الثقافي، قالها بمرارة وهو يجر حقيبته مارا بالخرطوم الى مكان التفتيش قائلا: طأطأ راسك أنت عراقي!.
انها اجابة معبرة عن ألم الانتماء الى وطن جريح، لأن عملية التفتيش التفردية تشعر الواحد بقدر من الدونية الوطنية وان لم يتعد السويديون في إجراءاتهم بصددها حدود المهنية الامنية، ولم يجرحوا بتعاملهم أحدا من الركاب.
اجابة تضع العراقي في زاوية الاستفسار عن دوافع الوقوع بمثل هكذا ممارسات أستطاعت أمم أقل أستقرارا من العراق تجاوزها باقتدار. وهي إجابة في العموم تعبر عن جرح غائر في العقل العراقي لعدة عقود، وشعور بالحيف أو الاسف من الانتماء لهذا الوطن الجريح، الذي سحبه أهله الى مواقف أجبرت الاجنبي على اتخاذ إجراءات عزل وتفتيش لا تخلوا من الاهانة وان كانت مغلفة بأغلفة أمنية طارئة. وهي كذلك إجابة في حقيقتها النفسية مؤلمة، فتحت باب النقاش العلمي عن اسباب السحب الى مثل هكذا مواقف.... فكانت النتيجة القريبة من الواقع:
نحن العراقيين أنفسنا السبب فيما يحصل لنا ولطائراتنا وطيراننا ونظرة العالم الينا شعب يحمل في ثنايا سلوكه كل التناقضات، بعد أن أثبتنا لهذا العالم المتحضر أننا مجتمع يقتل فيه المواطن مواطناً آخراً من أبناء جلدته لاختلاف في الرأي المذهبي يعود الى الآف السنيين، وأننا في أعمال الاختلاف هذه لم نجد جوابا للسائل من خارج أهلنا عن أسباب القتل والاختلاف. والعجز عن الاجابة في عالم اليوم تدفع السائل الى أتهامنا بالارهاب، وتدفعه الى تفتيش طائراتنا وأسرة نومنا على حد سواء.
وإننا مجتمع يكتب فيه المواطن "المخبر السري" تقريرا أمنيا عن مواطنا آخرا كل ما فيه أفتراء، يشهد عليه، يقدمه الى المقصلة، طمعا في مكانه الوظيفي، وهي أعمال افتراء لم نجد لها تبريرا في حواراتنا مع الانسان العاقل في المجتمعات الاخرى. والعجز عن تبرير حوادث الافتراء تدفع العالم الآخر الى النظر الينا نظرة ازدراء، تجعله مستعدا لتفتيش طائراتنا ودفاترنا والعقول.
واننا مجتمع يفجر واحد من بيننا نفسه وسط عمال فقراء، وطلاب أبرياء، وعسكريين شرفاء، على أمل الذهاب الى الجنة بعد أن فسق في الارض ردحا من الزمن. أعامل ارهاب لم نجد لها تفسيرا للمتابع الاوربي وغير الاوربي، وعدم الاجابة في مثل هكذا مواقف مثيرة تضع الآخرين في مواقف الحث على عزلنا وتفتيش طائراتنا وحقائبا الدبوماسية وغرف نومنا ليل نهار.
واننا مجتمع يسرق فيه الموظف أموال الدولة دون وخز من الضمير. يزور فيه المواطن دون رادع من الضمير. يفرق فيه المسؤول بين التابعين له والمراجعين لدائرته على اساس الانتماء الطائفي والقومي دون أهتمام بالضمير. يمنعُ فيه المواطن من البوح بمشاعره، ويطالب فيه المتظاهر بغير المعقول، ويستقوي المسؤول السياسي بالاجنبي على أبناء وطنه دون الالتفات الى الشرع والضمير. أعمال وغيرها الكثير نعجز أن نعطي لها إجابة لمن يسأل، والعجز عن اعطاء الاجابة يفسح المجال للاوربيين وغيرهم بايقاف طائراتنا في المكان والزمان الذي يريدون، يفتشونها كما يشاؤون.
ان ما جرى ويجري من أفعال تفتيش لطائراتنا المتجهة الى بريطانيا عن طريق السويد وان كانت إجراءات أمنية بحتة فرضتها قوانين السلامة البريطانية، لكنها من الجانب النفسي خدشٌ للحياء الوطني العراقي، مردها السلوك العراقي الخطأ، والبناء الفكري الخطأ، محصلتها سوف لن تتوقف عند حدود الخدش، بل ستتعداه الى الاحساس بالدونية الوطنية التي تعزل المواطن عن وطنه، تبقيه مجرد كيان دون أنتماء، تجعله مجتمع مصاب بفايروس انفصال لن ينج منه أحد.
912 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع