قاسم محمد داود
صفحات من تاريخ العراق المعاصر/" حركة ١٨تشرين ١٩٦٣ "
في 8 شباط 1963 وبانقلاب عسكري دامي تمكن البعثيون من أسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وتم اعدامهُ في اليوم التالي ، وأعلن عن تشكيل مجلس قيادة الثورة وحددت مهامهُ بالعمل على " إقامة حكومة وطنية من المخلصين من أبناء الشعب " (نص البيان الأول في جريدة الجماهير 12 شباط 1963) ومنح المجلس صلاحيات " ممارسة السلطة التشريعية وصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة ، وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة " واعلن في البيان اختيار عبد السلام محمد عارف (1921 – 1966 ) ، رئيساً للجمهورية ، بعد ان رقي الى رتبة مشير ركن. وأسند منصب رئيس الوزراء للواء أحمد حسن البكر أحد أبرز قيادي البعث والذي كان يتزعم أحد التيارات المعتدلة في الحزب، وهو المنصب الذي يمثل الحاكم الفعلي للعراق وبيده كل الصلاحيات التنفيذية التي كانت من قبله بيد عبد الكريم قاسم ومن قبل ذلك بيد رؤساء وزارات الحكم الملكي قبل 14 تموز 1958. ثم ابدلت القيادات العسكرية واحالت السلطة الجديدة القيادات السابقة الى التقاعد واعلن تشكيل منظمة شبه عسكرية باسم " قوات الحرس القومي " ، واستناداً الى قانون صدر في 8/ 2 / 1963 بدأ الحرس القومي ينتشر في أنحاء العراق كافة وتولى منذر الونداوي قيادة الحرس القومي. "ولم يقتنع بما ورد في القانون من اختصاصات الحرس القومي بمرور الأيام بحيث أصبح يتدخل في اعمال الشرطة إذ تولى عمليات الاعتقال والتحقيق " (امين هويدي – كنت سفيرا- 139). وفي 4 نيسان 1963 صدر قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم (25) لسنة 1963 " الذي حوى على عشرين مادة ، تضمنت كيفية تعيين أعضاء المجلس وعددهم ، وكيفية اقالتهم ، وحدد سلطات المجلس واهمها ممارسة السلطة التشريعية ، والقيادة العامة للقوات المسلحة و الشرطة والحرس القومي وتأليف الوزارة وقبول استقالتها، والمصادقة على قرارات مجلس الوزراء. وحدد القانون العلاقة بين المجلس ورئاسة الجمهورية، بحيث جرد رئيس الجمهورية من صلاحيته كافة، واصبح رئيساً بلا سلطات وعضواً في المجلس شأنه في ذلك شأن الأعضاء الآخرين، ولعل هذا التحديد هو الذي دفع عبد السلام محمد عارف الى قيادة الانقلاب في 18 تشرين الثاني حسب (تاريخ العراق المعاصر 290 / د. حميدي). لقد وجد من بحث وكتب عن حركة 18 تشرين الثاني 1963 الكثير من الأسباب التي أدت الى حدوثها ومنها : ان الحرس القومي ومنذ البداية بدأ " بانتهاكات واسعة بحق المعارضين ومارس الاعتقال والتعذيب والاغتيال ... واصبح أداة بيد المتصارعين على السلطة من القياديين البعثيين وقد اعترف وزير الدفاع بسوء تصرفات الحرس القومي ، الذي جعل من نفسه قوة مقابلة للجيش ، وأخذ يضايق الضباط ، ويقوم بتفتيش السيارات العسكرية ، كما شكا من سوء استخدام الحرس للأسلحة ، الامر الذي أدى الى حدوث بعض حوادث القتل يومياً،" بل اخذت اختصاصاته تتضارب مع اختصاصات الجيش ، واصبح القائد الأعلى ووزير الدفاع غير قادرين على السيطرة على الحرس القومي بالرغم من انه تحت امرتهم بموجب القانون . وفي برقية أرسلها وزير الدفاع آنذاك صالح مهدي عماش لقيادة الحرس القومي تبين محاولته تصحيح الامر : ( أمنع منعاً باتاً تدخل الحرس القومي في أي قضية إطلاقاً مهما كان موضوعها ، الا إذا طلب منه ذلك في كافة انحاء العراق. فقد أجبرَ الحرس القومي بعض رؤساء البلديات على الاستقالة وهذه فوضى لا حد لها . وزير البلديات يرفض قبول الاستقالات أوعز للحرس القومي تثبيت واجباته وإلا سأضطر الى إلغائه. يطلق سراح رئيس بلدية قلعة سكر ورئيس بلدية الجزائر وتلغى كفالتهما أيضاً.). (امين هويدي – كنت سفيراً – 139) . إن عدم انضباط الحرس واعتدائه على الناس اثار موجة من عارمة من الاستياء كانت وراء الانقلاب الذي قاده عبد السلام عارف ضد الحزب، بعد ان أصبح الحرس القومي يتدخل في شؤون الإدارة، ويستخدم أساليب فجة ومكشوفة في الاعتقال لا تراعي حرمة الانسان، ولا الرأي العام. (حميدي- تاريخ العراق -239 ) . الامر الذي جعل الحاكم العسكري العام رشيد مصلح ( 1917 – 1970 ) يوجه الرسالة التالية إلى وزير الدفاع : ( لقد كثرت الشكايات من جراء التصرفات اللاقانونية من قبل مكتب التحقيق الخاص الذي أخذ على عاتقه الانفراد بالتحقيق والاعتقال . لذا نرتئي إلغاء مكتب التحقيق الخاص وتشكيل هيئة تحقيق أمن الجمهورية ليكون ارتباطها بالاستخبارات العسكرية.) . (هويدي – كنت سفيراً- 141). كما ان الخلاف بين القيادات البعثية على الزعامة الذي بدأت بالظهور بعد تسعة أشهر من الحكم والذي تطور الى انقسام بين التيارات بما سمي بالانشقاق، فهنالك التيار المتشدد والممسك بزمام الأمور بزعامة علي صالح السعدي (1928 الخالص – 1977 لندن ) ويساعده المقدم منذر توفيق الونداوي (1932 الناصرية – 2015 ما ربيا – اسبانيا ) ، وهناك تيار يميل نحو المرونة والحلول السياسية بزعامة حازم جواد (1936 الناصرية ) ويساعده عبد الكريم الشيخلي ( 1935 - 1980 بغداد ) أصبح وزيراً للخارجية بعد انقلاب 17 تموز 1968 . اما تيار أحمد حسن البكر ( 1914 تكريت – 1982 بغداد ) فكان يمثل التيار المعتدل والذي يحاول عدم إظهار نفسه بمظهر التيار المتكتل بقدر ما يظهر نفسه أنه جهة استشارية ناصحة . كما تميز البكر في تلك الفترة بانتمائه المهني الذي تغلب على انتمائه الحزبي وهذا واضح من خلال اتخاذه لسلسلة من القرارات العسكرية داخل الجيش للضرب على يد الضباط البعثيين ضد فوضى أحداث الحرس القومي داخل الجيش. كما انه من المساهمين بوضع الخطة الخاصة بالإطاحة بالحرس القومي لمصلحة الجيش. أستغل عبد السلام عارف انشغال قادة حزب البعث بالصراع فيما بينهم، الذي وصل يوم 13 تشرين الثاني الى حد استخدام الطائرات والأسلحة الثقيلة والمتوسطة لحسم الصراع، حيث قام الونداوي بقيادة طائرة مقاتلة وقصف القصر الجمهوري بالصواريخ كما قصف القاعدة الجوية في معسكر الرشيد وتدمير اربع طائرات حربية كانت جاثمة على الأرض، ثم الهبوط في قاعدة الحبانية الجوية والهرب منها الى سوريا. فبدأ عبد السلام عارف بالاتصال ببعض العسكريين، من البعثيين والقوميين الذين وقفوا ضد حالة الفوضى التي وصلت اليها البلاد، نتج عن هذه الاتصالات وضع خطة لانقلاب عسكري يطيح بسلطة حزب البعث، ويمكن عبد السلام عارف ان يكون الأول في الدولة والقوات المسلحة، وافق الرئيس عبد السلام عارف على ضرورة تدخل الجيش، وتم وضع خطة لحسم الموقف اعتمدت خطوطها الرئيسة على استخدام القوات الموجودة في بغداد أساساً للسيطرة على الموقف، وتجهيز قوات عسكرية في مطاري كركوك والموصل لنقلها جواً إذا اقتضى الامر. وإقناع قائد القوة الجوية حردان عبد الغفار(1925 – 1971 ) لوضع القوة الجوية جاهزة تحت الطلب. ( المصدر السابق 159 ) في ليلة 17/18 تشرين الثاني صدرت الأوامر من رئيس الجمهورية المشير الركن عبد السلام محمد عارف باعتقال الكثير من الضباط البعثيين في القوة الجوية وكتائب الدبابات ، وعلى وفق الخطة الموضوعة تحرك عارف فجر يوم 18 تشرين الثاني 1963 الى محطة مرسلات الإذاعة ، وفي تمام السادسة صباحاً اذاع بصوته ببياني الانقلاب، الأول الصادر عن رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ، والثاني الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة ، كان البيان الأول يتضمن سيطرة القوات المسلحة على العاصمة بغداد ، وحل وإلغاء الحرس القومي فوراً ، وتخويل آمري الوحدات العسكرية محاكمة كل متمرد وخائن واعدامه فوراً ، والقضاء على كل مقاومة وكانت مقدمة البيان: ( أيها الشعب العراقي العظيم . أيها المواطنون إن ما قام به العابثون الشعبيون وسفاحو الحرس اللاقومي من اعتداء على الحريات وانتهاك للحرمات ومخالفة للقانون وإضرار عام للدولة والشعب والأمة وآخرها التمرد المسلح ليوم 13/ 11 /1963 أصبح أمراً لا يطاق ويتندى له الجبين بل وأصبحت الحالة تنذر بالخطر الجسيم على مستقبل هذا الشعب. الذي هو جزء من الامة العربية فتحملنا ما تحملناه صبراً على المكاره وتجنباً لإراقة الدماء وحفظاً لوحدة هذا الشعب النبيل تيمناً بقوله تعالى " أدفع بالتي هي احسن " ولكننا كلما زدنا صبراً وأيماناً ازداد هؤلاء العابثون الشعوبيين وأقزام الحرس اللاقومي تعنتاً واستكباراً وظنوا ان مانعتهم حصونهم فبلغ السيل الزبى بل لقد تجاوزه فنادى الشعب جيشه وقواته المسلحة فلبى نداءه وتلاحمت القوى الخيرة لإنقاذ هذا الشعب العزيز من عبث العابثين وخيانة الخائنين من الشعوبيين والانتهازيين ... ).اما البيان الصادر من المجلس الوطني لقيادة الثورة فقد اعلن عن انتخاب رئيس الجمهورية المشير الركن عبد السلام محمد عارف رئيساً للمجلس ومنحة صلاحيات استثنائية ، وحل المجلس الوطني السابق وتشكيل المجلس الجديد الذي اقتصر على العسكريين فقط . وفي فجر ذلك اليوم تم اعتقال وزير الدفاع في مكتبه بالوزارة حيث كان ينام، وقامت طائرات حربية بقصف قيادة الحرس القومي في الاعظمية ببغداد، فيما تقدمت الدبابات والمدرعات بالاستيلاء على المراكز الحيوية في بغداد ومقرات الحرس القومي الذين حاول البعض منهم المقاومة الا انهم لم يصمدوا امام الدبابات والمدرعات المهاجمة، وأخذ الحرس القومي يلقي سلاحه وابعد الكثير من القيادات الحزبية المتصارعة الى خارج العراق. بعد نجاح الحركة كلف عبد السلام عارف رئيس اركان الجيش الفريق طاهر يحيى ( 1916 تكريت – 1986 بغداد ) بتشكيل وزارة جديدة فشكل وزارته الأولى في يوم 21 تشرين الثاني وضمت واحد وعشرين وزيراً ثمانية منهم من العسكريين والباقي من الوزراء المدنيين . وانتهت بذلك صفحة من صفحات تاريخ العراق المعاصر .
1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع