رأيته في عرض الصحراء، رجلاً نحيلاً منهكاً، يرفع لافتة من قماش مهلهل ممزق كأنه قطعة من كفن قديم، كتب عليها بصبغ أسود "أنقذونا من الباذنجان"!
ادهشني وضعه، لأول وهلة خيل لي أنه مجنون، وإلا ما معنى وقفته هنا؟ لم يعد أحد ينتظر نجدة في مدينة مزدحمة، فكيف تأتي النجدة في صحراء خالية من البشر؟ ثم ما هو الباذنجان ليشكل خطراً، أو اذىً؟ اقتربت منه مستفسراً، لم احتج لوقت أو جهد لجعله يتدفق في حديثه:
ــ قبل أن أقول كيف تحول الباذنجان إلى عدو لنا، لا بد لي أن أقول لك بكل أمانة أن علاقتنا بالباذنجان كانت طيبة ومتينة، لسنوات عديدة مضت! كان حين يقول أحدنا لصاحبه :" سلم لي على البيذنجان " لا يقصد السخرية والضحك، بل يقصد تكريم هذه الثمرة السوداء اللامعة البراقة الجميلة التي انقذتنا من موت وفناء محققين! فللباذنجانة الطيبة مواقف مشرفة مجيدة كثيرة معنا. عندما ضرب علينا حصار دولي خانق رهيب لثلاثة عشر عاماً، وتخلى عنا العالم، وأشقاؤنا في كل مكان، تقدمت الباذنجانة لتفتدينا بروحها ونسلها وقشورها. صارت تظهر منها سلالات جديدة بيضاء وصفراء، لكننا بقينا ننحني لها بلونها الأسود الليلي، صار سوادها رمزاً للفرح، لا للشقاء! أسميناها الماسة السوداء. وأحياناً يمازحها احدنا فيناديها: يا حلوتي.. يا "وحش الطاوة و المقلاة"! وآخر غنى لها " يالباذنجانة أنت منانا"، فيتصور من يسمع الأغنية، أنها فتاة سمراء جذابة، ناسياً أنها ذلك الطبق الجميل اللذيذ، الوحيد الممكن، الذي يجمع أفراد العائلة ليأكلوه، دون منة، وبالهنا والشفا! تعجب كثيرون؛ كيف أن كتابنا المقدس كرم التين والزيتون، ولم يذكر الباذنجان، المتواضع المضحي، بينما تحصن التين، والزيتون خلف أسوار من الأسعار العالية!
في السنوات الأخيرة الملتهبة ساءت علاقتنا بالباذنجان، وصار كثير منا ينظر له بريبة، وخوف وقلق،،ثم بكره واشمئزاز، فبعد أن كان يجلب لنا الشبع والرواء، في زمن حصار البلاد وفقرها، صار اليوم، في انفتاح البلاد وغناها! يجلب لنا الجوع والعوز، تسألني ماذا حدث؟ حسناً، أرجو أن تصغي إلي بانتباه شديد!
لا بد من الإشارة إلى أن من بدأ الحكاية المرة للباذنجان؛ هم رجال خرجوا من المساجد. قالوا أنهم بعد أن تعبوا من حث الحكام على الأمانة والصدق والنزاهة، ونبذ الفساد، فلا يجدون سوى المزيد من الفساد، والتمادي بالخطيئة؛ قرروا ان يخوضوا المعترك بأنفسهم ويعالجوا الأمور بأيديهم النظيفة المباركة! وعندما نظروا في المرايا ووجدوا ان ثمة طمغة سوداء على جباههم؛ هللوا وفرحوا، فهذا هو دليل نزاهتهم وأمانتهم، وجدارتهم. ألم تقل الآية القرآنية "سيماهم في وجوههم من أثر السجود"؟ تركوا خلفهم مساجدهم ومحاريبهم، وصعدوا سلالم الحكم متوكئين على طمغات جباههم التي لا شيء لديهم غيرها! راحت الطمغات بلونيها الأسود والبنفسجي تنمو كل ساعة، وكل ثانية؛ حتى صارت بقوة الشهوة والحماسة باذنجاناً ناضجاً يتدلى من الجباه مبشراً بمواسم من الخير الوفير! راح هؤلاء الرجال يتقافزون ويتشقلبون، صاعدين نازلين، مسقطين الذهب المتدفق من الأنابيب، وتمر النخيل، وفاكهة الأشجار، في عباءتهم، قائلين أنهم سيذهبون بها إلى الفقراء في بيوتهم، ولماذا يكلفونهم عناء المجيء إلى دوائرهم ومكاتبهم؟ ولكن لا أحد منهم طرق أبواب الفقراء. كل شيء نزل في كروشهم المنتفخة. صارت طمغة الجبهة هي هوية وبطاقة رجال الحكم الجديد، تغني عن كل كفاءة أو شهادة أو استحقاق، حيث ينال صاحبها وبسهولة فائقة وظيفة مرموقة. أما أذا قدر للطمغة أن تحظى برحمة الله فتتحول إلى باذنجانة تتدلى من الجبهة، فأنها قد توصل صاحبها إلى منصب نائب، أو قائد عسكري، او وزير، أو رئيس وزراء!
وحيث ان كثير من الناس في بلادنا يتبعون، ويقلدون رجال دينهم؛ لذا
فقد انبرى رجال ونساء لم يسبق لهم ان صلوا او صاموا، أو قاموا بعمل خير في حياتهم ساجدين طويلاً على الأرض لعل بذرة الباذنجان تعلق في جباههم، بل يقال والعهدة على الرواة (وفي الأزمان الحالكة يكثر الرواة، ويختلفون) أن كثيرين اختصروا الطريق إليها، وراحوا يكوون جباههم بالنار، أو الحوامض؛ لصنع تربة من الرماد في الجلد، وغرس بذرة تتحول بسرعة إلى باذنجانة كبيرة؛ يتدلى تحتها قوس من أدغال لحية طويلة، تتضافر كلها جالبة لهم الثروة والسلطة، والجاه واحترام الناس، بعدما عانوا طويلاً من ذل واحتقار!
وبضربة البرق الذي يجعل الفطر السام ينهض من الأرض؛ صار الباذنجان ينموا ويتكاثر على جباه هؤلاء البشر ذوي السحنات الكالحة، و يختفي من الأسواق. نعم يا صديقي اختفى ذلك الباذنجان اللذيذ الحنون، وظهر باذنجان دموي له شكل الغدد الملتهبة؛ يطل من الجباه، احياناً يذكر بقرون التيوس، واحياناً بقرون وحيد القرن، وأحيانا بذي القرنين، ولكن لا بد من القول أن هؤلاء الذين أضحت وجوههم بشعة منفرة، صاروا هم سادة البلد وأغنيائه، والمتحكمين برقاب أهله!
ومع ذلك سكتنا وقلنا؛ لابد من حد يقف عنده كل شيء في الوجود! لندع الباذنجان المستشري يأكل هؤلاء الطماعين الجشعين، ويخلصنا منهم. ولكن من قال أن مصيبة في بلد؛ تقف داخل جدران اصحابها؟ ما حدث شيء رهيب؛ اكبر وأفظع من هذا بكثير! فقد صحا الناس؛ ليجدوا ان هذا الباذنجان ينتشر على الجباه، وينمو متحولاً إلى ورم سرطاني! وينبري يلتهم الرأس والمخ أولاً، ثم يهبط عبر الرقبة الغليظة إلى القلب فيأكله، ولا يقضي وقتاً طويلاً في البحث عن هذا الشيء الذي يسمونه الضمير فيلتهمه بالسرعة التي يلتهم بها ديك مقدام دودة صغيرة! مع ذلك ظلت أقدام هؤلاء الرجال والنساء سريعة الخطى، وألسنتهم طليقة تتدفق بالكلام المعسول؛ بعد ما كفت صنابير البيوت عن سكب الماء، والأسلاك عن بعث الضوء! الغريب إن الورم الباذنجاني لم يصب الغدد السفلى بأذى، على العكس؛ زاد من نشاطها وجعلها لدى الرجال في حالة انتعاض، وانتصاب دائمين، لا تكل ولا تمل عن العمل الليلي، والصباحي، هارسة الحسان من النساء والغلمان، خاصة وإن الذهب والثمر المتساقط في عباءاتهم الواسعة يشحذها بالمزيد من الطاقة، والسعرات الحرارية! ومع ذلك بقينا في صمت العاجزين! لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فجأة تحول الباذنجان إلى وباء عام، بالأحرى إلى وباء إجباري بأمر الدولة، والمسجد والمدرسة والتلفزيونات! صارت جباه الناس مزارع للباذنجان المقدس، حتى جبهة الرضيع غرسوا فيها باذنجانة، وأنبتوا لها لحية! المصيبة الكبرى أن الباذنجانة بعد أن تلتهم صاحبها، تتمدد مثل حوت كبير فتأخذ بالتهام الناس الأبرياء، تسحق في طريقها كل من يشيح عنها، ويحذر من جرثومتها، وبذرتها القاتلة!
قلة من الناس وأنا منهم يا صديقي هربنا أمام زحف الباذنجان السرطاني، انزوينا، بعد أن حذرنا دون جدوى!
سألته :
ـــــ لم لا تناشدوا العالم؟
ناديناهم، تعالوا لإنقاذنا، لقد اجتاحنا وباء الباذنجان، طاعون أسود مقدس، تعالوا وشاهدوه بأنفسكم، أرسلوا لنا فرقة جنرالات متقاعدين، كانوا يلاحقون الجراد الأصفر في الربع الخالي، اكتفوا بتسجيل حجم الباذنجانة، وتحديد نسبتها إلى الباذنجانة الأخرى بين الفخذين. قالوا إن الباذنجاتين لم تصلا إلى الحد الذي يشكل قنابل عنقودية مثلاً، أو اي من اسلحة التدمير الشامل. ومع ذلك وعدوا أنهم سيعرضون تقريرهم على مجلس الأمن، ويطالبون بالتدخل؛ حتى ولو بهيئة الموت الرحيم. ثم رحلوا، ولم نسمع عنهم شيئاً. حتى الموت الرحيم لم يأت! لم يقل بعضنا أكثر من أننا قد دخلنا "العصر الباذنجاني"، وعلينا أن ننتظر طويلاً حتى نرقى "للعصر الحجري"، وبعد ألف عام سنقترب من مشارف الحضارة، وربما العصر الإلكتروني. جئت أنا إلى هنا علني.. قاطعته:
ـ ولكن هنا في الصحراء كما تعلم، لا وجود سوى للرمال والرياح، وأشباح الكهوف!
اطلق ضحكة شممت مرارتها:
ــ ومن قال لك إنني انتظر شيئاً غير الرمال، والرياح، وأشباح الكهوف؟
تركته، وأنا أنظر إلى رأسه، ساورني ظن؛ أن الباذنجان السرطاني قد بدأ ينمو به أيضاً، بعد أن سرت خطوات على الرمال المتحركة، وجدتني اتفحص رأسي وجبهتي، خشية ان تكون بذوره، أو جذور..
ملاحظة: المادة منقولة من/إيلاف.. الكاتب هو الأستاذ/ إبراهيم أحمد
907 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع