العلاقات التاريخية الأرمنية – العربية

                                      

                               آرا دمبكجيان


مقدمة

ينتمي العرب و الأرمن لأكثر الشعوب القديمة تحضراً في الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي طالما لعبت دوراً هاماً، و في بعض الأحيان حاسماً، في تاريخ العالم. و لم يفقد الشرق الأوسط المعاصر أهميته بل ما زال يمثِّل قيمة جغرافية - سياسية و أسترتيجية فريدة و يؤثِّر بشكل مباشر على العلاقات الدولية و تشكيل السياسة الدولية.

لذلك فإن دراسة العلاقات الأرمنية - العربية ضرورية ليس فقط من منطلق العلاقات الثنائية بل أيضا من أجل فهم أفضل للتاريخ القديم و مشاكل الشرق الأوسط الجغرافية و الأستراتيجية.

و ما زال العرب و الأرمن، الذين ظهروا على مسرح التاريخ منذ آلاف السنين، عكس كثير من شعوب المنطقة الذين أختفوا من التاريخ، يواصلون مسيرتهم التاريخية دون أنقطاع. فهذه العلاقات تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، و شملت عملياً على كل مناحي الحياة.

المصادر

قد يكون منطقياً أن نبدأ البحث في العلاقات الأرمنية – العربية الشديدة الثراء باستعراض عدد من المصادر الأساسية التي تصلح أن تكون خلفية يُعتمد عليها في هذا الموضوع.

تتمثّل المصادر الأرمنية في الكتابات التاريخية التقليدية (الكلاسيكية) الأرمنية و التي ظهرت في القرن الخامس بعد أن أخترع ميسروب ماشدوتس الحروف الأرمنية في عام 405 م، فأصبح الموضوع العربي أحد الموضوعات الرئيسة في الكتابات التاريخية الأرمنية.

و كتب المؤرخون الأرمن في العصور الوسطى مثل سيبيوس، غيفونت، توما آرزروني، مخيتار آنيسي و غيرهم عن موضوعات هامة مثل الأحداث التاريخية و السياسية في العالم العربي و عن نشأة الأسلام و عن المسائل الدينية، و من الطبيعي أيضاً عن العلاقات الأرمنية – العربية في مختلف المجالات. لقد ترك لنا المؤرخون القدامى معلوماتٍ قيِّمةً حَوَتْها كتب التاريخ الأرمنية عن العرب كمجموعة عرقية و عن بلادهم و جغرافيتها و تاريخها و طريقة معيشتهم و قبائلهم. و بالمناسبة، كان المؤرخ الأرمني سيبيوس الذي عاش في القرن السابع الميلادي أول أجنبي _ أي غير عربي – تحدَّثَ في كتاباته عن النبي و كانت تعليقاته الأصلية تدور حول ديانة عالمية جديدة –الأسلام -.

و من ناحية أخرى، فإنه من المهم جداً عند دراسة التاريخ الأرمني أن نأخذ في الأعتبار التراث التاريخي العربي التقليدي و الذي تكوَّنَ في القرن التاسع الميلادي و ما بعده. لقد ترك لنا المؤرخون و الجغرافيون العرب معلوماتٍ قيِّمةً عن العلاقات الأرمنية – العربية، بل عن أرمينيا كبلد و عن كيانها السياسي و عن أقتصادها و ثقافتها...الخ. و نحن نعني بذلك مؤرخين عرب مشهورين مثل البلاذري، و هو مؤسس علم التاريخ العربي التقليدي، و الطبري و المسعودي و أبن العسير و المقريزي و أبو الفداء و القاضي بهاء الدين بن شداد و غيرهم، و الجغرافيين العرب مثل الأصطخري و أبن بطوطة و أبن الفقيه و أبن حوقل و المقدسي و ياقوت الحموي و غيرهم.

و هكذا يمكننا القول أن الكتابات التاريخية العربية هي الركيزة الثانية في دراسة العلاقات الأرمنية – العربية.

و خلال عصور التاريخ تُرْجِمَ العديد من المصادر العربية من اللغة العربية الى اللغة الأرمنية بواسطة مؤلفين أرمن. ترجم العالم اللغوي الأرمني الشهير هراجيا آجاريان مقتطفاتٍ من رحلات أبن بطوطة تحت عنوان "أبن بطوطة" و التي صدرت عام 1940 باللغة الأرمنية مع النص العربي. كما ترجم المستعرب الأرمني البارز هاكوب نالبانديان و نشر كتاب "المصادر العربية عن أرمينيا و الأرمن" ضمنه مقتطفات من كتاب " معجم البلدان" لياقوت الحموي، و "المختصر في أخبار البشر" لأبي الفداء، و كتاب "سيرة صلاح الدين الأيوبي" للقاضي بهاء الدين بن شداد. و ترجم الدكتور آرام دير غيفونتيان "أبن الأثير" من العربية الى الأرمنية أعتماداً على مصدرين هامين لهذا المؤرخ العربي و هما كتاب "الكامل في التاريخ" و "تاريخ دولة الأتابك". و صدر مجلَّد جديد تحت أسم "مصادر عربية" أعدَّه المؤلف نفسه. و أوردَ مقتطفاتٍ من أعمال 18 مؤرخ و جغرافي عربي من القرنين

التاسع و العاشر الميلاديين. و كان من نتيجة ترجمة هذه المصادر العربية و غيرها أن تحوَّلت من ظاهرة عربية الى ظاهرة أرمنية، الأمر الذي ساعد العلماء الأرمن كثيراً في أبحاثهم العلمية. أصبحت المصادر في أعلاه الأعمدة الرئيسة التي لا بد من الأستناد عليها عند دراسة العلاقات الأرمنية-العربية من العصور القديمة حتى سقوط الدولة الأرمنية في القرن الحادي عشر و سقوط الخلافة العربية في القرن الثالث عشر.

العلاقات الأرمنية-العربية البينية من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الرابع عشر الميلادي

تتميَّزُ العلاقات الأرمنية-العربية بوجود علاقات بين شعبيهما عندما كان لكل منهما دولته المستقلة. و تمتد هذه العلاقات عبر 15 قرنٍ من الزمن من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الرابع عشر بعد الميلاد. تأسست علاقات سياسية خلال هذا الزمن، حميمة جداً في بعض الأحيان، بين الأرمن و العرب على مستوى الدولة. و كما تدلُّ الوقائع التاريخية، بدأت تلك العلاقات من حكم الملك الأرمني ديكران الثاني الكبير حتى سقوط مملكة كيليكيا في القرن الرابع عشر.

كانت مملكة أرمينيا أيام حكم الملك ديكران الكبير (95-55 ق. م.)واحدة من أقوى دول الشرق الأوسط. و في سنوات 89-85 ق. م. هزَمَ الفرس و أجبر ملكهم على التنازل عن لقب شاهنشاه (ملك الملوك). تخلَّت ايران عن بلاد ما بين النهرين لملك أرمينيا. و كان الوضع في غاية التعقيد في سوريا حيث عمَّت البلاد فوضى سياسية حادة. و طالب كبار القوم السوريون بدعوة الملك ديكران الكبير ليحكم سوريا. و يذكر المؤرخ يوسفوس بلافيوس أن ديكران دخل سوريا على رأس جيش قوامه 300 ألف مقاتل. و لم يكتف بضمِّ شمال سوريا، بل أيضاً كيليكيا و جنوب سوريا و فينيقيا (لبنان) و معها مدن بيروت و اللاذقية و فلسطين. و أكَّدَ المؤرخ أبيانوس أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها حتى حدود مصر كانت تدين بالولاء للملك ديكران الكبير.

و تروي المصادر التاريخية أن الجيش الأرمني في عهد دكران الثاني الكبير كان يضم بين تشكيلاته العسكرية "فرقة عربية"، قاتلت معه في حروبه الدفاعية و الهجومية التي مكَّنَت دولته التوسع من البحر الأسود الى بحر قزوين، و من البحر الأبيض المتوسط حتى حدود فارس. كما كانت جيوش الملك الأرمني آردافاست بدورها تحوي بعض الكتائب العربية ضمن صفوفها.

و أكَّدَ كل تلك الحقائق باحثون عرب أمثال فؤاد حسن حافظ و مروان المدوَّر و سمير أربش و عثمان الترك و غيرهم.

و مع بداية القرن السابع الميلادي ظهرَ على ساحة التاريخ عملاق سياسي جديد هو الخلافة العربية الأسلامية. و كانت هذه نقطة تحوّلٍ ليس فقط بالنسبة لتاريخ الشعب العربي و لكن أيضاً بالنسبة للشرق الأوسط بأكمله، و للعالم كله. و لِمَ لا... فقد أدّى قيام الأمبراطورية العربية القوية الى تغيير ميزان القوى في العالم و خلقَ وضعاً جغرافياً سياسياً جديداً في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. و أثَّرَ قيام الخلافة العربية الأسلامية بشكل جذري على مصير عدد من الدول و الشعوب، و من بينهم الأرمن.

أُدْمِجَت أرمينيا في الخلافة العربية الأسلامية خلال السنوات 642-648 م، و مرة أخرى ظهر الأرمن و العرب في دولة واحدة، و لكن في هذه المرة داخل دولة عربية و كوَّنت منطقة إدارية أسمتها أرمينيا التي كانت تضم أرمينيا و جورجيا و ألبانيا القوقازية.

كانت سياسة الحكام العرب تجاه الأرمن تتسم بالحذر و أحياناً بالحكمة. فلم يتبعوا سياسة أستيعاب الأرمن و لم يضغطوا عليهم لتغيير ديانتهم المسيحية و الدخول في الأسلام. و بالطبع، كانت هذه السياسة غاية في الحكمة و مهَّدت الطريق لتعاون سياسي و عسكري بين الأرمن و العرب. و من الأمور الهامة أيضاً أن الخلافة العربية لم تلجأ الى تصفية طبقة الأمراء الأرمن، بل حافظت على حقوقهم و أمتيازاتهم و في بعض الأحيان كانت تترك لهم قواتِهِم العسكرية التي تعاونت مع القوات العسكرية العربية. و لعل هذا يفسِّر لماذا يغلب على الدراسات التاريخية الأرمنية الأعتقاد بأن الهيمنة العربية الأسلامية على أرمينيا تختلف تماماً عن الهيمنة الفارسية (قبل الأسلام و بعده)، و على الأخص عن الهيمنة التركية-العثمانية و التي أتَّسَمَت بالظلم و كانت بمثابة كارثة حقيقية على جميع

الشعوب التي وقعت تحت نير الحكم العثماني كالعرب و الأرمن و الآشوريين و اليونان و السلاف و غيرهم. يتساءل عدد من المؤرخين الأرمن إن كان إسلام العرب يختلف عن إسلام الترك.

كُتُب الأمان و المعاهدات

و لا يسعني في هذا البحث إلّا أن أذكر هذه الحادثة التاريخية المهمة.

توجَّه بطريرك الأرمن في القدس أبراهام الى مكة و أظهر شخصيته للنبي العربي و طلب منه أماناً و حماية لرهبانيات الأرمن و أوقافهم، فأعطاه العهد الآتي:

"أنا محمد بن عبد الله رسول الله تعالى أعطيتُ هذا العهد الى شعب أبراهام البطريرك و الى المطارنة و الرهبان الأرمن الذين يقيمون في القدس و وهبتُ لهم كنائسهم و دورهم و أوقافهم و أراضيهم."

و يضم شعب البطريرك أبراهام الكنائس المسيحية الأرثودوكسية الخمسة التي تؤمن بالإيمان الأرثودوكسي الشرقي الواحد و هم الأرمن و الأحباش و القبط و السريان (اليعاقبة) المعروفة في أيام الرسول (ص)، تضاف اليها كنيسة مالابار في الهند.

و صورة هذا العهد موجودة في كنيسة القديس يعقوب في القطاع الأرمني في القدس و ممهورة بخاتم الرسول العربي (ص).

و لما قرأ الخليفة عمر بن الخطاب هذا العهد وافق عليه، و ظل الأرمن يتمتعون في ظل الدولة العربية الأسلامية بالحماية الكاملة. ثم لما أسترجع صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، أصدر مرسوماً يعترف به بعهد الرسول الكريم مجدداً. و هكذا أستمرَّ الخلفاء بعد الرسول على هذا العهد في عصور خلفاء الدولة الأموية و بعدها الدولة العباسية و حتى سلاطين أل عثمان الى أن نقضه أحد سلاطينهم في نهاية القرن التاسع عشر و هو السلطان عبد الحميد الثاني.

و في عهد عمر بن الخطاب أيضا، أعطى القائد العربي سُراقة بن عمرو، الذي توغَّل في أرمينيا، كتاب الأمان الآتي الى الأرمن:

"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سراقة بن عمرو، عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شهريزار و سكان أرمينيا و الأرمن من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم و أموالهم و ملَّتهم (دينهم)...شهدَ عبد الرحمن بن ربيعة و بكير بن عبد الله و كتب مرضي بن مقرن و شهَدَ."

(الطبري، الجزء الثالث، صفحة 136.)

و في عهد معاوية أُعيد فتح أرمينيا ثانية على يد حبيب بن مسلمة و كتب كتابا جديدا للأمان هذا نصّه:

"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من لدن حبيب بن مسلمة الى المسيحيين و المنجِّمين (الصابئة آ.د.) و اليهود في مدينة دوفين (عاصمة أرمينيا آنذاك آ.د.)، و الى حاضرهم و غائبهم، كونوا آمنين فإنه لا يوجد عليكم أي تهديد على حياتكم، و لا على أموالكم، و لا على معابدكم، و لا على كنائسكم، و لا على أسوار مدينتكم. و إننا مستعدون رعاية و أحترام هذه المعاهدة طالما تدفعون الجزية عن أموالكم المنقولة.

و الله شهيد على ما أقول."

و ختم حبيب بن مسلمة هذه المعاهدة بختمه الخاص.

(تاريخ البلاذري، و ذكرها الدكتور كريكور آستارجيان (من الموصل) في كتابه القيِّم "تاريخ الأمة الأرمنية".

و في عهد الخليفة معاوية أيضاً، أدركَ القائد الأرمني ثيودور رشدوني أن الوصول الى صلحٍ دائمٍ مع العرب هو في مصلحة أرمينيا، فوقَّعَ معهم المعاهدة الآتية:

1- تعفي الدولة العربية لأرمينيا من الجزية ثلاث سنوات.

2- على الأرمن بعد مرور ثلاث سنوات أن يدفعوا الجزية للدولة العربية بدمشق قدر ما يريدون.

3- يحق لأرمينيا أن يكون لها جيش مؤلف من خمسة عشر ألف فارس ينفق عليه الأرمن من حساب الجزية.

4- لا يُدعى هذا الجيش للعمل في بلاد الشام.

5- على الجيش الأرمني كحليف للدولة العربية أن يحارب الى جانبها ضد الأعتداء عليها من الخارج.

6- إن الجيش الأرمني يكون صاحباً لقلاعه ضد أي تدخُّل أجنبي.

7- إن الدولة العربية تتعهد حماية أرمينيا و حدودها ضد هجمات العدو و بنوع خاص ضد هجمات الروم.

و عندما نمى الى أمبراطور بيزنطة هرقل نبأ هذه المعاهدة، أشتد غضبه و طلب من الأمير الأرمني الرجوع عنها. الأ أن هذا الأخير رفض ذلك، مما دفع بالأمبراطور المذكور الى تسيير جيوشه نحو أرمينيا. و جاء رد معاوية سريعاً فأرسل جيشاً من 10000 جندي أنضمَّ الى القوات الأرمنية و هاجما معاً الحاميات البيزنطية التي تركها هرقل و رجع الى بلاده حيث كانت الأضطرابات تندلع.

و عندما علِمَ معاوية بأمر هذا الأنتصار، دعى الأمير رشدوني الى عاصمة الخلافة دمشق، الذي سافر اليها و دخلها بموكب رسمي حافل كان على رأس مستقبليه كبار القواد العسكريين و رجال الدين المسلمين.

و هنالك حالاات مشابهة في عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز و كذلك المعتصم و المتوكل ذكرها الطبري.

و لقد شغل الأرمن مناصب مرموقة في عهد الدولة الفاطمية في مصر (909-1171 م)، و من بين هؤلاء القائد و الوزير بدر الدين الجمالي الأرمني الأصل. كان في بادئ الأمر قائداً على دمشق ثم عُيِّن والياً على عكا و قائداً عاماً للبحرية المصرية. أستدعاه الخليفة المستنصر الى القاهرة لإنهاء حالة الفوضى و الأضطراب في دولة الخلافة. و يقول المؤرخ العربي أبن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"، أنه لما ضعفت قوة المستنصر و حلَت بالبلاد حالة من الفوضى، أمر باستدعاء بدر الدين الجمالي من دمشق، فحضر الى القاهرة بقواته عام 1074م و أستعاد النظام و الهدوء في ربوعها، و أصبح بعد ذلك وزيراً للخليفة الفاطمي و أميراً للجيوش و كبير القضاة، و من بعده أبنه الأفضل.

سأكتفي بهذا القدر من الوقائع التاريخية للعلاقات الأرمنية-العربية التي تناولتها مئات البحوث و الكتب و المصادر.

للبحث صلة في المقالة القادمة.

المصادر:

1- ملخص للمحاضرة التي ألقاها الأستاذ نيكولاي أوهانيسيان في مركز الدراسات الأرمنية في جامعة القاهرة 2007:

2- مروان المدوَّر، "الأرمن عبر التاريخ"، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

3- الدكتور : ك. آستارجيان، "تاريخ الأمة الأرمنية".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع