عوني القلمجي
خائب من يراهن على حرب امريكية ضد ايران
منذ عدة اسابيع والحديث عن حرب تجهز لها امريكا ضد ايران لم يتوقف ساعة واحدة، ليس في اوساط الفئات السياسية، او المعنيين بالشان العراقي فحسب، وانما شمل عامة الناس. في حين ذهب البعض بخيالاته ابعد من ذلك، واعتبر الحرب اتية لا ريب فيها، وحدد هدفها وهو طرد ايران من العراق وتدمير ركائزها وانهاء نفوذها السياسي وتحجيم احزابها وحل الميليشيات المسلحة المرتبطة بها، والاتيان بحكومة "وطنية" تاخذ على عاتقها بناء العراق وعودته كدولة مستقلة وموحدة. وكل هذا الخيال الواسع قد ولدته تصريحات الرئيس الامريكي دونالد ترامب، التي توعد بها ملالي طهران بالويل والثبور، والتي ترافق معها بعض التحركات العسكرية الامريكية في عدد من المدن العراقية، في الرمادي والموصل واربيل والفلوجة وغيرها، وتعزيز القوات الامريكية الموجودة اصلا في عدد من القواعد العسكرية المنتشرة في انحاء متفرقة من البلاد.
اطرق هذا الباب ليس بسبب الرغبة في المشاركة في هذه الاحاديث والتوقعات، او الادلاء بدلوي كما يقال، او لثبيت وجهة نظري حول امكانية نشوب هذه الحرب، سواء كانت محدودة او واسعة، حيث جرى تدوال مثل هذا الجدل مرات عديدة، ثم ينتهي كالعادة دون اطلاق رصاصة واحدة، ويعود ملالي طهران والشيطان الاكبر اصدقاء واحبة، وانما اطرق هذا الباب بسبب الاوهام التي تسربت الى عقول الكثيرين حول جدية الادارة الامريكية ورئيسها المثير للجدل دونالد ترامب، لوضع حد للتمدد الايراني في العراق من جهة، وتفكيك مليشياتها المسلحة من جهة اخرى، لتنتهي الى الدعوة لتاييد او قبول هذا التوجه الامريكي او غض النظر عنه، تحت ذريعة جاهزة تقول "عدو عدوي صديقي". الامر الذي سيؤدي على الارجح، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، الى التخلي عن طريق الخلاص الحقيقي من الاحتلالين الامريكي والايراني، والمتمثل على وجه التحديد بالانتفاضات الشعبية التي لم تخمد نيرانها بعد، خاصة في مدن العراق الجنوبية وضياع فرصة تطورها الى ثورة شعبية ذات طابع سياسي وطني شامل تتعدى المطالب الحياتية والخدمية الى المطالبة برحيل الاحتلال والحكومة معا، لتتمكن الحكومة الوطنية القادمة من رحم الانتفاضة من استعادة استقلال العراق ووحدته كدولة ومجتمعا.
اصل هذه الحكاية ذات المضمون الحربي، وما يتصل بها من اثارة وتشويق، التي هي اشبه بحكايات جدتي قبل النوم، ترجع في حقيقتها الى التقديرات الخاطئة للرئيس الامريكي السابق باراك اوباما حول المعادلة التي استند اليها سلفه بوش الابن لادارة مشروع الاحتلال الغادر، والمتمثلة بركيزتين اساسيتين ترتبطان بعلاقة عكسية، احداهما عسكري والاخرى سياسي، فكلما قوي جانب قل الاعتماد على الجانب الاخر. فحين قرر اوباما سحب معظم قواته البرية من العراق زاد اعتماده على الجانب السياسي، وذلك من خلال تدعيم وتمتين العملية السياسية والتحكم باليتها وادارتها وتوجيه قيادتها بما يخدم مشروع الاحتلال الامريكي، مقابل منح ايران مكتسبات مهمة في العراق، سياسية واقتصادية ومذهبية، وغض النظر عن تدخلاتها في العديد من الاقطار العربية، لتنتهي باقرار مشروع ايران النووي من خلال اتفاق مكتوب شهدت عليه اربع دول اوربية كبيرة. ويبدو ان الجهد الذي بذله اوباما بهذا الخصوص لم يات ثماره، فهولم يفشل في مسعاه في تمتين وتقوية العملية السياسية، وضم القوى الوطنية المناهضة للاحتلال الى مستنقعها فحسب، وانما فشل ايضا في الحفاظ على وحدة الاطراف المنضوية تحت لوائها، بسبب الخلافات حول المكاسب وتقاسم الغنائم، لينتهي هذا الفشل بفوز احزاب ايران بحصة الاسد في العملية السياسية وتهميشها لما يسمى بالمكونات الاخرى وتحصين هذه الاحزاب بزيادة عدة وعديد الميليشيات المسلحة، لتصبح فيما بعد القوة الاولى في العراق، على حساب الجيش العراقي او التشكيلات العسكرية الاخرى.
ولو توقف ذلك عند هذا الحد لهان الامر، لكن هذا الفشل بالسيطرة على العراق عبر ركيزته السياسية، فسح المجال امام ملالي طهران للتمدد اكثر واكثر في كل مرافق ومؤسسات الدولة العراقية وتوظيفها لصالحهم ، بل راح ملالي طهران، بعد ان خلو الى شياطينهم ثم استخاروا، يحثون الخطى لنزع العراق من ايدي الامريكان، اعتقادا منهم بعدم قدرة ترامب على التمرد على قرار سلفه اوباما برفض اية عودة للقوات الامريكية الى العراق خشية الوقوع في جحيمه مرة ثانية، خاصة وان قرار اوباما بالانسحاب قد لاقى الاستحسان والقبول لدى الشعب الامريكي، الذي رفض على الدوام التضحية بابنائه من اجل النفط اوالدولار. ناهيك عن حساباتهم التي توصلت الى ان القوات العسكرية الامريكية المتبقية في العراق لا تقارن بقوة ايران المتمثلة بالمليشيات المسلحة، مثل فيلق بدر وعصائب اهل الحق والنجباء وحزب الله العراقي وابو فضل العباس وغيرها، اضافة الى امكانية احزابها الحاكمة بتوظيف الجيش العراقي وباقي التشكيلات العسكرية لصالحها، وكذلك توظيف المراجع الدينية، لما لها من تاثير في اوساط وفئات من العراقيين للوقوف الى جانب ايران، عبر اصدار فتاوى بالجهاد لمقاومة القوات الامريكية التي تسعى لهدم الجمهورية الاسلامية.
امام هذا الوضع الجديد اضطر ترامب الى ضرورة التحرك بكل الوسائل السياسية لتاديب حليفها ايران واعادة ملالي طهران الى رشدهم والتخلي عن شياطينهم. وكان في مقدمة هذه الوسائل التهديد باستخدام القوة العسكرية التي اصبحت جاهزة للفعل، سواء في ضرب مناطق او مدن في ايران او ضرب مقرات وامكان تواجد قيادات المليشيات المسلحة في العراق. حيث اعتبر ترامب هذا التهديد العسكري، وهو محق في ذلك، كافيا لاجبار الملالي على الالتزام بالاملاءات الامريكية، والقبول بالمكتسبات السياسية والتجارية التي حصلت عليها مقابل تعاونها مع امريكا لاحتلال العراق. فهؤلاء الملالي يعلمون علم اليقين بقوة امريكا وجبروتها والتها العسكرية القادرة على تدمير طهران في ظرف ساعات دون الدخول في شبر واحد في الاراضي الايرانية، اي تدميرها بصواريخ من الجو ومن الارض ومن البحر ومن مناطق بعيدة. مثلما اعتبر بان المليشيات المسلحة في العراق لا تشكل خطرا على جنوده في العراق، كونها تدخل ضمن السيطرة الايرانية. بمعنى اخر اكثر وضوحا، فاذا شعر ملالي طهران بجدية امريكا بشن حرب ضدهم، فانهم سيركعوا امام العصا الامريكي ويقبلوا بكل شروطها واملاءاتها وكفى الكفار شر القتال وتعود الامور الى مجاريها. وهذا بدوره سيؤدي الى ركوع قادة المليشيات تحت ذريعة حماية الجمهورية الاسلامية من السقوط. ومن يعتقد بان هذه الميليشيات المسلحة والاحزاب المرتبطة بايران قادرة على التمرد، او تعصي امرا لصاحب العصمة الولي الفقيه لهو في ضلال مبين.
لقد احتلت امريكا العراق بهدف واحد هو تدميره دولة ومجتمعا، و"امريكا لا تذهب للصيد الا وكلابها معها". هذا ما قاله الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وايران قبلت، قبل رحلة الصيد الى العراق، ان تكون بهذا الموقع، مثلها كمثل العديد من دول العالم والتي تجاوز عددها العشرات، مقابل حصولها على مكاسب هامة، سياسية وتجارية ومذهبية، عجزت عن تحقيقها طيلة العقود الماضية، وبالتالي فهي غير مستعدة للتفريط بها والدخول في حرب خاسرة ضد اقوى دولة عسكرية في العالم. وهناك من الادلة الكثير التي تؤكد على هذا التعاون المتين بين امريكا وايران. منها على سبيل المثال لا الحصر، اعترافات لشخصيات امريكية مثل ادوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية الامريكية الاسبق لشؤون الشرق الأدنى وافريقيا، ومن الباحثين السياسيين، جون سبوزتو وستيفن زوترو ومن الكتاب ذوي الصلة الوثيقة بالامريكان الكاتب السياسي اللبناني الامريكي الفارسي الاصل فؤاد عجمي، ومن العراقيين احمد الجلبي وكنعان مكية وليث كبة ورند الرحيم، وغيرهم الكثير. وكلهم اكدوا على قيام تفاهم بين امريكا وايران بشان العراق منذ سنة 1991. وتعزز ذلك التفاهم طيلة فترة الحصار، وبعد احداث ايلول عام 2001 اصبح شبه مكتوب. وبالتالي فليس من مصلحة اي عراقي نصرة هذا الطرف على ذاك، فكلاهما عدو للشعب العراقي، واذا اختلفت امريكا وايران على اية مشكلة، صغيرة كانت او كبيرة، فانهما يتفقان تماما حول مخطط تدمير العراق بالكامل. وبالتالي، فطريق الخلاص لا ياتي عن طريق هؤلاء، وانما هو بيد الشعب العراقي، وعن طريق الانتفاضات الشعبية بكل اشكالها، بما فيها الانتفاضة المسلحة، واذا كان هناك من لم يدرك هذه الحقيقة بعد، فان الوقائع العنيدة ستجبره على قبولها عاجلا ام اجلا. اما اذا حدث وقامت الحرب خلافا لما ذهبنا اليه، فليس امامنا الا التمسك بالدعاء "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين واخرجنا من بينهم، نحن اهل العراق، سالمين.
عوني القلمجي
30/1/2019
832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع