حنين بغدادي إلى بغداد

                                              

                       الدكتور محمد محروس المدرس

الحمد لله الحنَّان ، المُغدِق المنَّان ، الكثير الإحسان ، القائل في محكم القرآن : الحمد لله الحنَّان ، المُغدِق المنَّان ، الكثير الإحسان ، القائل في محكم القرآن : { وقل ربِّ أنزلني مُنزلاً مباركاً وأنت خير المُنزلين } المؤمنون / 29 .

 والصلاة والسلام نبيِّ ربِّ العالمين ، الذي خاطب مكَّة المكرمة موطنه الأصلي عند الفتح بقوله : { إنَّك والله أحبُّ بلاد الله إليَّ ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني ما خرجت } . وعلى آله وصحبه ، وسلَّم تسليماً كثيرا .
وبعد
 فإنَّ البغدادي الذي أكثر من الحنين إلى بغداد ، هو الإمام السيِّد أبو الثناء محمود شهاب الدين بن السيِّد عبد الله الحسيني الآلوسي البغدادي الحنفي ، مفتي الحنفيَّة ببغداد المحميَّة .
    ولد أبو الثناء [ روَّح الله روحه ] ببغداد ، وقت الظهيرة من يوم الجمعة في منتصف شعبان من سنة 1217 هـ ، في بيت علمٍ وسيادةٍ ، فأبوه العلاَّمة السيِّد عبد الله الآلوسي البغدادي هو المدرس في مدرسة الإمام الأعظم ، والهمام الأقدم ، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، جوزي عن دين المصطفى خيراً وكوفي . وهي أقدم مدرسةٍ منظمةٍ في بغداد ، ما زال التدريس قائماً فيها ، وتليها في القدم مع استمرار التدريس [ المدرسة الوفائيَّة ] التي نحن فيها الآن . لقد خرَّب الإحتلال الفارسي لبغداد : المعاهد العلميَّة ، والمدارس الدينيَّة ، ومراقد العلماء ومشايخ السادات الصوفيَّة .. فكان من حسن جَدِّ جدِّنا العلاَّمة القطب الشيخ مصطفى العلقبند الأعظمي البغدادي ، مفتي الحنفيَّة ببغداد المحميَّة ، المتوفى في حدود [ سنة    1165 هـ ] أن يُعيد التدريسات في المدرسة الأعظميَّة ، وبعدها قام بإحياء المدرسة الوفائيَّة الدينيَّة التي أوقفتها صاحبة المبرات والخيرات [ وفا خاتون ] في حدود سنة [ 800 هـ ] ، ولكون موقوفاتها قد اغتصبها الغاصبون ، فقد أوقف عليها من خالص ماله ، وانتصب للتولية والتدريس فيها ، وأنشأ مكتبةً ، وتكيةً للطريقة [ العلاقه بنديَّة ] التي أسسها هو ، ووضع أورادها وأذكارها ، وكان المريدون يُراجعون عم والدنا العلاَّمة الشيخ محمـد سعيد العلقبند ، والمتوفى سنـة [ 1924 م ] ، ولم ينهض بأعبائها بعده مقتدرٌ ، ولعل الله U يُهيء لنا إعادة الرسوم ، إلى سابق عهدها بإذنه U .
     لقد تهيأ لأبي الثناء تولي المناصب الدينيَّة الرفيعة ، وعلى رأسها الإفتاء ، ثم عزل منه لأسبابٍ يطول شرحها ، فقصد [ الإستانة ] لعرض مظلمته ، وألَّف كتابين دوّن فيهما أخبار سفره في الذهاب والإياب ، أردفهما بثالث جمع فيه بينهما ، مع الإضافات ..
أمَّا الكتاب الأوَّل فهو : نشوة الشَمول في السفر إلى إسلامبول .
والثاني هو : نشوة المدام في العودة إلى دار السلام .أمَّا الجامع فهو : غرائب الإغتراب ، أو نزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب .
وبعد عودته إلى بغداد بأشهرٍ ، توفي فيها سنة [ 1270 هـ ] ، ودُفن في مقبرة العارف بالله الشيخ معروف الكرخي ، وما زال قبَره ظاهرٌ يُزار ، وإن كان يحتاج إلى العناية من المعنيين ، لما يُمثِّلُه هذا العلم العيلم من معاني جمَّةٍ ، لعلَّ الفرصة تتهيءُ للكلام في أثره وآثاره إن شاء الله تعالى .
وبعجالة يقتضيها المقام ، نورد بعض النصوص من أخبار سفرته ، وما فيها من حنين إلى بغداد ، وقد يُقارن في كثيرٍ من الأحيان بينها وبين المدن والحواضر التي يمرُّ بها ، ويُفضِّلُها على كلِّ البقيَّة ـ ما خلا استانبول ـ ، .. يقول الإمام الآلـوسي [ روَّح الله روحه ] في المقارنة بين العادات العربيَّة في الضيافة ، وجزع أهل تلك البلاد منها .. ما يأتي :
 [ .. فاستأجرت حجرتين هما من أوسط الحُجر ، واخترتهما لي منزلاً ، حيث لم أرَ في البلد لرعاية الضيوف متاَهِلاً ، وقد رأيت كثيراً من سكان هاتيك البلاد يفزع من الضيف ، ويجزع من إلمامه به ولو كان ذاك بالطيف ، ومن هذا القبيل في العرب أقلُّ قليل ، ولعلَّ ذلك من الضروريَّات ، فلا ضرورة بنا لنقل الشواهد والحكايات ..] نشوة الشمول /6 .
 ويُقارن بين الأخلاق والعادات ، ويمتدح العراق وأهله ، فيقول :
[ .. وبعد أن استقرَّ بي المقام ، ذهبت لإزالة الدَرَن إلى الحمَّام ، فرأيت دلاَّكيه ظباء ، إلاَّ أنَّها [ أوانس ] ، وغواني غير أنَّها لا ترُدُ يدَ لامس ! ، لم أرَ مثلهم في حمَّامات دار الخلافة ، مع أنَّ دلاكيها قد ارتدَوْا الحسن ، واتَّزروا بالظرافة ، فهوى أحدُهُم لي وأخذ بيده يُمنى يدي ، .. ، وأعظمت ذاك ديانتي وغيرتي ، وجعلت أسأل الله العصمة ، … ، فأين هذا من الدلاكين في حمَّامات العراق ، الذين تقطر لحاهم البيض عرقاً أسود أنتن ..] 6 إلى 7 .
ثم يقول معبِّراً عن تعلُّقِهِ بكلِّ ما يتعلَّق بالعراق : [ .. ثم سرنا في أرضٍ هي بالنسبة لضلوع جبال ما قبلها راحةٌ ، إلاً أنَّ سبوُحي من فرط الحرِّ غدا له في مُنهمَر العرق سباحةً ، ولم تزل تسير حتى اعترضتنا قبيل المعدن جبالٌ ، فجعلنا نمشي منها على مناطق تحكي بعُرضها وانحنائها أعـناق الجمال ، واصفرَّ من الخوف وجهُ جوادي الأزرق ، فغدا يهمهم فنزلت أقوده ، ، وقد احمرَّ من الخجل وجهي الأبيض ، وطفقت أنادي .. ربِّ سلِّم سلِّم ، وريثما قطعنا بالتوفيق هاتيك العقبات ، ووصلنا ـ ولله تعالى الحمد ـ إلى خانٍ على سِيفِ نهر [ الفرات ] ، ومذ شاهدت ذلك النهر ، انهلَّ سائل دمعي على عيشٍ حلالٍ في العراقِ ومرْ ، ثم حمَّلتُهُ السلامَ على وادْ ، وأن يقول له : هل رأيت مَنْ ركب الفساد فساد ؟ ، وأوصيتُهُ أنْ يُسِرَّ إليه إذا اعتذر ، بما أنا أدرى به وأخْبَرْ ، أُبَشِّرُ بقرب الفرج ، حيث سَدَّت الشدَّةُ جميع الفُرَجْْ ، ولم يبقَ إلاَّ فُرْجة بابِ رحمةِ ذلك المتعال ، وإنَّها ـ وجلاله ـ تسع الجمل والجمَّال ، ورجوتُ منه رجاء الأخِ من الأخْ ، أنْ يُقبِّل عنِّي بفمِ صقلاويتِهِ أرجاء الكرخ ! ، وإنْ رأى قد خيَّم عندها طيِّبَ الخِيَمِِ السيّد [ أحمد أفندي ] يُعالج سدَّها ، فليقل له إنَّ العراقيَّ [ أبا الثناء ] يُقـريك يا [ أبـا رشيد ] من أقاصي بلاد الـروم الدعـاء ! ، ، و [ عبرت ]..... ]
 ثمَّ يقول : [ ..وعندما أبان الفجرُ أبيضَ خيطهِ ، ورفع يَدَهُ ليُثيرَ جمل الليل الأسود بسوطهِ ، قمنا على العادة ، فأدَّيْنا ما وجب من العبادة ، وعلى الأثر سرنا الهوينا ، ولو كان الأعمش فينا لقال سريْنا ، وأدَّيْتُ على ظهر سَبُوحي ، ما ألِفْتَهُ من تهليـلي وتسبيحي ، وأعانني على إكمال أورادي ، كمالُ أُمنيتي مِنْ عِثار جوادي ، وسرنا على أرضٍ كما أرض [ الزوراء ] مستويه ، ولولا ما ذُقْتُهُ من شدَّةِ البرد فيها لقلت : هي هيه ! ، فلقد عرتني هناك هِزَّةٌ من مزيد القرْ ، [ كما انتفض العُصفور بلله القَطْرْ ] … ].
ثم يقول مقارناً بما في العراق ، بما يراه ويسمعهُ : [ .. والمياه في هاتيك النواحي كثيرةٌ كثرةَ روضِها ، ولم نسمع بالفقر الذي يأخذهُ ربُّ الأرض من زارعها بالعراق غير أرضها ! ، لكنَّه بالعراق مختلفٌ المقدار ، وهو نصف الخارج في تلك الديار ، ولما سمعتُ بذاك هناك ، عجبت غاية العجب أجلَّةِ الأتراك حيثُ أنَّهم يستغربونه في الأراضي العراقيَّةِ ، ولا يتَعقَّل عريقهم في الفهم مشروعيَّتهُ فيها بالكليَّة …].
ثم يقول : [ .. وكان رسولُه إلىّْ، أعزُّ الأحباب لديْ ، مِنْ فكاهته غذاء الأرواح ، ومزاجُهُ مزاجُ خندريس الأفراح ، ذا الأخلاق العِطْريَّةِ النديَّةِ ، الحافظ الحاج [ عبد الله أفندي ] إمام الشافعيَّة ، فذَكَّرني جمعيَّةً في مدينة السلام حلَّت ومرَّت فكأنَّها لا درَّ درُّ الزمان أحلام ، وأعظم من ذلك مُذَكِّرٌ إلى ما كان هنالك دعـوة الوزير لي ـ أعلى اللهُ مجله ـ ، في خيمةٍ مُدَّت أطنابُها على شاطيء نهر دجله ، قرب رياضٍ أريضه ، وأمام بيداء طويلةٍ عريضه ، فكدتُ ـ لمَّا شاهدتُ ذلك ـ أقول بالاتِّحاد ، لولا ما في مدينة السلام مِنْ معنىً لا يكتَنِهَهُ الفؤاد ،
مرَّ بحَزْوى فتَّمَ عالَمُ لُطْفهِ        مِنْ بقايا أجساده الأرواحُ
…].
 ثم قال : [ .. ولمَّا طَعِمْنا ، شكرنا ربَّ البيت وقمنا ، ولأذان المغربِ في الآذانِ ترجيع ، ولجواهر الإجابةِ في صُحُف الساعين إلى المساجد ترصيع ، ..وكان ـ سلَّمه الله ـ يجعلُ ليلي بشمس طلعتهِ نهارا ، ويُحْيي ميَّتَ أنْسي بلطائفَ مسامرةٍ لا تتكلفُ لها استغفارا ، فأخالُ أنَّ زماننا بالزوراء عاد بلا تلبيس ، وأنَّ سطحَ داري الذي كنَّا نتسامرُ عليه أُتِيَ به كعرش [ بلقيس ] ! ، وإنِّي لأقسم { بالشفق والليل وما وسق } إنَّ هذا النجيب داوى علل غربتي ، وقام في [ ديارِ بكرٍ ] مقام زيدٍ وعمروٍ من أُسرتي ، ولولاه لضاقت هاتيك الرحاب ، ولسُدَّت في وجهي المسرَّةَ أيدي الغموم كلَّ باب ، فقد شممتُ من [ نجدٍ ] نشر الشيح والخُزام ، وشممتُ من مطالع العراق بُروقَ مدينة السلام ..
وأبْرحُ ما يكونُ الوجدُ يوماً            إذا دَنَتْ الخيامُ منَ الخيامِ
وبعد أنْ انتصف الليل ، جادت أوديةُ السُحُب بأفعمِ سيل ، وكنَّا في الليلة التاسعةِ من أيلول ، وذلك مما تقشعِرُّ منهُ جلودُ أراضي العراق وتمُجُّهُ منها أسماع القبول ، وطفحت دجلةُ على ما في شاطئِها منَ الخُضَرْ ، ولم يجْرِ في سواقي المسامع سوى ذلك من الضرر ، واتَّخذَ السيلُ بالسلامِ على أهلِ مدينة السلامِ رسولا ! ، وتمنَّيْتُ لو { اتَّخذتُ مع الرسولِ سبيلا } .. [ وأنشأ من نظمه ] :
ولم تزل العُشَّاقُ تتَّخذُ الهوى             رسـولاً بإبلاغِ السلامِ خليـلا
وإنِّي اتَّخذتُ الماء يُبْلِغُ جيرتي             إذا ما جرى عنّيِ السلامُ جزيلا
 وحَمَّلْتُهُ من نار شوقي إليهمو             ولاعِجُ أشجانِ الفراق حُمـولا
فعن حَمْلِها يعيى النسيمُ لأنَّهُ              يهبُّ بهاتيك الطلول عليلا ! ]
ثم يقول :
 [.. ولمَّا كان اليوم الثالث من العيد ، أعاد الله تعالى أمثاله على العبد بعيشٍ حميد ، دعانا روضُ الكمال ، وغوثُ الصريخِ وغيثُ الإفضال ، .. فخرجنا مع الوزير بجماعةٍ من خواصِّ دائرته وعصابته ، من رؤوس أهل ولايته ، تحلو رؤيتُهُم للعين ، وتجلو منادمتهم عن القلب الغين ، فجئنا إلى خيامٍ يترددُ فيها النسيم ، فما يدري أيرتحلُ عنها أم يُقيم ؟! ، { فيها سُررٌ مفروشة ونمارق مصفوفة وزرابيُّ مبثوثة } وقد نُصبت في فضاء [ وادٍ ] يسعُ [زَبيداً] بـ [ واديها ] !. ، ويزري للطافة هواهُ ، وطيبِ ثراهُ ، بأرض الهنديَّةِ وبواديها ! ، وبطرفٍ منه يجري نهر دحلة ، ويحثُّ السير شوقاً أنْ يرى بطرفهِ العراقَ وأهله ، وهو بلونه وامتداده يحكي المجرَّة ، وعلى شاطئيه خُضَرٌ يحكي بِطِيخُها النجوم صفةً وكثرة ، فوربِّ { السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } إنِّي لم أرَ في العراق نحوَ ذلك المُقام ، نعم إنَّ الخيام إذا حُقِّقت تشبه الخيام .. ] .
ثم يقول : [ .. وقد تزاورنا في ثاني يوم قدومه من شهر زور ، والقادم ـ كما يُقال من قديمٍ ـ يُزارُ ويزور ، وتفاوضنا في أحاديث العراق ، وأسرار ما نُمِّق في صفايح براريه من صحائف الشقاق ، وسألتُهُ عمَّا ينجع في علاجه ، وينفع في تقويم أوْدِهِ واعوجاجه ، ويُفعم بالأمن واديه ، ويُرغمُ أنفُ الخوف في بواديه ، ….
وفي السابع عشر من هذا الشهر ، عاد إلىَّ العيد بحالٍ حال وطالع سعيد ، حيث وردني من قرة عيني ، وجلاء ريني وغيني ، بل قلبي الذي ظهر لي ولداً ، وروحي الذي اكتسب من عناصره جَدَّاً ، جنَّة خُلدي السيِّد [ عبد الله أفندي ] حفظه الله مما يكره ، ووقاه في مرقاة جلَّ شأنه مَكْره ، وعندما رأيته لثمته بشفاه الجفون ، وكحَّلتُ بسواد حروفه العُيُون ، ونثرت دموع المسرَّةِ ، لما شاهدت كنثري نثره ، وكدت ـ ولا جناح ـ بجناج الأفراح أطير ، امَّا رأيت التحرير يُشبِه التحرير ،فلله درُّهُ من ولدٍ ما ظلم ، والحمد لله عزَّ وجلَّ أن أراني ما تفرَّست فيه قبل أن يعرف ما القلم ، وقد أُحبِيتُ أن أزيد تشوُّقي بعناق غواني كلامه ، وأُدِّير على قلمي مترعات كاسات مُدامه ..ومع هذا فأنا شاكر جذلٌ في كلِّ ما يأتيني من العراق :
أهيم بآثر العراق وذكره              وتغدو عُيُوني في مسرَّتها عبرى
وألثمُ أخفافاً وطِئنَ تُرابه                وأُكحل أجفاناً بتربته العطرى
وأسهر أرعى في الدياجي كواكباً       تمرُّ إذا سارت على ساكني الزورا
وانشقُ ريح الشرق عند هُبُبها         أُداوي بها يا ميُّ مهجتيَ الحرَّا
وأسأل ربِّي بالنبِّي وآله              يُرينيَ من سكانه غُرراً غرا
هنالك تصفو يا أُسيم مشاربي        وتضحى رياشي بعد أن صوَّحت خُضرا
وفي ليلة العشرين بينا أنا في مجلس الوزير الرزين ، ملأت كأس سمعي نغممةً عراقيَّةً ، ولولا ما يُقال لقلت نغمةً إلهيَّةً ، ما نغمة [ معْبَد ] بالنسبة إليها إلاَّ صريرُ بابٍ ، وما لحن [ الجرادتين ] بالقياس عليها إلاَّ طنين ذباب ، ولو سمعها بأُذني [ اسحق ] لصبا ، ولا صبوةُ العُشَّاق إلى العراق ، ..
ثمَّ يقول مقارناً ـ ولا مقارنةَ له إلاَّ بالعراق ومن فيه ـ : [ .. إلاَّ بين أعيانها نحو ما بين أعيان الزوراء من التباغض والتحاسد والشحناء ، ومعظمم عظماء البلاد كذلك ، وما أقبح ذلك الشأن …
ويصف [ آمُد ] ، وهي إحـدى المدن التي مرَّ بها ، وبعد الإسترسال بالوصف ، نراه يشبِّهُ عرصاتها بما في العراق ، يقول : [ .. وله ستة أبواب ، منها الجديد ، ومنها ما مرَّت عليه أحقاب ، ويُحيط بأرضٍ كثُلثي الكرخ ، ولا أقول تمُدُّ له كلُّهُ ، وإن قيل أنَّها مشتملةً على ستٍ وخمسين محلَّةً ، لصِغر المحَّال ـ كما يُقال ـ .. وسبَّب تغيُّر الهواء ـ بزعم ساكنيها ـ ، مزيد تعفُّنٍ في أرجائها مما فيها فترى أحيائها مياهاً أنتن من صديد الأموات ، وأوحالها تغيَّرت أحوالها مما جرى على رأسها من القاذورات ، وفي طرُقاتهاُ أيضاً ما يجري على نحو هذا الطريق ، ويسري برفيق من الجيَفِ أمامه ألف فريق ، وكذا يزعمون ارتفاع السور ، أحد أسباب تلك الأمور …وعلى العلاَّت ، وجميع الحالات ، إذا وُزِنَت بأرض [ الزوراء ] كان الفرق [ تغارات !]
أرضٌ إذا مرَّت بها ريحُ الصبا            حملت من الأرجاء مسكاً أذفرا
لا تسمعنَّ حديث أرضٍ بعدها           يروي فكلُّ الصيد في جوف الفرا
فارقتها لا عن رضىً وهجرتها              لا عن قلىً ورحلتُ لا متخيِّرا
لكنَّها ضاقت عليَّ برحبها                لمَّا رأيتُ بها الزمانُ تنكَّرا
واضطرنِّي فيها حقوقٌ للعلى               نحوي بغيرِ أدائها لن أُعذرا
 فرحلتُ أطلُبُ مُخْرِجاً لأدائها            والحمد للمولى على ما يسَّرا   
[ النشوة ـ 64 ] .
 ثم يقول [ رح ] : [ .. وفي اليوم السابع والعشرين دعاني الإمام الشافعيِّ ، إلى حمَّامٍ يقولُ داخلُهُ ـ إذا لم يتَّقِ ـ هذا الشافي العيِّ ، فخلعتُ ثوبَ دَرَنٍ ألبسنيهِ إهمالي تعهَّد البدن ، لاشتغالي عن نفسي بحبِّ الوطن ، واشتغالي بنيران الهمِّ والحَزَنْ …] ص 65 .
 ثمَّ يقول [ .. على أن أعود فأقول .. إنَّ فقد الحمَّام اللطيف لا يُنقصُ شرف البلد ، كفقه جملةِ حملةِ العلم الشريف ،فبغداد ـ وإن لم يكن فيها ذلك الحمَّام ـ إلاَّ أنَّ فيها ـ والحمد لله ـ إمام همَّام ، وطالبٌ هُمام ، قد تزَيَّنَ بفرائد فوائدهم جيِدِ العصرِ وانتشى ، لكون بما عصروهُ من كَرْمِ أذهانهِم الكريمة أحسنَ عصر ، لا يُدرك الواصف المُطري خصائصَهُم ، وإن يكن سابقاً في كلِّ ما وصفا ، [ وديار بكرٍ ] ـ ووا أسفي ـ عليها اليوم قد خلت ، ، وارتحلت عن مثل أولئك القوم ، …. ] ص 66 .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع